عند النظر في طبيعة الوجود نجد أن أهمية كثير من الاشياء لا تكمن في ذواتها بقدر ما تكمن في الرمز الكائن خلفها؛ ليست قيمة العَلَمِ الذي تتخذه الدولة شعارًا لها متعلقة بالعلم ذاته ولا بألوانه، وإنما تكمن القيمة في الرمزية التي يعطيها كل لون من العلم وكل شعار فيه.

إن عالمنا محكوم بالرمزية إلى درجة أننا قد نجد أبسط الأشياء وأكثرها عاديةً تحمل في داخلها رمزية قوية تنتظر منا فقط أن نمعن النظر حتى تتجلى أمام أعيننا لتتجسد في شكلها التام معلنةً عن المجهول الذي لم نكن قادرين على رؤيته من قبل.

من هذا المنطلق يمكننا أن ننظر إلى معرض الكتاب على أنه ليس فقط تجمُّعًا لبعض الناس في مكان ما ليشتروا الكتب بل قد يحمل في داخله رمزية خفية.

ولكن إذا أردنا أن نسأل عن الرمزية الموجودة وراء معرض الكتاب، فما عساها تكون؟

رمزية معرض الكتاب

يحمل الكتاب نفسه رمزية كبيرة بوصفه دليلاً على العلم والثقافة، ولهذا السبب فإننا نجد أن المُصوِّر والنحات عندما يريد إضفاء قيمة عقلية وثقافية على الشخصية المُصَوّرة يقوم بوضع كتاب في يدها أو بجانبها، ليكون رمزًا على ما تتمتع به تلك الشخصية من علم وثقافة.

تتجلى تلك الرمزية أيضًا عند بعض الفئات التي تضع في بيتها بشكل أساسي مكتبة بارزة للعيان تضم الكثير من المؤلفات، لتكون دليلاً على ثقافة صاحب البيت أمام الضيوف حتى لو لم يكن صاحب البيت يستعملها من الأساس.

بل إن رمزية الكتاب تتجلّى بشكل طريف في الصور التي ينشرها الناس بشكل هستيري لمكتباتهم وكتبهم وإنجازهم السنوي في القراءة على وسائل التواصل الاجتماعي: إذ إن هذه التصرفات -كما أنها قد تعبر عن محاولة الأفراد لنشر مادة يستفيد بها المتابعون- قد لا تكون في الحقيقة سوى محاولة لإظهار التفوق والثقافة أمام الناس عن طريق رمزية الكتاب.

إن معرض الكتاب في بعض نواحيه هو تعبير رمزي عن الهيمنة التي تتمتع بها دولة من الدول؛ فالكتاب الذي هو مدار وجود المعرض هو تعبير رمزي عن العلم والثقافة، ولهذا فإن المعرض من هذا المنطلق هو عبارة عن محفل كبير للعلم والثقافة في البلد الذي يقوم فيه، وكلما كان المعرض أكبر ويمتاز بمميزات أعلى من التي توجد في باقي المعارض التي تُقام في الدول الأخرى كلما دلَّ ذلك على تميز ذلك البلد عن باقي البلدان.

إن معرضًا يُقدّر عدد حضوره بالملايين ليس كمعرض لا يحضره إلا مئات الآلاف، ومعرض تتوفر فيه جميع الإصدارات التي قد يحتاجها الباحث والقارئ العادي سواءً بسواء -خاصةً إذا لم تكن تلك الكتب متوفرة في المكتبات العادية- هو بطبيعة الحال أفضل من ذلك الذي لا تتوفر فيه إلا القليل من دور النشر.

وكذلك فإن معرضًا يستضيف الكتّاب والباحثين المتميزين ليقيم لهم الندوات الحوارية والنقاشية ليس كمعرض يقتصر على العلاقة العادية بين القارئ ودار النشر فلا يكون بذلك سوى توفير محض للسلعة المعروضة.

وعلى ذلك فإن الصفات التي يتمتع بها المعرض المقام تنعكس في حقيقية الأمر على شكل الدولة التي تقيمه، ولذلك فإن بزوغ اسم معرضٍ من المعارض في دولة ما مقارنة بباقي الدول يعني أن تلك الدولة متفوقة على أقرانها في ذلك المجال من ناحية أو أخرى.

لا يقتصر الأمر في الحقيقة على الحقل الثقافي والكتب فقط بل إن الفكرة نفسها نجد تمظهراتها في باقي المجالات من عرض للمنتوجات العسكرية والإلكترونية الحديثة والروبوتات المتطورة -وكذلك استضافة البطولات الرياضية- التي تعمل على إعطاء انطباع عام في الساحة الإقليمية والعالمية بأن الدولة التي تستضيف هذا الحدث هي دولة رائدة ومتفوقة، ولهذا فإننا نجد أن المسألة قد تمثّل في الحقيقة منافسةً كبيرة وسباقًا بين الدول بحيث تحاول كل دولة أن تؤكد تفوقها عبر إخراج المعرض الذي تستضيفه في أفضل شكل ممكن فيكون ذلك إثباتًا لنجاحها وتفوقها.

وبناءً على هذا الأساس فإن المعرض ينطوي ضمنيًّا على محاولة إثبات القوة التنظيمية التي تتمتع بها الدولة المستضيفة ومقدرتها العالية على استضافة دور النشر المختلفة -المحلية منها والأجنبية- وكذلك مقدرتها على نقل الكتب إلى مكان الإقامة نفسه، بجانب اختيار المكان المناسب الذي يتمتع بالصفات المطلوبة مثل كونه مكانًا يسهل الوصول إليه من قِبل الزائرين واحتواؤه على الخدمات التي قد يحتاجها الزائرون من مأكل ومشرب وأماكن للراحة والنقاش.

وكما أن نجاح الدولة في تنظيمه يعني أنها دولة متفوقة فإن فشلها في تنظيمه يعني أنها دولة ضعيفة من حيث الإمكانيات والموارد أو أن نظامها البيروقراطي لا يمكن التعامل معه -وهو ما سيتسبب في إكسابها سمعة سيئة ويؤدي إلى اهتزاز صورتها التي تحاول تلميعها.

لذلك فنجاحها في حقيقة الأمر لا يعني أنها فقط استطاعت توفير الخدمات للقارئ والناشر بل يعني أنها ذات قدرات تنظيمية عالية وموارد قوية تستطيع بها أن تخلق صورة مشرفة أمام الزوار والناشرين وأمام الدول الأخرى.

القوة الناعمة

صاغ مصطلح «القوة الناعمة» جوزيف س. ناي (Joseph Nye) أستاذ العلوم السياسية وعميد مدرسة جون كينيدي في جامعة هارفارد والذي عمل في الكثير من المراكز السياسية المهمة من الناحيتين البحثية والحكومية في الإدارة الأمريكية.

في كتابه المُعَنون بنفس الاسم –

القوة الناعمة (Soft Power)

– يصف ناي القوة الناعمة بأنها

القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا من الإرغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية بلد ما، ومثله السياسة، وسياساته. فعندما تبدو سياساتنا مشروعة في عيون الآخرين، تتسع قوتنا الناعمة.

إن القوة الناعمة تقوم في الأساس على محاولة استمالة الأفراد والحكومات -أو الضغط عليهم بشكل غير مباشر- عبر توفير العديد من الفرص وإعطاء المنح واستعمال الأدوات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من أجل التأثير فيهم وعليهم، وبالتالي إخضاعهم لرغبات الدولة المهيمنة بحيث يكون أولئك الأفراد -وتلك الدول- مجبرين أو راغبين رغبة تامة في الانصياع للأجندة التي تحاول تلك الدولة إمرارها.

قد تتحقق القوة الناعمة عبر أموال الدعم والمعونة ودعم الجامعات والمنح الدراسية، كما قد تتحقق أيضًا بوسائل أخرى كالسينما والتلفاز والدعاية واستضافة الرموز الثقافية والعلمية من البلدان الأخرى للتأثير عليهم ثقافيًّا، وعبر الحصول على أرشيفات ومكتبات مهمة، ولهذا فهو -جوزيف ناي- يرى أن من ضمن مصادر القوة الناعمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية، أنها تنشر كتبًا أكثر من أي بلدٍ آخر، وتحتل المرتبة الثانية في عدد جوائز نوبل -خلال تلك الفترة- وأنها تنشر ما يقرب من أربعة أضعاف المقالات العالمية والدولية التي تنتجها اليابان، المنافسة التالية لها في هذا المجال.

إن النظم السياسية الحديثة لا تقوم على القوى الصلبة فقط من أجل فرض اسم الدولة ورفعها إلى درجة عالية أعلى من باقي الدول، وإنما هي تستعمل في سبيل ذلك القوى الناعمة التي قد تساعد الدولة بشكل أقوى وأكثر فاعلية من القوى الصلبة.

ورغم حداثة المصطلح إلا أن الدول الأوروبية قد استعملته كممارسة منذ فترة طويلة جدًا عبر توفير المنح الدراسية لأبناء المستعمرات والبلدان النامية الذين ينتمون إلى ثقافة أو دين أو عرق مختلف بهدف التأثير فيهم وجعلهم متأثرين بالنموذج الغربي، فيكونون نواة للدعوة إلى التغريب في بلدانهم، وبالتالي تتمكن الدول الغربية من احتلال تلك الدول ثقافيًا وجعلها تابعة لها دون حتى أن تضطر لاحتلالها أو إنفاق شيء من مواردها للتأثير عليها وعلى قراراتها.

من الممكن النظر إلى معرض الكتاب بنفس تلك الكيفية؛ فهو يكفل للدولة التي تقيمه ممارسة شكل من أشكال القوة الناعمة عبر اختيار شخصية ثقافية من داخل البلد تابعةً لنموذج فكري ما لتكون تلك الشخصية علامة بارزة تعلق في الأذهان، وكذلك فإن نجاحها في استضافته يعني إمكانية جعلها سوقًا ثقافيًّا يتدفق رأس المال إليه من أجل الاستثمار في صناعة النشر التي تقوم في الأساس على وجود قيود بسيطة في الصناعة والاستثمار ووجود شريحة كبيرة من القراء في الدولة، وكذلك فإن زيادة القوة الشرائية في تلك الدولة يعني أنها سوق مناسب للتواجد فيه.

وعبر إعطاء صورة مشرفة لبلد من البلدان في الحقل الثقافي -حتى لو كان الأمر بشكل صوري- يمكن لتلك الدولة أن تكون ذات ثقل ثقافي فيتم تبعًا لذلك الاحتفاء بها واعتبارها رائدة وبارزة في ذلك المجال.

تُسمى باريس عاصمة النور وعاصمة الأنوار ويعود ذلك إلى اشتهار فرنسا وباريس خلال القرن الثامن عشر بالعديد من الكتّاب والموسوعيين والرواد في المجال الفكري والثقافي الأوروبي الذي انتشر وأثر على أوروبا كلها فيما بعد.

تلك الصورة في حقيقة الأمر هي صورة غير كاملة إذ إن باريس الحقيقية كانت في الكثير من مناطقها غارقة في الوحل وكان أهلها لا يفقهون شيئًا لا في العلم ولا الثقافة، وإنما هم -شأنهم في ذلك شأن العامة في أغلب البلدان- كانوا منصرفين إلى شؤونهم العادية، لم يكن كل الناس يرتادون المسارح وكانت الصالونات الأدبية مقتصرة على فئة محددة من المجتمع، بل وحتى الثورة الفرنسية التي تم وصفها بكونها ثورةً قامت كامتداد للأفكار الفلسفية كانت كذلك –في جزء كبير منها- انتفاضة للجياع.

من هنا يمكننا أن نفهم أن ما حصل ببساطة هو عملية انتقاء لبضع صور من داخل المجتمع لا تعبر عن حقيقته كاملة ليتم دمج تلك الصور فيما بعد من أجل تأليف مشهد كامل -حتى لو كان مشهدًا زائفًا- ليساهم ذلك المشهد في إكساب الدولة دورًا رياديًا في الحياة الثقافية الأوروبية، فيكون ذلك قوة ناعمة تستطيع الدولة أن تستفيد منها.

وعبر تطبيق نفس ذلك النموذج على مسألة معرض الكتاب، نجد أنه عبر التغطية الإعلامية المناسبة واستضافة بعض الكتّاب ومحاولة خلق صورة بارزة يمكن لأي دولة أن تستفيد من ذلك الحدث بوصفه قوة ناعمة تساعد على رفع مكانة الدولة وإعطائها صورة خاصة أمام العالم.

الملك المستنير

إن رأس الدولة هو تجسيد لتلك الدولة وتجسيد لنظامها الحاكم أمام الدول الأخرى وحكامها وأمام شعبه نفسه، ولهذا فإن الصفات التي يتمتع بها قد تكون سببًا في مدحه أو ذمه هو والدولة التي يحكمها.

وبجانب العناصر التي يجب أن يتمتع بها الحاكم -والتي تختلف باختلاف الدولة والزمان والمكان والمعايير التي يتم عبرها تقييمه- نجد أن التقييم الثقافي والفكري موجود منذ بداية التاريخ الفلسفي في نموذج «الملك الفيلسوف» الذي نادى به أفلاطون وحاول أن يجعله واقعًا.

وقد تم اتباع ذلك التقليد في الاحتفاء بالحكام الذين يتمتعون بدرجة عالية من الثقافة والفكر -من قِبَل النخب الثقافية على وجه الخصوص- كما نرى في نموذج الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس وتأملاته.

يكمن التطبيق الحديث لذلك النموذج في الصور التي يتم التقاطها للزعماء والقادة خلال الأنشطة الثقافية والعلمية، وكذلك من خلال محاولة إبرازهم في شكل محدد يساهم في التأثير على الشعوب والناخبين ليتم إظهار الحاكم بوصفه راعيًا للثقافة أو محبًّا للعلوم، وهو ما قد يصوّر الدولة في عيون البلدان الأخرى وشعوبها على أنها راعية للنهضة والعلم.

لذلك يلجأ بعض الحكام في كثيرٍ من الأحيان إلى رعاية الأوساط الأدبية وإقامة المحافل والتجمعات الثقافية والحرص على إظهارها في أبهى حلة. قد يكون الباعث على ذلك الفعل رغبة حقيقية في الاستمتاع بالمعارف العلمية والأدبية أو حبًّا في الظهور بمظهر الملك الفيلسوف المستنير، وقد لا يكون الأمر ببساطة سوى محاولة لتشكيل صورة تخدم الملك في الساحة الثقافية والسياسية عن طريق وسائل السياسة الناعمة.

وهذه الأشياء قد تفسر العلاقة التي كانت بين فريدريك الأكبر ملك بروسيا وفولتير ومحاولة كلٍّ منهما الاستفادة من الآخر؛ لم يكن فريدريك الأكبر يرى أي مشكلة في نقض المعاهدات وسحق الخصوم ولكنه كان في نفس الوقت يحب الأحاديث الأدبية والفلسفية ويستمتع بأحاديث الفكر والأدب والعلم ويقوم بنفسه بقرض الشعر.

وعلى عكس القرون السابقة التي انبنى حكمها بالدرجة الأولى على السيادة والدم الملكي والقوة العسكرية، فإن العصر الحديث ينبني على أساسات سياسية مختلفة تحاول الحكومات أن تستعملها لمصالحها السياسية.

من ضمن تلك الأساسات السياسية الحالة الثقافية والفكرية التي يتمتع بها ذلك البلد ومقدار الجهود التي تقدمها الحكومة، والتي عبرها تحاول الدولة أن تثبت وتؤكد تفوقها وتميز تجربتها في الحُكم عن غيرها.


المراجع



  1. القوة الناعمة: جوزيف س. ناي، العبيكان للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة 2019
  2. قصة الحضارة: المجلد التاسع عشر، ترجمة فؤاد أندراوس ومحمد على أبو درة، طبعة الهيئة العامة للكتاب