شاركَ الأديبُ الكبير «زكي مبارك» في ثورة
1919، ضدَّ الإنجليز، وكانَ أحد خطبائها البارزين. أشعلَ الثورة بخطبه النَّارية
وأشعاره الحماسية التي كانَ ينشرها في الصحفِ والمجلات، وكانَ يثيرُ ثائرةَ
الجماهيرِ بحماسه المُلتهب، وخطاباته في الأزهرِ الشَّريف.

وبسببِ نشاطه الكبير وإثارته لجموعِ
الغاضبين، وبثِّ الحماسِ في نفوسِ أبناءِ الوطن، بدأت السُّلطات الإنجليزية في
البحثِ عنه لاعتقاله.

بعد أشهرٍ من العيشِ مُطاردًا من مكانٍ إلى
آخر، أُلقيَ القبضُ عليه، وقبل أن يرحل معهم، جمعَ ما يحتاجُ إليه من الكتبِ
العربية والفرنسية، وكتبَ خطابًا إلى أبيه يُشجعه ويبثُّ فيه روحَ التجلُّدِ
والصُّمود.

أخذ يجوبُ المعتقلات، واستقرَّ به المطافُ
في معتقلِ «سيْدي بِشْر» بمدينةِ الإسكندرية. كانَ يُحررُ الرِّسائل إلى أصدقائه
وأبيه، ومما كتبه إلى صديقه «أنيس ميخائيل»:

سأضربُ صفحًا عن الدَّمعةِ التي سكبتها على القرطاس، لأنَّ مثلي لا يُبكى له ولا يُبكى عليه، إنما خُلقتُ لأكونَ مثلًا في الشممِ والإباء.

في المعتقلِ كان يقضي كل وقته في قراءةِ
مؤلفاتٍ فرنسيةٍ وعربية، وكانَ يشتري بمعظم ما يصله من نقود كتبًا، ويتركُ نفسه
جائعًا.

استطاعَ أن يشتركَ في تحريرِ صحيفتين
تعارضانِ مشروع ملنر [1]، هما «الأهالي والأمة»، فكانَ يرسل مقالاتٍ ثوريةٍ غاضبة
بطريقةٍ سريةٍ إلى هاتينِ الصحيفتين! ورفضَ أن يقدِّمَ إمضاءً يتعهدُ بألا يشتغلَ
بالسِّياسة، فقال بطريقةٍ حاسمة:

إنني وطنيٌّ لا سياسي… ولو خرجتُ من المعتقل فسأواصل جهادي حتى تخرجوا من مصر.

ولهذا طالَ بقاؤه في السِّجن.

بعد خروجه من المعتقل، وهو بهذه الرُّوح
الثورية التي ذكرتها سابقًا؛ شَرَعَ في إعدادِ رسالة الدكتوراه عن «الأخلاق عند
الغزالي». وكان يقضي أكثر الوقت في تحريرها وقد اكتوت يده بلهبِ الجدل والصيال
حولَ المطالبِ الوطنية؛ ولا زالَ وقع السِّجن ومرارته في حلقه، فأثَّرَ ذلك في
عقله وتفكيره إلى أبعدِ الحدود، وحمله ذلك التَّأثير على السُّخرية من اعتزال
الإمام الغزالي للمجتمع السَّياسي وابتعاده عن الضَّجيج الذي كانت تثيره الحروب
الصليبية في ذلكَ الحين.

فعندما قرر الحجة الغزالي أن يتركَ وراءه
كل شيء، ويقضي ما تبقى من العمر في عزلةٍ عن النَّاس والحياة، وانقطاعٍ عن
العلائقِ والشواغل، غادر «إلى بغداد في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمئة،
فحج وتوجه إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، قضى بعضها في بيت المقدس، وكان غالب
وقته فيها عزلة وخلوة، ورياضة ومجاهدة للنفس، واشتغالًا بتزكيتها، وتصفية القلب
لذكر الله تعالى، وكان يعتكفُ في منارةِ مسجد دمشق طول النَّهار». [2]

ويصفُ معاصره «عبد الغافر» تحوله الكبير،
فيقول:

وسلكَ طريق الزُّهد والتأله، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة للاشتغال بأسبابِ التَّقوى وزاد الآخرة، فخرج عما كان فيه… وأخذ في مجاهدةِ النَّفس وتغيير الأخلاق، وتحسين الشمائل… فانقلب شيطان الرعونة، وطلب الرياسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس، وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والترتيبات، وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل… والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية، وأخذ في التصانيف المشهورة مثل: إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة منه، مثل: الأربعين، وغيرها من الرسائل، التي من تأملها علم محل الرجل من فنونِ العلم. [3]

ومما أثارَ زكي مبارك وروّعه حينَ كتبَ
رسالته؛ أنه رأى بعض رجال الدِّين يعرفون خريطة الحياة في الآخرة ويجهلونَ خريطة
الحياة الدنيوية؛ فكانت رسالته دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة
عند القدماء، فأنجز زكي مبارك رسالته الشَّهيرة عنِ الأخلاق عند الغزالي.

ظفر بدرجة الدكتوراه، فكان أول من نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعةِ المصرية القديمة، وكان ممن ناقشه، الأديب الرَّاحل طه حسين.

رجعَ زكي مبارك عن كثيرٍ من آرائه فيما
بعد، وندمَ على ما قاله في الإمام الغزالي في فترةِ الثورة والحماس، ثم ندمَ على
اشتغاله بالسياسةِ في بدايةِ حياته الأدبية. [4]

وفي واحدةٍ من أروعِ الاعتذارات، كتبَ زكي
مبارك اعتذارًا إلى الإمام الغزالي، بصورةٍ تدعو للإعجاب، وتفصحُ عن شجاعته وصدقه،
يقول فيها:

ثم مرَّت أعوام راضني فيها الدَّهر بعد الجموح، فعرفتُ أنَّ الغزالي لم يكن من الجبناء، وإنما كانَ من الحكماء.

والرسالة بتمامها في مقالته الشَّهيرة: «إليكَ
اعتذارًا أيُّها الغزالي» [5]. ومن هنا يتبيّن لنا أنَّ مبارك «كان يعاني من ثورةٍ
روحية وعقلية عند تأليفه هذا الكتاب». كما وصف نفسه بذلك. وسر التغيير الذي يطرأ
على الإنسان يأتي بعد مراجعاتٍ دقيقة لما مضى، واستواء لعاملِ النُّضج، وإفادة من
التجارب، وتلبسه بحالاتٍ مماثلةٍ لمن مسهم نيران النقد.

وفيما ذُكر، بيان للحالةِ التي عاشها زكي
مبارك قبلَ كتابته الرسالة، وكيف أسهمت في التأثيرِ عليه، تأثيرًا كان له ما بعده،
إذ أحدثت رسالته ضجة في الأوساطِ العلمية، ما بين مؤيدٍ ومعارض للمسلكِ الذي
اقتحمه زكي في رسالته. وهذا يدفعنا دائمًا لدراسةِ البيئة والحال والزمن الذي
كُتبَ فيه أي نص، لو أردنا حقيقةً أن نقفَ على مراميه، ومكامن الإبداع فيه، وقبل
ذلك، معرفة السَّطوة التي كان الكاتب يعيشُ تحت تأثيرها عندما خلقَ النَّص في
صورته الأولى.

وهذا الأمر ينسحبُ على الأفكار التي تشكلت
في ظلمة السُّجون، وتحت سياطِ الطُّغيان، أو تخلّقت بفعلِ شهوة الانتقام على هيئةِ
كتابٍ مسطور، يفرغُ فيها الكاتب، لهيب القلب، وتجد ذلك في بعضِ السِّير الذَّاتية
التي يمارس فيها صاحبها محاكمة شاملة من منظوره الخاص، مستندًا إلى أداة التاريخ
للإفصاح عن داخله الذي تهشَّم مما وقعَ به.

وهذه المعرفة المسبقة تجعلكُ واعيًا
بالمكتوب، تضع الأفكار في مكانها، ومقامها، وتُبعِدكَ عن خطيئة التَّعميم، واجترار
الفكرة حتى بعد أن يتنصل منها كاتبها، بعد عودته إلى رشده، وزوال الدَّافع الآني،
والحماسة اللحظية، التي أسهمت في تشكيل تصوراته المتحيزة لفكرةٍ بعينها، مع إغفالٍ
تام لبقيةِ الأبعاد الأخرى، والتي لا يراها إلا بعد رفع الغشاوة، مع تقدُّم العمر،
ونضج الفكرة، واتساع دائرة الإعذار، واستواءِ القلم.


المراجع



  1. «مشروع ملنر»: تمثل في لجنة تشكلت في 22 سبتمبر/أيلول 1919 من قِبل الحكومة البريطانية، للوقوف على أسباب ثورة 1919 في مصر، قاطعها المصريون، ففشلت.
  2. علي الصلابي، “دولة السلاجقة… وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي”، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 2006، ص406.
  3. عامر النجار، “نظرات في فكر الغزالي”، ط2، القاهرة، دار المعارف، 1992، ص9.
  4. حصل على ثلاث درجات دكتوراة متتالية فلقِّبَ على إثر ذلك بالدكاترة زكي مبارك.
  5. تُنظر بتمامها في كتابه: “الحديث ذو شجون”. ولمزيد معرفة عن أخبار وحياة الرَّاحل الأديب الكبير زكي مبارك، ينظر كتاب: “صفحات مجهولة من حياةِ زكي مبارك”، محمد محمود الرضواني.