استمع للمقال..

من المفترض ألّا تعود عقارب الساعة إلي الوراء، لكنها فعلت في حلب، فما هي الأسباب التي دفعت بثاني أكبر المدن السورية إلي السقوط بيد قوات الأسد والميليشيات الداعمة له ؟ ستعرض السطور التالية 5 حلقات صنعت معًا نهاية مسلسل سقوط حلب الشهباء.

1. داعش وأخواتها: الجهاديون الذين إذا دخلوا ثورةً أفسدوها

حين اندلعت الانتفاضة ضد الأسد في آذار/ مارس 2011، لم يكن ثمة شك في أنها مجرد امتداد لما شهدته تونس ومصر من أحداث، وأنها ستؤول حتمًا إلى النهاية السعيدة التي آلت إليها فيهما، وذهب أغلب المحللين أن تلك الصحوة الجماهيرية العربية ذات الطابع السلمي الفولكلوري ستطلق رصاصة الرحمة على الأطروحة الجهادية.

ومن المفارقات أن العكس كان هو الصحيح تمامًا، فقد كانت الأقدار تمهد لولادة ما هو أشد وأقسى من تنظيم القاعدة. أدى التعامل شديد القسوة للأسد مع الاحتجاجات إلى تهيئة مناخ ومزاج شعبي متقبل -بل ومنادٍ- بتسلّح الثورة، وقد استقبلت الساحة السورية في البداية بتسامح كل أطياف التنظيمات الجهادية تقريبًا التي وجدت نفسها -للمرة الأولى تقريبًا في منطقة عربية- قادرة على السيطرة والحكم. وفي حين لن نذهب إلى تفصيل تلك الخريطة زمنيًا أو مكانيًا، فإن ما يهمنا هنا هو الأثر الإستراتيجي الذي أدى إليه دخول السلفية الجهادية -سواء داعش أو جبهة النصرة- ابتداءً، وطبيعة تعاملها مع المسألة لاحقًا، على مسار الأحداث ككل.

تدريجيًا كان الثائرون يفقدون جزءًا من التعاطف والحماسة العالمية، نُظر إلى البلد على أنها محض مفرخة للـ «إرهابيين»، وتحول توصيف الحدث من الثورة لاعتباره حربًا أهلية، حتى من كانوا متحمسين للإطاحة بالأسد في البدايات صاروا يخشون البديل الإسلامي «المتطرف»، وحتى الرعاة الإقليميون للثورة صاروا أكثر خشية من التوسع في تقديم الدعم؛ خوفًا من أن يصيروا موصومين بالإرهاب، إذ أن كل من يحمل السلاح ضد الأسد قد صار إرهابيًا إلى أن يثبت العكس.

محليًا، قاتل الجهاديون فصائل الثورة الأكثر اعتدالاً أكثر مما قاتلوا الأسد، فأنهكوا البلاد والعباد، وانصرفوا إلى بناء مشروعهم الخاص الذي لم يكن متقاطعًا مع الثورة ولا أهدافها. باختصار: أنهك هؤلاء الثورة داخليًا واجتهدوا في إفقادها كل دعم إقليمي أو عالمي ممكن، وصرفت جهود السوريين إلى جدالات بيزنطية لا تقدم ولا تؤخر، ولم تكن في شغل السوريين المنتفضين ابتداءً.


2. أوباما الذي لا يُبالي: يومَ لم يعد للأسد خطوط حمراء


نهاية أغسطس 2013، المكان هو الغوطة الشرقية لدمشق، أقرب معاقل المعارضة قربًا من قصر الأسد، تنقل الكاميرات صورًا للأجساد المتناثرة في كل مكان، المئات من الأرواح فاضت إلى السماء بعد أن استنشقت غاز الأعصاب الفتاك، تطير الصور حول العالم، ويتصاعد الغضب الشعبي والرسمي، لقد اخترق الأسد أحد الخطوط اللحمراء التي أكد الأمريكيون عليها مرارًا، واستخدم الكيماوي ضد شعبه، حينئذ كان الجميع متيقنًا من أن الأمريكيين سيعاقبونه بقسوة.

كانت الطائرات على ممراتها مستعدة للمهمة تمامًا، والبوارج الحربية تستعد للانطلاق. تحدثت وسائل الإعلام والمسؤولون الرسميون عن الضربة بثقة مطلقة، وأبلغ السفير السعودي في واشنطن حينها «عادل الجبير» رفاقه أن «الرئيس -أوباما- سيضرب – الأسد- بلا شك»، وخرجت تصريحات النظام السوري خائفة مرتعبة تنكر صلتها بالحادث إنكارًا طفوليًا. لم يكن ثمة شك في أن نظام الأسد سيدفع ثمن خطواته المجنونة، إن لم يكن من أجل عيون السوريين فعلى الأقل لأنه تجرأ على تحدي قائمة المحظورات الأمريكية، قبل أن يتغير كل شيء في لحظة واحدة.

فاجأ أوباما العالم بالإعلان أنه لن يضرب الأسد، واكتفى البيت الأبيض بصفقة خجولة يتخلى بموجبها الأسد عن سلاحه الكيماوي -هكذا تعهد الروس على الأقل. هكذا قالها العالم ببساطة، بإمكانك الاستمرار في قتل شعبك بكل وسيلة تحب، لن نوقفك، فقط نتمنى ألا تستخدم في ذلك السلاح الكيماوي لأننا لا نحبه، وحتى لو فعلت فالله سيعاقبك وليس نحن.

كان الامتناع الأمريكي عن ضرب الأسد مشهدًا مركزيًا تمامًا في فيلم المأساة السورية، صار منطقيًا بعدها ألا يخشى النظام أي شيء، كان إعلانًا بأن الأمريكيين خصوصًا والمعسكر الغربي عمومًا لن يدخلوا المعركة السورية كفاعل مباشر، وحين كانت طائرات النظام تقصف المدنيين بعد ذلك بغير رحمة، لم يكن ثمة شك يعتريهم بأنهم سيفلتون من العقاب بالتأكيد.


3. التدخل الروسي: الموت الأصفر يحلق في الأجواء منفردًا


حسم بوتين أمره من البداية وقرر الاصطفاف ضد معسكر الثورة، ليس في ذلك شك، لكن أدوات الدعم كانت متدرجة. في المراحل الأولى وقف الفيتو الروسي عائقًا ضد أي قرار قد يصدر من مجلس الأمن بإدانة الأسد، تلا ذلك دعم سياسي معلن ومستشارون عسكريون، وحين لم يعد ذلك يكفي لضمان بقاء النظام، وصار التمرد العسكري يشكل خطرًا حقيقيًا علىه، قرر الروس التدخل للقتال بأنفسهم

الثلاثون من سبتمبر/ أيلول 2015، الطائرات الروسية تحلق في الأجواء السورية، التصريحات العسكرية الرسمية تتحدث عن دخول من أجل القضاء على داعش، لكن أيًا من الغارات الأولى لم يوجه ضد مناطق سيطرة التنظيم، ولم يجتهد الروس كثيرًا في تبرير التناقض، فهم ببساطة قد دخلوا من أجل الحفاظ على حكم الأسد، وستتوجه جهودهم إلى القضاء على من يشكل تهديدًا حقيقيًا له؛ أي كل التنظيمات باستثناء داعش. دعك من التصريحات الرنانة فهذه للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.

كان الدخول الروسي إلى المعركة كفاعل مباشر إيذانًا بانتهاء مرحلة وبداية أخرى، انتهت الأيام التي كان يمكن وصف الحرب فيها كمحض حرب أهلية داخلية، أو حرب إقليمية بالوكالة، وبدأت المرحلة التي صار اللاعب الدولي فيها هو الآمر الناهي، مهما بلغت قدرات المعارضة فقد صار لها حد طالما كان أزيز الطائرات الروسية يصم الآذان في السماء، ومهما بلغ سخاء الدول الإقليمية التي تسعى للإطاحة بالأسد، ففي غياب موقف غربي قوي، لم يعد بإمكانها أن تذهب في طموحاتها بعيدًا طالما السيد بوتين متمسك بالإبقاء على حاكم دمشق.


4. انقلاب تركيا الفاشل: لا تحسبوه خيرًا لكم، بل هو شرٌ لكم

( Güven Yılmaz – Anadolu Agency )

عجيبة هي السياسة، فهي لا تفتأ تفاجئنا بعكس ما ظننا أنه آتٍ لا ريب. ليلة الخامس عشر من يوليو / تموز، وبعد ساعات من فشل الانقلاب على حكومة الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، يتسابق المعارضون السوريون إلى تقديم التهاني، ويتبارى المحللون في توقع كيف ستنعكس تلك الأحداث على التعاطي التركي مع الملف السوري، ويذهب معظمها إلى التأكيد أن الرجل -المخلص للقضية السورية أكثر من أبنائها أنفسهم كما ظنوا- سيتوسع في دعمه للمعارضة بالتأكيد بعد أن تخلص مما كان يعوقه داخليًا، لربما كان الأسد يحزم حقائبه للسفر في تلك اللحظة.

كان المستقبل يحمل صورة معاكسة تمامًا، فأردوغان ببساطة هو رئيس لدولة تدعى تركيا، يسعى إلى تدعيم مصالحها القومية أولاً وثانيًا وثالثًا، وقد أثبتت الأيام اللاحقة أكثر من أي وقت مضى ذلك.

جعل التخاذل الغربي -الأمريكي والأوروبي- أثناء الانقلاب وبعده الأتراك يدركون أن ظهورهم ليست محمية تمامًا، وأن الغربيين قد يكونون حلفاء على الورق فقط، لربما كان الروس أكثر جدارة بالثقة منهم، تقربت أنقرة أكثر وأكثر من موسكو، اجتهدت في حل الأزمة الدبلوماسية التي نشبت عقب إسقاط المقاتلة الروسية، وعادت الاتفاقات التجارية شيئًا فشيئًا، وتبادل المسؤولون الزيارات الدافئة.

في غضون أسابيع كانت تركيا قد دخلت إلى الشمال السوري في عملية أسمتها «درع الفرات»، الدرع المقصود كان يقصد به حماية مصالح الأتراك القومية لا السوريين، سيطرد داعش من الشريط الحدودي، سيمنع الأكراد من ملء الفراغ وتكوين دويلتهم، وستجبر أنقرة الفصائل المتحالفة معها على توجيه قواتها إلى «الباب»، فيما حلب الأوْلى بتلك الحشود تُباد حرفيًا على مرأى ومسمع من الجميع، ربما سيتدخل الأتراك لتسوية «إنسانية» ما، ليس على المعارضة أن تحلم بأكثر من ذلك.


5. فوز ترامب: ممنوع على السوريين أن يحلموا بعالم سعيد

تكريا، انقلاب عسكري، رجب طيب أردوغان

شاب تركي يطلب من مجندين العدول عن المشاركة في انقلاب عسكري على الإرادة الشعبية – أنقرة – تركيا – 15 يوليو/تموز 2016.

ربما كان أكثر الناس حزنًا بفوز ترامب، بعد أنصار كلينتون، هم معارضو الأسد، لم يكن ينقصهم إلا أن يصل إلى البيت الأبيض من يضمر الصداقة لبوتين، ويعلن أن ليس ثمة موقف عدائي لديه تجاه الأسد، لربما يتحالف معه للقضاء على «بعبع» داعش.

لم تدعم واشنطن المعارضة السورية دعمًا جديًا بالتأكيد، بل ربما تدخلت أكثر من مرة لوقف محاولات بدا فيها إسقاط نظام الأسد احتمالاً غالبًا. يدّعي الأمريكيون أنهم لم يرغبوا بإسقاط حاكم دمشق قبَل ترتيب البديل، فيما هم لم يعملوا يومًا بشكل جدي على إيجاد ذلك البديل.

ليس من قبيل المصادفة بالتأكيد أن يحرص الروس والنظام السوري على «إنهاء» مسألة حلب في تلك اللحظة، حيث يغادر البيت الأبيض رئيس ويدخله رئيس. فأما الأول فلم يفعل لأجل وقف الهولوكوست السوري شيئًا أكثر من التصريحات الرنانة، وأما الثاني فيبدو أنه سيبخل عليهم حتى بتصريحات خافتة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.