شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 55 من الشخصيات النادرة التي اقترنت أسماؤها بمواقفها لا مؤلفاتها فحسب، فلم يشغله العلم عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام والجهاد ضد الأعداء، بل وظفه لخدمة كل ذلك. سيرته ومواقفه يتطلع لها كل متشوق للعدالة والحرية هروبًا من هذا الزمن الذي ندر فيه الإخلاص للحق قولًا وفعلًا، وكثر فيه خدّام السلاطين من أهل الدين والعلم الذين يضعون فتاواهم وعلمهم تحت الطلب. تلك المواقف التي لولا أنها سُطرت في الكتب، وحفظها التاريخ، لما صدّقنا أنها حدثت فعلًا من جرأة وشجاعة صاحبها، ومن فرط بؤس الواقع الذي نعيشه، صحيح أن هذه المواقف نصبته سلطانًا للعلماء في نظر العامة، غير أنها جلبت عليه سخط وكُره الملوك الذين لا يفضلون سوى الشيوخ والعلماء المستأنسين. إنه «أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم»، الإمام والفقيه والعالِم، مُقاوم الظلم والطغيان، الذي كانت تخشاه السلاطين والملوك. تناول سيرته بالتفصيل أستاذ الفقه المقارن «محمد الزحيلي» في كتاب (العز بن عبد السلام.. سلطان العلماء وبائع الملوك)ـ، وكذلك الكاتب والأديب «عبد الرحمن الشرقاوي» في كتاب (أئمة الفقه التسعة). ملامح من حياته وُلد العز في دمشق بسوريا عام 577هـ – 1181م، وهو مغربي الأصل. فتح عينيه على حياة شعارها الحرمان، حيث كان أبوه شديد الفقر، وحين شب الطفل ساعد أباه في بعض الأعمال الشاقة مثل إصلاح الطرق والتنظيف أمام محلات التجار، وعندما مات الأب ولم يجد من يؤويه، توسط له الشيخ فخر الدين ابن عساكر، للعمل في الجامع الأموي، فساعد الكبار في أعمال النظافة، وكان ينام ليلًا في زاوية بأحد دهاليز الجامع على الرخام. في ظل هذه الظروف الصعبة لم يستطع العز أن يطلب العلم في الصغر، لكنه كان يشاهد حلقات العلم في المسجد بحكم عمله فيه، وكم تمنى أن يكون بين هؤلاء التلاميذ، إلى أن تعهده ابن عساكر وأمر بتعليمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن. أقبل العز على الكتب في شغف، وعوّض ما فاته من سنين الدرس، إلى أن اطمأن ابن عساكر لمستواه، وضمه لحلقات درسه بعد أن دفع إليه ما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور جلسات العلم. عاش ابن عبد السلام في عصر شابته الظروف السياسية المضطربة، عصر ضعف وانهيار الدولة العباسية والانشقاقات الداخلية وتكالب الصليبيين والمغول على الأمة، في هذه الظروف فضّل كثيرون من أهل العلم والدين السكوت عن الحق واعتزال المشهد العام، في حين انخرط العز في قلب هذه الأزمات مقدمًا صورة مغايرة لعالم الدين الذي يجاهد في سبيل الله الذي لا يخشى أحدًا. منهجه ومواقفه اتّسم منهج العز في البحث بإعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح، حيث كان يرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة، والعقل هو أداة هذا الاستنباط. وفي الحياة، كان الشيخ عالمًا حقيقيًّا، يدرك أن دور العلماء لا يقتصر على إلقاء الدروس والخطابة وتعليم الطلاب، فاشترك في الحياة العامة مصلحًا يأخذ بيد الناس إلى الصواب، ويصحح الخطأ لهم ولو كان صادرًا من أمير أو سلطان. يعرف الناس عن العز موقفه ودعوته الشهيرة لمواجهة التتار (المغول)، وشحذه الهمم لخوض الحرب ضد الغزاة، وموقفه مع قطز قائد جيوش السلطان عز الدين أيبك في ذلك الإطار، غير أن هذا الموقف مجرد نقطة في بحر جهاد سلطان العلماء. ومن أبرز مواقفه التي جعلته مكروهًا من الحكام والملوك، محبوبًا من العامة: 1. تحديه للملك الصالح حكم دمشق في أيام العز بن عبد السلام الملك الصالح عماد الدين إسماعيل من بنى أيّوب، فقدّر للعز تفوقه في العلم وولّاه خطابة جامع بني أمية الكبير بدمشق، وبعد فترة قاتل الملك الصالح ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر آنذاك، لانتزاع السلطة منه، فوالى الصليبين وأعطاهم حصن الصفد والثقيف، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والتزود بالطعام وغيره. فاستنكر العز ذلك، وصعد المنبر وخطب في الناس خطبة قوية، فأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته: «اللهم أبرم أمرًا رشدًا لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل من المنبر دون الدعاء للحاكم الصالح إسماعيل (كعادة خطباء الجمعة)، فاعتبر الملك ذلك عصيانًا، وغضب وسجن العز، فلما تأثر الناس بذلك، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة في الجوامع، وكانت هذه الجولة الأولى بين العز والملك الصالح. 2. تفضيله الاعتقال على الاستسلام للملك الصالح توجه الصالح إسماعيل إلى مصر في حراسة الجيوش الصليبية ليحارب الصالح نجم الدين أيوب، وأمر بإحضار العز معه، ثم أرسل من يداهنه ويساومه ويعده بالمناصب، بشرط الرجوع عما هو عليه، ويتوعده إن استمر على ذلك، فكان مما قاله: «بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير». فقال الشيخ: «يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أُقبـِّل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به». فقال له: «لقد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك أن أعتقلك». فقال الشيخ: «افعلوا ما بدا لكم». فأخذه واعتقله في خيمة بجوار خيمة السلطان، فكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمع، فقال يومًا لملوك الصليبيين: «أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال: هذا أكبر قسوس المسلمين! وقد حبسته لإنكاره عليَّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وقد عزلته عن الخطابة وعن مناصبه، وجدّدت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان قسيسنا لغسّلنا رجليه وشربنا مرقتها». وبقي العز في المعتقل حتى هُزم الفرنجة، وذهب لمصر بعدها. 3. العز بائع الأمراء وصل العز بن عبد السلام إلى مصر سنة 639هـ، فرحب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وولّاه الخطابة والقضاء، وكان أول ما لاحظه العز بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك، وهم مملوكون لغيرهم، بالبيع والشراء وقبض الأثمان والتزوج من الحرائر، وهو ما يتعارض في نظره مع الشرع الإسلامي، إذ هم في الأصل عبيد لا يحق لهم ما يحق للأحرار. فامتنع أن يمضي لهم بيعًا أو شراءً، فتألّبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه بدوره فتوى العز، فأمره أن يعْدل عن فتواه، فلم يأتمر بأمره، بل طلب من الملك ألا يتدخل في القضاء، إذ هو ليس من شأن السلطان، فتلفظ السلطان بكلمة فهم منها العز أن هذا الأمر لا يعنيه، فعزل نفسه من القضاء، ثم جمع متاعه وأثاث بيته، واشترى دابتين، وضع متاعه على واحدة، وأركب زوجته وطفله واحدة، ومشي بهذا الموكب المتواضع قاصدًا بلده الشام. وهنا ذكر المؤرخون أن العلماء والعامة من الرجال والنساء والأطفال خرجوا وراء العز، في موكب مهيب، فأدرك الملك الصالح خطورة الموقف وخرج يسترضيه، وطلب منه أن يعود وينفذ ما يريد، فاقترح العز على الأمراء المماليك أن يعقد لهم مجلسًا وينادى عليهم (بالبيع) لبيت مال المسلمين، وعندما نصحه أحد أبنائه بألا يتعرض للأمراء خشية بطشهم، رد عليه بقوله: (أأبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله؟)، وقد كان له ما أراد، وبدأ يبيع الأمراء في مزاد علني. 4. رفضه ضرائب الفقراء: الأمراء أولًا بعد وصول «قطز» لسدّة الحكم في مصر ظهر خطر التتار ووصلت أخبار فظائعهم، فعمل العز على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاة التتار الزاحفين، ولما أمر قطز بجمع الأموال من الرعية للإعداد للحرب، وقف العز في وجهه، وطالبه ألا يأخذ شيئًا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق، فإذا لم تكف هذه الأموال الإعداد للمعركة، فليفرض ضرائب على الناس، فنزل قطز على حكمه. وخرج المسلمون للقاء المغول في معركة «عين جالوت» وانتصروا. وظل العز في مصر يدرس ويخطب ويفتي، ويتخرج على يده أئمة، ويرسي تقاليد للقضاة والفقهاء حتى وفاته. 5. رفضه أموال الملوك حينما مرض العز أمر له الملك الأشرف بألف دينار، فردها الشيخ، ولم يقبلها وقال: «هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا». وفي أواخر أيام العز أرسل له الظاهر بيبرس أن يُعين أحد أولاده في منصبه. فقال العز: ما يصلح لذلك، رغم أن ولده عبد اللطيف كان عالمًا يستحق المنصب. قال له: من أين يعيش؟ قال: من عند الله تعالى. قال له: نجعل له راتبًا؟ قال العز: هذا إليكم، في إشارة إلى تقي الدين ابن بنت الأعز، الذي رشحه للمنصب بدلًا من ابنه. بوفاة العز.. استتب مُلك بيبرس! استمر العز بعلمه وهيبته وحب الناس له، إلى أن وافته المنية عام 660 هـ – 1262م، وهو يبلغ من العمر ثلاثًا وثمانين عامًا. ومما يُروى أنه عندما بلغ السلطان بيبرس وفاته قال: «لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره»، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليّ لانتزع الملك مني لبادورا لأمره. أهم مؤلفاته وأقوال العلماء فيه ترك العز بن عبد السلام تراثًا ضخمًا في علوم التفسير والحديث والعقيدة وأصول الفقه والزهد والتصوف، منها: «التفسير، الفتاوى المجموعة، الأمالي والفتاوى الموصلية، المجاز في القرآن، مختصر الرعاية، مختصر النهاية، قواعد الإسلام، القواعد الصغرى». مما قاله العلماء عنه *الحافظ السيوطي: «عز الدين بن عبد السلام كان شيخًا للإسلام عالمًا ورعًا زاهدًا آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر». *ابن كثير: «انتهت إليه رئاسة المذهب –أي المذهب الشافعي- وقصد بالفتاوى من الآفاق، ثم كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقه، وأفتى بما أدى إليه اجتهاده». *النووي: «العز بن عبد السلام الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته». *الذهبي: «انتهت إليه معرفة المذهب، مع الزهد والورع، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقدم مصر، فأقام بها أكثر من عشرين سنة؛ ناشرًا العلم، آمرًا بالمعروف، ناهيًا للمنكر، يغلظ على الملوك فمن دونهم». *ابن دقيق العيد: «كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء». *التاج السبكي: «العز شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المُطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها». قد يعجبك أيضاً ما قبل التصوير: كيف وثّق الناس حياتهم من دون كاميرات؟ شركات الصرافة في مصر: جانٍ أم مجنيٌ عليه؟ أزمة معهد البحوث: واجب الوقت علي أساتذة الجامعات والمثقفين المنظمات الحقوقية المصرية ومعركة البقاء شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram أحمد تايلور Follow Author المقالة السابقة الدين والسحر: قراءة أنثروبولوجية المقالة التالية عبد الملك بن مروان: حمامة المسجد التى أسست دولة قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك طرح «إنبي» للبيع: استمرار جرائم الخصخصة في مصر 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لماذا سعت الولايات المتحدة إلى تحطيم شركة هواوي؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أزمة معهد البحوث: واجب الوقت علي أساتذة الجامعات والمثقفين 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك سيرة مولانا جلال الدين الرومي: ادعُ إلى ربك بالحب والشعر 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أحد السعف الأسود: جولة في كنائس مصر بعد التفجيرات الدامية 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك إدمان «الألعاب الإلكترونية»: كيف تدفع طفلك إلى الانتحار؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مصطفى حمدي: والدي «مايسترو نشر» أعاد الشباب للقراءة 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك محمد كرد علي: الجنون بالكتب 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لا توظيف لا مدرسة لا قروض: هل يرفض المجتمع المطلقات؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك 5 حيل نفسية يستخدمها الآخرون للتلاعب بك 28/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.