جاءت تهديدات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان،

بقصف

العاصمة اليونانية، أثينا، بالصواريخ التركية، لتسلط الضوء على أزمة تسليح اليونان لجزر بحر إيجه، والخلافات الحدودية بين البلدين.

فبعد ورود تقارير عن مناورات عسكرية يونانية على جزيرتي رودس وليسبوس في بحر إيجه، اعتبر الأتراك أن نشر الجنود والسلاح في جزر قريبة من سواحلهم يشكل انتهاكاً للالتزامات التي تقضي بعدم تسليح هذه الجزر، بينما يقول اليونانيون، إن هذا ضروري للدفاع عن الجزر ضد هجوم تركي محتمل لأن جارتهم الشرقية تضع قوة عسكرية كبيرة على سواحلها أمام الجزر، لذا أكدوا أنهم لن يتراجعوا عن موقفهم،

وانتقد

وزير الخارجية اليوناني تركيا، وشبهها بكوريا الشمالية.

وهدد

أردوغان

بأنها إن لم تهدأ وتوقف استفزازاتها فإن الطائرات الحربية والمُسَيّرات التركية المسلحة ستضرب أثينا التي تشعر بالرعب -وفقاً له- لأن تركيا تنتج صواريخها بنفسها، قائلاً: «عندما تتحدث عن صاروخ تايفون تشعر اليونان بالخوف… يقولون إنها ستضرب أثينا… إذا لم يهدأوا نعم سنضربها طبعاً».

ويشير أردوغان إلى تجربة ناجحة أجرتها بلاده في البحر الأسود في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لإطلاق الصاروخ الباليستي «تايفون» قصير المدى محلي الصنع يصيب أهدافاً على مسافة 561 كيلومتراً خلال 456 ثانية، مع العلم بأن مدينة أثينا على بعد 222 كيلومتراً من أقرب الأراضي التركية، أي أقل من نصف هذا المدى.

جزر بحر إيجه

كان بحر إيجه لسنوات عديدة عنواناً للتوترات المتكررة بين الحليفين المفترضين -باعتبارهما عضوين في حلف الناتو- حول ملكية الجزر والمياه الإقليمية والمجال الجوي.

وفي سبتمبر/ أيلول الماضي نشرت اليونان مدرعات أمريكية الصنع في جزيرتي ساموس وليسبوس، وتبعد الأولى 1.3 كيلومتر فقط عن أقرب نقطة من السواحل تركيا، التي اعتبرت ذلك استفزازاً غير مقبول، وهددت باللجوء إلى «كل الوسائل

المتاحة

» لحفظ حقوقها، وقال أردوغان إن المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية لليونان لا تؤهلها إلى مستوى تركيا لكنها قد «تجرها إلى مستنقع»، وطالبت الخارجية التركية أثينا بالتراجع عن تسليح الجزر، وأرسلت مذكرة احتجاج إلى الولايات المتحدة، طالبتها بالحفاظ على وضع جزر شرق بحر إيجة كجزر منزوعة السلاح.

وتصاعد القلق حينها لدى الشطر اليوناني من جزيرة قبرص، وقال وزير خارجيتها، إيوانيس كاسوليدس، إن بلاده قد تنجر إلى صراع بين اليونان وتركيا، قائلاً: «نخشى من أن أي صراع في بحر إيجه سوف يؤثر علينا مباشرة لأننا سنُستخدم كأضعف نقطة في هذه القصة بكاملها».

وحينها اتهم اردوغان اليونان بـ«احتلال» جزر إيجه بعد سقوط الدولة العثمانية، محذراً من أن جيشه قد «يصل بين ليلة وضحاها» لفعل ما يتوجب فعله، وفي المقابل، أكد رئيس وزراء اليونان، كرياكوس ميتسوتاكيس، استعداد بلاده لمواجهة أي تهديد لسيادتها.

وتطالب أنقرة بتعديل اتفاقية لوزان الموقعة عام 1923 التي حددت حدود تركيا الحديثة، عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، إذ نصت المعاهدة على إعطاء اليونان جزراً في بحر إيجة قريبة للساحل التركي، وهو ما يراه الأتراك مظالم تاريخية يجب أن تصحح؛ فمنذ عام 2016، ينتقد أرودغان نتائج هذه المعاهدة، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2017 خلال زيارة نادرة إلى أثينا، أعلن أن المعاهدة لم تطبق بطريقة عادلة.

ومع اقتراب دخول عام 2023 الذي طالما اعتبره أردوغان بداية مرحلة جديدة في عمر الدولة التركية بعد مرور مائة عام على تأسيسها، فإن أنقرة لم تحرز النجاحات التي كانت تأمل تحقيقها في ذلك العام، مما يضع ضغطاً على القيادة التركية.

لكن ما يدعو لعدم القلق بشأن تطور الأحداث أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يسمحان بتطور الوضع، وعادة ما يتم الاستشهاد في ذلك بحادثة إيميا عام 1995، ففي 26 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، جنحت سفينة شحن تركية شرق جزيرتي إيميا (كارداك بالتركية)، اللتين تبعدان سبعة كيلومترات عن الساحل التركي، فاقترب زورق يوناني للمساعدة، فأصر القبطان التركي على أنه في المياه الإقليمية لبلاده، وتطورت الأمور في 25 يناير/كانون الثاني 1996، حين أبحر يونانيون إلى إيميا ورفعوا علمهم هناك، ورداً على ذلك ذهب فريق من الإعلاميين الأتراك لرفع علم بلادهم على الجزر أمام كاميرات التلفاز، فتدخلت البحرية اليونانية في اليوم التالي وأزالت العلم التركي، فاقتربت القوات التركية في شمال قبرص من الخط الفاصل بين شطري الجزيرة، ونزلت القوات الخاصة اليونانية والتركية على إيميا وقُتل ثلاثة من اليونانيين في حادث غامض، والتهبت الأجواء قبل أن يحتوي الوسطاء الدوليون الأزمة.

ومؤخراً مع اقتراب ذكرى أزمة إيميا، نشرت وسائل الإعلام التركية تقارير تشير إلى أن بلادهم أرسلت سفناً إلى هذه الجزر، وهو ما نفته أثينا، وقالت هيئة الأركان اليونانية في بيان لها، إن هذه التقارير جزء من الجهود المعتادة التي تبذلها أنقرة لإحياء ذكرى لأزمة عام 1996، التي دفعت البلدين إلى شفا الحرب.

أزمة مزمنة

رغم وجود مؤشرات قوية على أن الأزمة لن تسفر عن تصعيد عسكري في المنطقة، فإنه من الواضح أن المشكلة ستستمر وقد تلتهب الأوضاع من حين لآخر نتيجة لأي حادث عرضي، فيمكن أن يؤدي حادث طائرة إلى تصعيد الوضع، فالمقاتلات التركية تخترق حالياً المجال الجوي اليوناني كل يوم تقريباً، مما يدفع الطائرات العسكرية اليونانية لتحذيرها، وحتى الآن لم يفقد أي طيار، تركي أو يوناني أعصابه، ومع ذلك لا يمكن استبعاد خطأ قاتل، لبقاء مسببات التوتر وعدم وجود أي أفق للحل خصوصاً في الفترة الحالية في حكم حزبين محافظين ذوي ميول قومية في البلدين يميلان إلى التشدد في هذه القضية.

ففي اليونان، تستغل الحكومة التصعيد الخارجي لإثارة المشاعر

القومية

والتغطية على مشاكلها في الداخل، مثل ارتفاع معدلات التضخم، وفضيحة التجسس الحكومي على هواتف سياسيين وصحفيين معارضين التي أطاحت بمدير الاستخبارات اليونانية ونفى رئيس الحكومة علمه بها.

ويميل الحزب الحاكم، نيا ديموكراتيا، ومعظم ناخبيه إلى معارضة المفاوضات لحل النزاع مع أنقرة، ومن المتوقع إجراء الانتخابات قريباً، فرئيس الوزراء يواجه دعوات إلى إجراء انتخابات عامّة مبكرة، في وقتٍ تمر فيه بلاده بأزمات معيشية واقتصادية صعبة.

وفي تركيا، تبدو لغة أردوغان عسكرية وصدامية للغاية، وهذه الطريقة محببة جداً لدى ناخبيه القوميين وحلفائه من حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي الذي رفع خريطة لتركيا مؤخراً تتضمن جزراً تتبع اليونان منها جزيرة كريت.

ويطلق أردوغان تصريحات مليئة بالتهديد والوعيد لليونان بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، قاصداً التذكير بحرب عام 1922، عندما هزم الأتراك الجيش اليوناني، وبعد مائة عام من هذه الحرب يقول أردوغان: «قد نأتي فجأة ذات ليلة».

وقد أدلى أردوغان بتصريحاته النارية حول احتمال قصف أثينا بالصواريخ في تجمع

انتخابي

يجلس فيه مع الشباب ويجيب على أسئلتهم في مدينة سامسون الواقعة على البحر الأسود، مساء الأحد الماضي، حيث استهل حديثه حول الصواريخ بالإشارة إلى الاستثمار في صناعة الدفاع التركية في ظل حكمه الذي استمر 20 عاماً، مما قلل الاعتماد على الأسلحة الأجنبية، مقارنة بما كان عليه الوضع عندما تولى الحكم عندما كانت الصناعة الدفاعية تعتمد على الصناعة المحلية بنسبة 20%، والآن ارتفعت النسبة إلى 80%.

وقبل اثني عشر عامًا كانت هناك شركة دفاع تركية واحدة فقط من بين أفضل 100 شركة في العالم ، والآن هناك ثلاث شركات – روكيتسان وشركة صناعة الطيران التركية وشركة أسيلسان – حققت عائدات تجاوزت 4.7 مليار دولار العام الماضي.

وفي كلمة له خلال مشاركته في حفل توزيع جوائز «أسبوع الابتكار التركي» الذي نظمه مجلس المصدرين الأتراك في إسطنبول أشاد أردوغان بقطاع الصناعات الدفاعية لبلاده، متوقعاً أن تتجاوز صادراتها 4 مليارات دولار في العام الحالي، لافتاً إلى أن عدد الشركات التركية العاملة بمجال الصناعات الدفاعية وصل لأكثر من 1600 حالياً، بعدما كان 56 قبل 20 عاماً.

ويبدو من الواضح أن أنقرة تشعر بفائض قوة يشجعها على المطالبة بتعديل مسار التاريخ وإعادة رسم الجغرافيا بناء على المعطيات الحالية، فعندما تتغير موازين القوى تبدأ محاولات إعادة رسم الحدود.