تغيّر العالم العربي بعد أحداث وثورات الربيع تغيرًا كبيرًا، وأصبح الحديث عن المنافي والاغتراب أمرًا طبيعيًا وواردًا طوال الوقت في أحاديث الناس اليومية وعلى صفحات الجرائد والمجلات، ولا شك أن كل ذلك انعكس على الكتابة الأدبية والروائية التي تعبّر دومًا عن المجتمعات وما يدور فيها. وإذا كان الحديث عن الغربة يأتي أحيانًا مصحوبًا بالحنين إلى الوطن وكيف كانت الحياة فيه، فإن جانبًا آخر من تجارب الناس في الغربة لا شك تحمل نوعًا من الصراع بين الماضي والحاضر أو ربما عقد المقارنات بين حضارتين وثقافتين، مما يجعل الكاتب متنازعًا دومًا بين هذه الأفكار والرؤى.

إلا أن اللجوء إلى المنفى أمر آخر، فهناك أنت في أرض جديدة اضطر أصحابها للوجود فيها رغمًا عنهم، قادتهم إليها أوضاع بلادهم السيئة من حروبٍ وصراعاتٍ وقمع، فلم تعد الحياة ممكنة فيها، فلجأوا إلى حياةٍ أخرى في ذلك المكان المختلف كليًا أملاً في وضعٍ أفضل.

اقرأ أيضًا:

رواية الحي العربي .. أفكار متخيلة لأوطان بديلة

في روايتها الجديدة «أعياد الشتاء»، ترسم الروائية السورية نغم حيدر صورة مختلفة شديدة الواقعية والمأساوية لفتاتين من سوريا اضطرتهما الظروف للجوء إلى بلدٍ أوروبية، تسعيان إلى مواصلة حياتهما فيها بعد الحرب والثورة التي قامت في بلادهما وباعدت بينهما وبين أحلامهما وآمالهما فيها، فذهبتا إلى ذلك المكان الذي تعيدان فيه اكتشاف ذاتيهما وحياتهما مرة أخرى.

شاهيناز وراوية، تجمع بينهما غرفة واحدة وتفرقهما الأحلام والطموحات وطبيعة شخصية كل واحدةٍ منهما، فبينما عاشت الأولى حياة السهر والمتعة واقتناص لحظات اللذة بين يدي الراغبين، عاشت الثانية في قلق وترقب، تخشى من كل ما يحيط بها وكل ما يمكن أن يشكل خطرًا عليها حتى أصبحت تراقب النهار والناس بأعين متحفزة، وتعودان كل يوم لكي تحكي كل واحدة منهما للأخرى ما وجدته.

أسِفت شاهيناز، لقد أصبحت مستبعدةً من كل شيءٍ بعدما كانت متوَّجةً على عرش الأسرّة الناعمة وكنبات الشبق المجنونة، بعدما كافحت بكلّها وتحمّلت روائح الرجال المحرومين ومناظر الكروش المشعرة فوق جسدها الناعم، أوساخ السهيرة وألسنتهم القذرة بعد العشاء الدسم، وكثيرًا ما أصيبت بحساسية وفيروساتِ وخرجات مؤلمة … أصبح عليها الآن أن تدفئ نفسها من جديد، وتبحث منذ البداية كمبتدئة بعدما كانت هي من يجري البحث عنها. لقد سخرت منها الأقدار أكثر مما يجب، على شاهيناز الآن أن تعتاد هذه المساحات الشاسعة من الشتاء.

مع شاهيناز وراوية تظهر في الخلفية شخصيات رجالٍ آخرين، يحمل كل واحدٍ منهم تاريخه بين يديه، ويثير حضورهم العديد من ذكريات الماضي الأليمة التي لا مفر منها، يحضر الضابط السوري المتغطرس «قتيبة» في حكايات شاهيناز كواحد من نماذج السلطة القمعية وما تمارسه على الناس هناك من قمع واستغلال للنفوذ والقوة من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، كما يحضر فهد الحبيب الغريب الذي تحبه شاهيناز وتسعى للخلاص من سيطرته في الوقت نفسه، و«عرفان» الذي يبدو لراوية كحلمٍ رومانسي جميل وسط ما تعانيه من اغترابٍ ووحدة.

تبدو الشخصيات مسكونة بآلام نفسية لا خلاص منها، تقودها إلى تصرفاتٍ وأفعالٍ تبدو غير منطقية، ولكنها من جهةٍ أخرى تعكس تلك الصورة الواقعية المأساوية للحياة التي تعيشها النساء في المنفى، وما تلاقينه هناك من همٍ وضياعٍ وقسوة.

ستجد دومًا شيئًا يشبهها ويعيد إليها ذكرى الأيام الجميلة، لم تكن تتوقع أن لديها هذا المخزون المروّع من الذكريات، ولم تتعرف حقًا إلى قيمة البهجة التي عاشتها أو إلى مكانتها الرفيعة إلا حين سافرت هنا. هي متأكدة أن الجميع افتقدها، سألوا عنها في المخافر والمشافي والمقابر، حتى الفتيات اللواتي نلن نصيبهن منها بكين عليها فوق مغاسل الحمامات .. حتى أضواء الصالة المبهرة في سقف المنصّة ستتعطل مراتٍ عدة في غيابها من كثرة ما ستدور بحثًا عنها.

استطاعت الروائية أن تخلص نفسها من آلام الحرب في سوريا ومآسيها، وأن تركز أكثر على الآثار السلبية النفسية الكبيرة التي أصبحت تتحكم في شخصياتها وقراراتهم وتصرفاتهم في بلد اللجوء، وأن تستثير لدى القارئ علاقته الخاصة بموطنه وبلاده التي تبقى «وإن جارت عليه عزيزة»، وبقي أيضًا أن المكان الذي جمع بين شخصيات الرواية يمكن اعتباره مكانًا انتقاليًا أو معبرًا مثاليًا بين الماضي وما كان فيه من صراعات ومآسٍ، والمستقبل وكل ما يمثله من وعود استقرار وحياة هادئة يحلمون بها.

اقرأ أيضًا:

عمت صباحًا أيتها الحرب .. توثيق الحرب السورية روائيًا

تجدر الإشارة في النهاية أن اسم البلدان التي عاش فيها أبطال روايتها لم يحضر أبدًا، وأن حضور سوريا والبلد الأوروبي الذي يفرضه الحديث عن الرواية إنما هو افتراض لطبيعة وصف الحياة والمفارقات بين هنا وهناك حيث تحضر في التفاصيل تلك المفردات الخاصة بكل بلد، وإنما قصدت الكاتبة بشكلٍ واضح أن تجهّل أسماء الأماكن لكي تصبح الرواية بأبطالها صالحين للتعامل معهم وكأنهم من أي مكانٍ في العالم، إذ يتشابه الحديث عن الوطن الأم وعلاقة المنفى الإنسانية به، ولا فرق حينها إذا كان الوطن عربيًا أم غير عربي.

نغم حيدر روائية سورية شابة من مواليد دمشق 1987، صدرت روايتها الأولى «مُرة» عن محترف نجوى بركات لكتابة الرواية عام 2014، «أعياد الشتاء» روايتها الثانية صادرة عن دار هاشيت أنطون، وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع المؤلف الشاب عام 2018.