خاضت النساء معارك الحياة جنبًا إلى جنب مع الرجل. شاركن في رفع السلاح في وجه المستعمر في كل من تونس والجزائر والمغرب. سكنت في قلب الميدان في ثورة يناير في مصر حتى نهشهن الرصاص. كتبن القصائد وتغنّين بالمقاومة، واستشهدن دفاعًا عن الوطن والعلم والأرض. حافظن على النطف، ومنحن للأبطال القابعين في سجون الاحتلال أملًا ينبض في أجساد رضّعٍ.

سلامًا لهنّ أين حللن وأين ذهبن. سلامًا لأرواح من رحلن وغادرنا ولأحلام من هنّ بيننا. سلامي ونصّي لهنّ حتّى لا تنساهن الذاكرة ولا يُهمّشهنّ التاريخ.

الفدائية الفلسطينية «دلال المغربي»

حملت
النساء بلدانهنّ وقضاياهنّ بين ضلوعهنّ وفي قلوبهنّ، وحلمن بتحريرها ولو كان الثمن
أرواحهنّ، ودلال المغربي التي يعيش اسمها اليوم في أجساد الآلاف من «دلال» في كل
الربوع العربية، واحدة منهنّ.

لا نريد قتلكم. نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنُخلّص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر. نحن شعب يطالب بحقّه في وطنه الذي سرقتموه.


هذا ما توجّهت به

القائدة
الفدائية الكبيرة دلال المغربي للجنود الصهاينة، ممّن كانوا يركبون الباص المتجّه
نحو تل أبيب، والذي نجحت في السيطرة عليه مع عشرة أبطال فدائيين آخرين مثّلوا معًا
فرقة «دير ياسين».

كانت
هذه المناضلة القوية -ذات الوجه الصبوح والعشرين ربيعًا- يومها رئيسةً للعمليّة
التي سُمّيت بالنسبة للفلسطينيين بعمليّة «كمال العدوان»، نسبة إلى القيادي في صفوف
حركة فتح والمسئول عن الإعلام ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، والذي اغتاله الكيان
المغتصب في العاشر من إبريل/نيسان 1973، أما بالنسبة للمحتلّ، فقد كان يُسميها
مجزرة الطريق الساحلي، كما لو كان منذ دخوله للأراضي الفلسطينية إلى اليوم يرمي
علينا الورود والقُبَلَ.

نظّم
هذه العمليّة -التي تقرّرت يوم 11 إبريل/نيسان 1978- خليل الوزير، الذي
قد يحلو لك أن تُناديه «أبو جهاد» أو حتى «أمير الشهداء»، فهو الأمير والجهاد
والقوّة ورباطة الجأش متجسدة في ذات بشرية، وكانت الغاية منها التفاوض بالرهائن مع
إسرائيل لتحرير أسرى فلسطينيين، إلّا أنها لم تحقق هذه الغاية.

كانت
دلال بطلة هذه العملية التي ارتبطت باسمها وبشجاعتها، فهي منْ تجرّأ على الوصول
إلى الشاطئ واكتساح الشارع المتجه نحو تل أبيب، ثم الاستيلاء على حافلة كانت تحمل
الجيش الإسرائيلي وإطلاق النار يمنة ويسرة على السيارات العسكرية.

قال

نزار
قباني

ذات يوم:

في باص، أقاموا جمهوريتهم أحد عشر رجلًا بقيادة امرأة اسمها دلال المغربي، تمكّنوا من تأسيس فلسطين بعدما رفض العالم أن يعترف لهم بحق تأسيسها. ركبوا أتوبيسًا متجهًا من حيفا إلى تل أبيب، وحوّلوه إلى عاصمة مؤقتة لدولة فلسطين. رفعوا العلم الأبيض والأخضر والأحمر والأسود على مقدمة الأتوبيس، وهزجوا وهتفوا كما يفعل تلاميذ المدارس في الرحلات المدرسية، وحين طوّقتهم القوات الإسرائيلية ولاحقتهم طائرات الهليكوبتر وأرادت أن تستولي بقوة السلاح على الأتوبيس العاصمة، فجّروه وانفجروا معه، ولأول مرة في تاريخ الثورات، يصبح باص من باصات النقل المشترك جمهورية مستقلة كاملة السيادة لمدة 4 ساعات. إنه لا يهم أبدًا كم دامت هذه الجمهورية الفلسطينية. المهم أنها تأسست وكانت أول رئيسة جمهورية لها اسمها دلال المغربي.

مناضلات تونس الخضراء

حين نتحدث عن الحركة الوطنية في تونس، نادرًا ما نتحدّث عن مناضلات شاركن فيها، الأمر الذي لا ينفي مشاركة النساء في صفوف مقاومة الاستعمار الفرنسي بقدر ما يثبت ذكورية التاريخ أو بعبارة أصحّ ظلمه لفئات عديدة واقتصاره على نفس العناصر التي اعتاد ذكرها. من هذا الباب، تطرقنا للموضوع ونبشنا في التاريخ فوجدنا نساءً كثيرات، منهن منْ قاومن المستعمر بالرصاص، ومنهن منْ سخّرت بيتها لحماية «الفلّاقة» من شرور الاستعمار. والفلاقة هم الأشخاص من عامة الناس الذين استطاعوا حمل السلاح والقتال ضد المستعمر.

كانت
«

أم
السعد يحيى

» واحدة
من تلك النساء، إذ شاركت في الحركة الوطنية منذ بداياتها، مُعرّضة نفسها للخطر، ومُسخّرة
منزلها الكائن بنهج سيدي العطاوي بجهة باب سويقة للثوّار والمقاومين، حتى صار ملجأ
للفلّاقة ومخبأ لسلاحهم ولمناشيرهم. كما صار مقرًّا لاجتماعاتهم وخزينة لمتفجّراتهم.
ولدت أم سعد، رحمها الله، في منطقة المطويّة التابعة لولاية قابس سنة 1898 وكرّست
حياتها لتونس الخضراء.

جاء
في كتاب «جذور الحركة النسائية بتونس» للكاتبة «ليليا العبيدي» على لسان المناضلة «خديجة
رابح»:

لقد شاركت أنا وابنة عمي «أم السعد» وكنّا من الأوائل اللائي ساهمن في الحركة الوطنية التي كانت تخلو آنذاك من العنصر النسائي. إنّ «أم السعد» وطنية وشجاعة، وقد عاشت أرملة. وأذكر اليوم الذي خبأت فيه «أم السعد» سي الحبيب وقد بذلت من أجل ذلك جهدًا كبيرًا.

مشيرةً
بذلك إلى حدث لجوء «الحبيب بورقيبة» إلى بيت أم السعد إبان الحركة الوطنية عام 1943
وحمايتها له.

إلى
جانب أم السعد وخديجة ابنة عمها، كانت فاطمة بن عبيدي المعروفة تحت اسم «

ماما
قنوشة

» تناضل بحشد الوعي الجماعي وبتوجيه رصاص مسدّسها صوب العدوّ، وكانت بذلك
أولى النساء المشاركات في الحياة السياسية مع الرجال.

تأتينا
ماما قنوشة من منطقة دقاش من ولاية توزر، وهي منطقة ريفية مُقاوِمة، شهد نخيلها
ألم أصحابه ومعاناتهم تحت بطش فرنسا. ولم يقتصر نضالها على النضال المسلح إذ شجعت
النساء على التمدرس والتعلم، وساهمت في إرساء ثقافة وطنية مناهضة للاستعمار.

النيرية: شاعرة وفارسة تحملنا إلى المغرب

قد
تستمع إلى أغنية النيرية على اليوتيوب، وترى في بداية الفيديو إشارة إلى سيّدة
مغربية كان يخافها جند الاستعمار، فتتساءل عن هويّتها وعن حكايتها.

تقول
الأغنية في جزء منها:

آ الواحد ايا ربي

هزيت عيني ليك آ ربي

حطيبت عيني وافرح قلبي

باسم الله باش ابديت

آودي على النبي صليت

يا ودي كثرو في صلاتو

النبي شفيع اماتو

اذكر الله تصيب الله

عيطة المولى مقبولة

كالتها ذيك النيرية

ياك عزبة ودريرية

محزمة بالسيف والتحتية

واش علام الخيل يفوت؟

واش عشاق الزين يموت؟

وإلا اخيابت دابا تزيان

ودابا مول الحق يبان


تندرج
هذه القصيدة أو الأغنية التي تسمى

قصيدة
«الشجعان»

ضمن الموروث الشفوي الشعبي،
ولئن نُسِبت إلى الشاعرة والمناضلة «مباركة بنت حمو البيهيشية» التي عرفت باسم
النيرية، فإنها ارتبطت بحقبة ثار فيها المقاومون من أبناء الشعب المغربي الذي عانى
الأمرّين من المستعمر الفرنسي.

تنحدر

هذه المرأة

من منطقة بني
ملال وقد حمّلها الشعب اسم النيرية لأنها كانت قوية وصامدة ومقاومة وصلبة كالعارضة
الخشبية التي تشد الخيوط والتي تعرف بالعامية المغربية بالنيرية.

يحكي
أحد أبناء نفس المنطقة على لسان جدته أن:

النيرية كانت في بداية التدخل الأجنبي، تركب الحصان، وتحمل إناء مملوءًا بماء الحناء. تتبع المقاومين، وتحثهم على مواجهة الجيش الفرنسي المستعمر، ومنْ تأخر منهم عن الصف الأول، كانت ترش عليه ماء الحناء ليعرف عند القبيلة بأنه تخلّى عن موقعه. ولذلك كان الفرسان لا يستطيعون ترك مواقعهم. وكانوا يفضلون أن يلقوا حتفهم في القتال، على أن يرجعوا إلى ذويهم مصبوغين بماء الحناء.

جميلة الجزائر: «جميلة بوحيرد»

في
أغنية تونسية ملتزمة بعنوان «لو الندى دمعة سكيبة» للشاعر «آدم فتحي»،
يتردد اسم جميلة ويرتبط بالجمال والحرية. تقول كلماتها:

جميلة… جميلة نوارة الجزائر… خضراء أم عيون جمر والشامة عربية… والساق حافية على الإبر وتغنّي للحريّة.

نحن
هنا نتحدث عن هذه الجميلة الجزائرية التي كانت ناشطة سياسية ومناضلة شرسة ساهمت في
ثورة الجزائر خلال القرن العشرين. فقد كانت فدائية كدلال وقويّة كالجزائر.

كانت
جميلة في العشرين من عمرها حين انضمّت إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، محاولةً
أن تقف ضد الاحتلال الفرنسي، قبل أن ترمي فيما بعد المتفجرات والقنابل في وجه
المستعمر وجيوشه.

تعتبر
هذه السيدة التي نكّلت بها فرنسا ووجهّت لها أسوأ أصناف التعذيب إلى اليوم، أشهر
رموز المقاومة في الجزائر. تغنّى بها الشعراء والكتّاب حتّى استحالت القصيدة التي
كتبها لها «صلاح جاهين» غزلًا، وبكى «نجيب سرور» قرار إعدامها فصارت دموعه قصيدة.

غنّت
لها المطربة وردة الجزائرية، وكتب لها بدر شاكر السياب، ثم أهداها السوري عبد
الوهاب حقي عملًا مسرحًيا باسمها. لم تكن جميلة بوحيرد بندقية الجزائر وحدها بل
صارت صوت النضال العربي. صارت صوتي وصوتك وصوت من لا صوت لهم.


يُكتب التاريخ بقلم الذاكرة وبريشة النسيان، تبرز فيه محطات وأسماء عديدة حسب كاتب التاريخ وحسب أمير البلاط وحال البلاد والعباد، بينما تُكبّل أسماء وقصص وحكايات أخرى بسلاسل النسيان. جميلة وفاطمة وأم السعد ودلال والنيرية نساء كتبن قصص نضالهن بدمائهن، ووهبن للوطن حيواتهن وها نحن اليوم نهديهنّ الذكرى والذاكرة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.