في صباح أحد أيام سبتمبر عام 2011، تلقى الفيزيائي الإيطالي أنطونيو إيريديتو مكالمةً من أحد العاملين تحت قيادته في مشروع OPERA وأخبره:

يا إلهي، سنيور إيريديتو، لن تصدق النتائج الظاهرة أمامي! نحن على وشك أن نثبت خطأ النظرية النسبية لأينشتاين، برغم أننا لسنا طلابًا في الثانوية العامة من المنوفية، ولك أن تتخيل مدى عظمة هذا الإنجاز!

بالطبع، لم يقل المسؤول عن النتائج هذا الجزء الخاص بطلاب الثانوية العامة من المنوفية، لكن باقي الحكاية حدث بالفعل، وإن كانت نتائج مشروع OPERA صحيحة، فكانت ستُلقي قنبلةً نوويةً في القلب من طريقة فهمنا للكون بأكمله، وليس النظرية النسبية الخاصة فحسب، فما الذي حدث بالضبط؟


مشروع OPERA

كان يضم 160 باحثًا فيزيائيًا من 13 دولة، والذي يهدف إلى دراسة فيزياء النيوترينو، وهو جسيم دون ذري مشابه جدًا للإلكترون، ولكنه يختلف في أنه لا يملك شحنة كهربائية ويملك كتلةً صغيرةً للغاية، قد تقترب من الصفر.

جسيمات النيوترينو

هي واحدة من أكثر الجسيمات وفرة في الكون، ولكن نظرًا لأن تفاعلها مع المادة ضئيل جدًا، فمن الصعب اكتشافها.

جاءت النتائج الأولى

لتجربة OPERA

بأن جسيمات النيوترينو كانت تنتقل أسرع من
الضوء، ووفقًا لنظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، فإن حدوث هذا
الأمر مستحيل؛ لا يمكن لأي جسيم في الكون أن يتخطى سرعة الضوء، وإن حدث هذا فسوف نحتاج
إلى فيزياء جديدة تمامًا.

في النهاية، اتضح أن

نتائج تجربة OPERA كانت خطأ

، كما هو متوقع، بسبب مشكلة في التوقيت، أظهرت أن جسيمات النيوترينو تنتقل أسرع من الضوء، لكن تلك الجسيمات الصغيرة ما زالت تقع ضمن الحدود المسوح بها للسرعة. وعلى الرغم من شهور من الفحوصات والتدقيق قبل التجربة، والتحقق المضاعف من البيانات بعدها، فإن مثل تلك الأخطاء واردة مع الآلية المعقدة للغاية لمسرعات الجسيمات.

للأسف بقيت نظريات أينشتاين كما هي، ولم يتغير
شيء، وما زلنا في انتظار طالب الثانوية العامة الذي سيحطمها! لكن، يظل السؤال قائمًا، لماذا لا يمكن لأي شيء في الكون
أن يتحرك أسرع من الضوء؟

قانون المرور الأول في
الكون!

لماذا لا يمكن السفر أسرع من الضوء

نحن نعرف الآن قانون المرور الأول في الكون: لا يمكن لأي شيء أن يتحرك أسرع من سرعة الضوء، والتي عرفنا أنها تساوي في الفراغ 299,792.458 كيلومترًا في الثانية. ولكن قبل القرن السابع عشر، كان الافتراض السائد أن الضوء يتحرك فورًا، أو أن سرعته لا نهائية. لكن الفلكي والعالم الإيطالي جاليليو جاليلي كان بين أول من اعتقدوا أن الضوء ينتقل بسرعة محددة، وفي عام 1638 حاول قياس تلك السرعة. وقف جاليليو ومساعده على قمتي تل مختلفتين بينهما مسافة معروفة، حيث يمسك كل منهما بمصباح، وكانت الخطة أن يشعل جاليليو مصباحه، ثم يشعل المساعد مصباحه بمجرد أن يرى الضوء المقبل من مصباح جاليليو، وهكذا.

وباستخدام المسافة بين قمتي التل ونبضات الضوء
من المصباحين كمؤقت، حاول جاليليو

احتساب سرعة الضوء

، لكن التجربة فشلت بالطبع. لقد حاول جاليليو هو ومساعده
تغيير المسافات بينهما، ولكن بغض النظر عن المسافة، لم يكن بإمكانه قياس أي فارق
في الوقت الذي يستغرقه الضوء للانتقال من مكان لآخر. حينها
استنتج أن حركة الضوء كانت سريعة بشكل لا يُصدق، بحيث لا يمكن قياسها بهذه
الطريقة، وكان على حق، فإذا وقف جاليليو ومساعده على قمتي تل بينهما مسافة ميل
واحد، فإن الضوء سوف يستغرق 0.0000054 ثانية للانتقال بينهما.

ولكن بعد فترة وجيزة، في عام 1676، حصلنا على رقم معقول لسرعة الضوء، بواسطة عالم الفلك الدانماركي أولي رومر، من خلال مراقبة كسوف قمر كوكب المشتري «آيو-IO»، وتوصل رومر إلى أن سرعة الضوء تساوي 240,00 كيلومتر في الثانية.

كان قياس رومر لا يزال بعيدًا عن القيمة الفعلية لسرعة الضوء، ولكنه قدم أساسًا مفيدًا للتجارب المستقبلية. وفي عام 1728، أضاف الفيزيائي الإنجليزي جيمس برادلي نتائجه الخاصة إلى مجموعة المعارف التراكمية، مستخدمًا الانحراف النجمي لحساب سرعة الضوء في الفراغ، وتوصل إلى أنها تساوي 301,000 كيلومتر في الثانية. كانت القياسات تتحسن، ومع ذلك مرت 100 عام أخرى قبل أن يتوصل العالم الفرنسي أرماند لويس فيزو إلى كيفية قياس سرعة الضوء عن طريق تجربة أرضية.

اعتمدت الطرق اللاحقة لقياس سرعة الضوء على التداخل الموجي، وأصبحت هذه الأساليب أكثر دقة مع ظهور تقنية الليزر، واليوم بعد مرور أكثر من 380 عامًا على تجربة جاليليو على قمة التل، تم تحديد سرعة الضوء في الفراغ بدقة لتصبح 299,792.458 كيلومترًا في الثانية.

سرعة الضوء: سرعة الكون القصوى!


عندما يتعلق الأمر بحدود السرعة، فإن السرعة القصوى التي تحددها قوانين الفيزياء نفسها هي سرعة الضوء. وقبل أن نتمكن من الإجابة على السؤال، علينا أن نعرف ما سرعة الضوء تحديدًا، وماذا تعني؟

كما عرفنا أن سرعة الضوء، أو سرعة فوتونات الضوء، في الفراغ تساوي (299,792.458 كيلومترًا في الثانية. نحن نتصور أن فوتونات الضوء تتحرك بهذه السرعة لأنها عديمة الكتلة، أو ليس لها وزن، لكنها تملك طاقةً حركيةً. حسنًا، ما معنى هذا الكلام تحديدًا؟

كل جسيم في الكون، بما في ذلك الفوتونات، يتحرك أو يسبح من خلال ما يُعرف بـ «

مجال هيجز

»، ونتيجةً لهذا التفاعل،

تكتسب تلك الجسيمات كتلتها

. حيث تتفاعل الجسيمات المختلفة مع مجال هيجز من خلال قوى مختلفة، ولهذا نجد أن بعض الجسيمات أثقل من غيرها، أي تمتلك كتلةً أكبر. لكن الفوتونات تتحرك وتنتقل من خلال مجال هيجز، لكنها لا تتفاعل معه، ولهذا هي عديمة الكتلة.

ونظرًا لأن الفوتونات لا تتفاعل مع مجال هيجز،
فهذا يعني أنها ليست مُقيّدة بأي حدود للسرعة؛ إنها تملك مطلق الحرية للانتقال
والتحرك بأسرع سرعة ممكنة، وهي سرعة الضوء الخاصة بها. إذًا لماذا لا تكون سرعة
الضوء أبطأ أو أسرع من هذا الرقم المذكور بالتحديد؟ هذا لأن تلك السرعة المحددة هي
ثابت أساسي للكون.

إن التساؤل عن سبب عدم انتقال الضوء بسرعة مختلفة يشبه التساؤل عن سبب عدم انعكاس الجاذبية مثلًا، أو ما سيكون عليه الحال إذا امتلك الكون بُعدين مكانيين فقط بدلًا من ثلاثة أبعاد، أو أربعة أبعاد إذا احتسبت الزمن. هذه الثوابت، إلى جانب سرعة الضوء، وُضعت في مكانها بدقة عندما خُلق كوننا في لحظة الانفجار العظيم.

الجسيمات التي تملك كتلة تتطلب طاقة معينة لكي
تتسارع، وكلما اقتربت سرعة الجسيم من سرعة الضوء، زادت الطاقة المطلوبة ليصل لسرعة
أكبر، وهكذا؛ لأن الجسيمات نفسها تزداد كتلتها بما يتناسب مع السرعة المتزايدة.
باختصار، كلما تحركت بشكل أسرع، زادت كتلتك أو وزنك. ببساطة، إن لم تمتلك كتلة، مثل
الفوتون، فيمكنك أن تتحرك بسرعة الضوء، لكن إن كنت تمتلك كتلة، مثل باقي الجسيمات،
فللأسف لن يمكنك الوصول إلى السرعة القصوى للكون أبدًا.

الفوتونات جسيمات مميزة للغاية؛ لا يقتصر الأمر
على انعدام كتلتها فحسب، مما يمنحها حرية الحركة في الفراغ مثل الفضاء، ولكن لا
يتوجب عليها الإسراع كذلك، لأن الطاقة الطبيعية التي تمتلكها، أو تحركها في شكل
موجة، تعني أنه في اللحظة التي يُخلق فيها الفوتون يكون بالفعل في وضع التحرك
بأقصى سرعة.

ما معنى هذا الكلام المعقد؟ سنحتاج أن نضع
أنفسنا مكان فوتون الضوء، كما كان يفعل أينشتاين في تجاربه الفكرية، لنفهم هذا
الكلام.

اعتبر نفسك فوتونًا!


كانت السمة المميزة لمسيرة ألبرت أينشتاين هي استخدامه للتجارب الفكرية لفهم مشاكل الفيزياء وشرح المفاهيم المعقدة التي كان يتحدث عنها للآخرين. وكانت إحدى التجارب الفكرية التي استخدمها للمساعدة في صياغة نظريته عن النسبية الخاصة هي تخيل شكل الكون من

منظور فوتون الضوء

، كان يرى أينشتاين أن الحياة كـ فوتون ستكون غريبة تمامًا؛ فإن كنت فوتونًا، فلن يعني الزمن بالنسبة لك أي شيء، وسيبدو لك أن كل شيء يحدث فورًا.

لنتخيل معًا، للحظة، أنك فوتونًا صغيرًا نشأ للتو بواسطة نجم في مجرة ​​أخرى على بعد نحو 5 مليارات سنة ضوئية. من وجهة نظري هنا على الأرض، استغرق الأمر منك 5 مليارات سنة بالضبط لتسافر من هذا النجم حتى تصل إلى شبكية عيني. لكن من وجهة نظرك كـ فوتون، أنت نشأت في لحظة ثم في نفس اللحظة وصلت إلى شبكية عيني، لم تختبر الزمن ولا تعرف أنه موجود أصلًا، حدث ولادتك وموتك كانا على الفور. وهذا يحدث ببساطة لأن الزمن يتباطأ بالنسبة لك كلما اقتربت من سرعة الضوء، وعندما تصل إلى تلك السرعة، سيتوقف الزمن تمامًا.

تنص النظرية النسبية أن سرعة الضوء ثابتة، لا يمكن أن تتغير، ونظرًا لأن السرعة هي المسافة مقسومة على الزمن، وبما أن السرعة هنا ثابتة، ولكن المسافة التي يقطعها الضوء يجب أن تزداد، فيجب أن يزداد الزمن أيضًا. وهي ظاهرة تعرف باسم «

تمدد الزمن

»، وهي تعني أن الزمن يمر بشكل أبطأ بالنسبة للأشخاص الذين يسافرون في مركبات سريعة، مقارنة بمن هم في وضع السكون.

مثل بطل فيلم «إنترستيلر» الذي سافر بسرعات عالية في الفضاء، وكنّا نحن نراقب الأحداث من وجهة نظره، ليعود إلى الأرض ويجد أن الزمن سار بشكل أسرع بكثير وأن ابنته وصلت إلى سن جدته وعلى فراش الموت. وكمثال واقعي، يمر الزمن

أبطأ بمقدار 0.007 ثانية

بالنسبة لرواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية، والتي تتحرك بسرعة 7.66 كم/ثانية بالنسبة للأرض، مقارنة بحركتنا نحن على الكوكب، بمعنى أن عمر رواد الفضاء أقل بمقدار 0.007 ثانية من عمر البشر هنا على الأرض!

تمدد الزمن يعتبر مثالًا على

كيفية
تغير الزمكان

بناءً على حركة الأشياء التي تملك كتلة. بينما لا
تتأثر فوتونات الضوء بنفس الطريقة، لأنها لا تملك كتلة، وبهذا فإن الزمن بالنسبة
لها لا يعني شيئًا. وهذا أيضًا سبب آخر لعدم تمكن أي شيء من التحرك أسرع من الضوء،
لأن الأمر سيكون أشبه بإبطاء السيارة حتى تتوقف تمامًا، ثم محاولة أن تبطئها أبطأ
من حالة التوقف التام!

ختامًا، هناك اعتقاد خطأ شائع وهو اعتبار أن سرعة الضوء تشبه أي سرعة محدودة أخرى، يمكن أن يتخطاها أي شيء، لكن في الواقع سرعة الضوء محدودة فقط من منظور المراقب الخارجي، في هذه الحالة نحن، ولكن من منظور فوتون الضوء، فإن سرعته لانهائية. فإن كان بإمكانك التحرك بسرعة الضوء، يمكنك الذهاب إلى أي مكان، بغض النظر عن المسافة، في صفر ثانية بالضبط.