بعد غياب لما يقرب من عام، عاد الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى التغريد عبر حسابه الشخصي على موقع تويتر، والكتابة في صحيفة «الحياة اللندنية» التي كان يكتب فيها قبل وقفه عن التغريد والكتابة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكما أثار اختفائه المفاجئ التساؤلات والتكهنات، أثارت أيضًا عودته عاصفة من الاستغراب، فهل سيستمر في خطه المعهود أم سيذهب مع التيار أينما جرفه.


عندما أخفته السياسة

نشرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية «واس» بيانًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، نقلًا عن وزارة الخارجية، أعلنت فيه أن جمال خاشقجي لا يمثل المملكة في كل مقابلاته، أو تصريحاته الصحفية، وجاءت هذه الخطوة بعد تصريحات وكتابات لخاشقجي لا تمثل وجهة نظر المملكة السياسية.

وكان البعض يعتبر خاشقجي محسوبًا على النظام وأن آراءه تعكس توجه الحكومة السعودية باعتبار أن المملكة لا تسمح بنشر أي شيء مخالف لسياستها، لذا أوقفت السلطات ظهوره سواء التليفزيوني أو الكتابي في الصحف أو حتى التدوين على مواقع التواصل الاجتماعي.

ولد خاشقجي في المدينة المنورة عام 1958، ودخل مجال الإعلام بالعمل لدى صحيفة «جازيت»، حيث عمل مراسلًا لها ولعدة صحف، إلى أن عين في العام 1999 نائبًا لرئيس تحرير صحيفة «آراب نيوز»، حتى العام 2003، ليشغل بعدها منصب رئيس تحرير صحيفة الوطن الحكومية في عام 2004، لفترة لا تتجاوز الشهرين بسبب وجود كتابات اعتبرت مسيئة للدولة، وعاد إليها في نفس المنصب عام 2007 ليُرغم على الاستقالة في عام 2010 بسبب مهاجمة الصحيفة للسلفيين بالمملكة.

وعين في العام 2010 مديرًا عامًا لقناة العرب الإخبارية المملوكة للأمير السعودي الوليد بن طلال، والتي بدأ بثها عام 2015، وكان من المفترض أن تنطلق من الدوحة، لكن جرى نقلها إلى العاصمة البحرينية المنامة خوفًا من تبنيها أجندة معارضة لسياسة السعودية، وهو ما حدث بالفعل، إذ تم إغلاقها بعد يوم واحد من بثها. وعمل خاشقجي أيضًا معلقًا سياسيًا للقناة السعودية المحلية ومحطة «MBC» ومحطة هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» وقناة الجزيرة القطرية.


خاشقجي كاتب متمرد أم قلم للسلطة؟

كان خاشقجي دائم الانتقاد في السابق للسلفية المتشددة في بلاده، وهو ما عرضه إلى الوقف عن الكتابة والعمل الصحفي أكثر من مرة، لكن جاء الوقف في المرة الأخيرة بعد تكرار هجومه على مصر والإعلام المصري، حيث كان التوتر في ذلك الوقت بين مصر والسعودية، وكان قد وصف الإعلام المصري بأنه « يدار بالتليفون» من قبل السلطة الحاكمة، بجانب انتقاده للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية.

ورغم الموقف السعودي الرافض للإخوان المسلمين داخل المملكة وخارجها، فإن خاشقجي بخلاف غيره من الكتاب السعوديين أبدى قبولًا لهم، وكان مع الدعوات المطالبة بالتصالح معهم وخاصة في مصر، ففي حوار له مع بوابة الشرق القطرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. نفي انتماءه للإخوان، إلا أنه رأى «أن أفكارهم في إحياء الأمة وبنائها أفكار جيدة يشاركهم فيها كل مسلم إصلاحي»، لكنه أكد أنه كان ينتقدهم في الكثير من المواقف، وخاصة إخوان مصر، فيما يتعلق باعتصام رابعة العدوية والعناد الذي اتبعته الجماعة خلال وجودها في الحكم.

وعُرف عن خاشقجي معارضته للتيار السفلي المحافظ بالمملكة، وحينما كان رئيس تحرير صحيفة «الوطن» المحلية السعودية استغلها في هذا الأمر، وهو ما عرضه للطرد منها مرتين، إلى جانب تحديه بعض القيم المحافظة السائدة بالمملكة، مثل نشره صور النساء على صفحات الوطن، وطُلب منه الامتناع عن ذلك إلا أنه لم يفعل ما تسبب في طرده، فالأمر ليس مجرد صورة وإنما تمرد على السلطة الدينية بالمملكة التي قد تفقد سيطرتها.

وقد يجد ولي العهد في المستقبل خاشقجي أحد الأقلام في هذا الشأن، إن أراد الحد من سيطرة السلطة الدينية بالمملكة، فسبق أن قام بتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لاقت انتقادات كثيرة لتدخلها في خصوصيات السعوديين تحت ستار حماية وتطبيق الإسلام، وقد يلجأ أيضًا إلى إلغاء الكثير من القيود المفروضة على المرأة، وهو بحاجة إلى أقلام وكتاب يدعمون هذه الأفكار لمجابهة التيار المحافظ.


أي مهمة يعود لها خاشقجي؟

كما أثار اختفائه المفاجئ التساؤلات والتكهنات أثارت أيضًا عودته موجة من الاستغراب، فهل سيستمر في خطه المعهود أم سيسير مع التيار؟

يبدو أن ولي العهد محمد بن سلمان الذي أصبح الحاكم الفعلي الآن للمملكة، يريد إظهار نفسه بالرافض للتشدد والداعم لحرية الرأي، وجاء قراره بالسماح لعودة خاشقجي مرة أخرى لدعم هذا الاتجاه، فهو يريد الظهور بمظهر الداعي لتحديث المملكة وتطويرها وخاصة فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية والثقافية في المملكة، فقد سمح بتوسعة النشاط الثقافي وتخفيف القيود وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، ووضع رؤية «المملكة 2030» لدعم هذا الاتجاه.

لم يعلن خاشقجي في تدوينته الأولى في 13 أغسطس/آب الجاري عن أسباب الرجوع المفاجئ، إلا أنه وجه الشكر لولي العهد السعودي ووزير الإعلام، وقال في تغريداته على تويتر « لا يجوز أن يحجر رأي أحد مهما اختلف، فتعدد الآراء إثراء واجتهاد يفيد المسئول»، وذلك في إشارة إلى أنه تم الحجر عليه في السابق وليؤكد أنه تم منعه من قبل الحكومة ولم يتوقف من نفسه، ووجه الشكر هنا لولي العهد دون والده الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يُقدم على الجميع عند المنح والعطايا حتى وإن لم يكن له دور فيها.

رغم الموقف السعودي الرافض للإخوان المسلمين داخل المملكة وخارجها، فإن خاشقجي بخلاف غيره من الكتاب السعوديين أبدى قبولا لهم

ومع عودته إلى التدوين ظهر مجددًا في أول مقال له بصحيفة «الحياة» اللندنية التي اعتاد الكتابة فيها قبل وقفه، تحت عنوان دكان العلمانية ، انتقد فيها الكتاب والمثقفين السعوديين، الذين روجوا للعلمانية في المملكة بعد ادعاء السفير الإماراتي في الولايات المتحدة يوسف العتيبة أن أبو ظبي والرياض تريدان مستقبلًا علمانيًا للشرق الأوسط بينما تريده قطر إسلاميًا متطرفًا.

وقال خاشقجي إن السعودية دولة إسلامية في نظامها الأساسي للحكم، ولا تقدر على التغيير فيه أو أن تستبدل «أيديولوجيا» التأسيس والاستمرار والبقاء بقيم العلمانية، فالدولة السعودية قامت بالاعتماد على الأساس الديني والشرعية الحقيقية التي تمثلها الأسرة الحاكمة تحتاج إلى أيديولوجيا يقبلها الشعب وهي الدين، ولفت خاشقجي النظر إلى أن هذه العلاقة مربحة، لأن الإسلام يوفر السمع والطاعة للحاكم وهو ما لا تفعله العلمانية.

وبمجرد أن بدأ الكتابة لاحقته الاتهامات مجددًا، ففي مقال للكاتب السعودي عبدالرحمن اللاحم في صحيفة «عكاظ» الحكومية وصف خاشقجي بأنه صحفي «مارس أدوارًا مزدوجة في فترات سياسيةٍ متنوعة، ويمثل تيارًا متناميًا ومتغلغلاً في بعض المؤسسات الإعلامية» واتهمه بأنه يسعى إلى خلق توجه عام يدعم الحركات الإسلامية في العالم العربي، ودعم النظام القطري ضد مصالح بلاده، ولم يعقب خاشقجي على هذه الانتقادات، وما زال مستمرًا في تغريداته وكتاباته حتى الآن.

يوضح الهجوم الفوري على خاشقجي من صحيفة حكومية أنه لن يعود طليق اليدين، وإنما هناك حدود يجب ألا يتخطاها، وخاصة فيما يتعلق بالأزمة الحالية مع قطر.

فكان خاشقجي داعمًا لدعوات أمير قطر تميم بن حمد للحوار مع إيران، ودعم العلاقات مع تركيا وهي أبرز أسباب القطيعة الآنية مع الدوحة، وكذلك ملف الحركات الإسلامية، وبالتالي لن يُسمح له بالاقتراب من هذا الملف، على الأقل خلال هذه الفترة.

وربما تأتي عودة خاشقجي إلى الساحة الإعلامية مجددًا تمهيدًا لاستخدامه كأحد الأقلام للترويج لأهمية العلاقات مع قطر إذا تمت معالجة الأزمة باعتباره أحد الكتاب الذين لم يخوضوا في الأزمة إلى جانب الإعلام الرسمي، فكره الداعم لأمير قطر وللتيارات السياسية المتعاون معها، غير أن عودته ستضفي للكتابة المزيد من الإطراء لولي العهد الجديد باعتباره داعم لحرية الرأي ومحاربة التطرف والتشدد.