بدأ موسم الدراما المصرية في رمضان الجاري بمعطيات مختلفة قليلًا عن السنة الماضية. تغيّرت موازين الإنتاج حسب نجومية الممثلين أو العمل ككل وأصبحت الأفكار الكبرى، الملحمية والدعائية أفكار منمّطة، أكثر حضورًا وتفحّشًا من السنوات السابقة.

منذ عدة رمضانات، يتواجد عادة عمل واحد هادئ وجميل بعيد عن سياقات الخلاف الجماهيري، أو حتى يكون اختلاف وجهات النظر حوله منطقيًا أكثر والنقاش حوله فعّال. نتذكر مثلًا من السنوات الفائتة هذا المساء لتامر محسن وخلي بالك من زيزي لكريم الشنّاوي.

خلال نفس المسار، يتجه مسلسل «مين قال؟» الذي تم عرضه خلال النصف الأول من شهر رمضان، ناحية حالة التناول البعيد عن السياقات الرمضانية الكبرى، والمعتاد الصراع حولها. المسلسل بطولة أحمد داش وجمال سليمان، برفقة مجموعة ممثلين صاعدين/ممثلات صاعدات، إخراج نادين خان وكتابة ورشة سرد التابعة للمؤلفة مريم نعوم.

اختلاف طرق

بدأ مسلسل «مين قال»، منذ أول مشاهده، بداية ذكية ومتقنة، يجلس الأب أمام شاشة الجهاز، وراءه عائلته، ينتظرون ظهور نتيجة الثانوية العامة لشريف، قطعات سريعة على طلبة\طالبات، كل منهم سعيد بنتيجته، بينما شريف، الشخص المنتظر، غافل عن موضوع نتيجته من الأساس ومشغول بمشروع أونلاين صغير ومجتمع حول صديقين يوزّع عليهما أوردرات لتصل للعملاء.

مفتتح «مين قال» يتجه لمركز الحكاية مباشرة، شلّة أبناء وعائلاتهم، وولد يتوسط الحكاية، كنموذج لطبيعة العلاقة المعاصرة بين الآباء والأبناء وما تنطوي عليه من مشكلات. حكاية لذيذة في 15 حلقة، وعلى المستوى التقني مكتوبة ومعروضة بحيوية، لا تريد أن تتجاوز الحكاية مساحتها العادية والهادئة. اعتمد العمل على استقطاب المشكلات المعاصرة، بعيدًا عن امتداد الجدل الذي لا ينتهي حولنا كأبناء وحول آبائنا، وحولنا كجيل وحول آبائنا كجيل آخر، والفراغ بيننا أكبر من القدرة على التواصل.

المشكلات التي يعمل المسلسل على عرضها  تبدو درجة ثانية من حيث تفاقم الأزمة. العلاقة بين شريف وأبيه مثلاً، ليست علاقة تعنيف مباشر، أو إذلال بالوصاية والكفالة المادية، أو أشياء أخرى تؤسس لقطاع كبير من طبيعة العلاقة بين الابن ووليّ الأمر في مصر حاليًا، صحيح أن شكل الخلاف الذي يعرضه المسلسل رومانسي مستقطع قليلًا، ولا يحاول الاقتراب من جذور وتحتيّات هذه الأزمة الجيلية. لكن يظل تسليط الضوء على مشكلات يمكن حلّها، بمجرد الإدراك والوعي القليل، فكرة جميلة تثبت قدمها في الدراما الرمضانية.

شد وجذب

علاقة شريف بأبيه مثلًا قائمة على شد وجذب وتحايل دائم، الأب يريد من ابنه أن يدخل كليّة لها مستقبل ثابت، والابن متمسك بالبيزنس ومهمل في دراسته على كل حال، كل واحد منهما يحاول أن يسحب الآخر تجاهه، الأب يدفع ابنه عنوة تجاه كليّة لها مستقبل، من باب الخوف، بينما ابنه يبدأ مشروعًا جديدًا بمصاريف الكليّة ولا يدخل السنة الدراسية الأولى.

مشكلة الاختيارات المبطنّة بالإجبار، هي واحدة من المشكلات الأبوية القليلة، الحاضرة بدرجات متفاوتة في كل طبقات وشرائح المجتمع، والقائمة على مسميات «المصلحة/ الخوف/أنا أعرف أكتر منك/ أنا عارف مستقبلك كويس» باعتبار أن الأب لديه خبرة وقدرة على خلق قرار للابن، لأنه مدرك لحيثيات الأمور أكثر.

بعيدًا عن الفقر الدرامي نسبيًا في المسلسل -سنعود لاحقًا لمعالجته- تحتفظ سردية المسلسل بعرض ذكي وجميل، يعيد إنتاج فكرة البطل المركزي، وعلاقة الآخرين به وبأنفسهم سياق الحكاية.

كل شخصية في العمل لها مسار مستقل، حتى لو لم يكن مسارًا ممتازًا، لكننا على الأقل لا نتساءل، مثلما نتساءل في معظم الأعمال الأخرى عن سبب واحد منطقي لظهور جزء كبير من شخصيات لا حاجة لها في العمل الدرامي.

لدى شريف شلّة أصدقاء، كل منهم يمثّل نموذجًا حاضرًا بيننا، من بينهم أكرم، شخص منطوٍ وقلق في التواصل مع الآخرين، كم صديق لديك عزيزي القارئ لديه قلق في التواصل المجتمعي؟ شريف يتعرّض من وقت لآخر لنوبات هلع، إحدى الصديقات في شلّته مندفعة دائمًا، متحمسة تجاه أي علاقة جديدة، والأخرى لديها ستايل مختلف، يدفعها دائمًا للتعرض للمقارنة بتابوهات الجمال. جميع هذه الأفكار، المنثورة بإتقان جميل في الكتابة، موجودة حولنا، نعاصرها بشكل يومي، والكثير منّا يتعرّض لها بصورة دائمة.

استوعب صنّاع العمل الدور الذي يمكن أن تلعبه الدراما في هذه المساحة، دون أن تقع في فخ المباشرة، أو تحويل قراءة قضية مجتمعية مؤثرة إلى خطاب وصائي، لا يختلف عن وصائية الخطاب الأبوي، استحالت الأفكار المركزية في المسلسل إلى مادة حكائية متدفقة، صحيح لم تكن دراما ممتازة أو فذّة، لكن من قال إن كل المسلسلات/ الأفلام يجب أن تكون عظيمة دائمًا؟ هناك احتياج كبير في الدراما المصرية لمثل هذه الأعمال، الجميلة والهادئة، مع تقبّل أنها لا تخلو من عيوب واضحة، لكنها تشتبك مع جيل الشباب الواقع بينه وبين أي طرف آخر هوّة فراغ كبيرة منذ عدّة سنوات، كمانع عن أي اشتباك مجتمعي فعّال.

بعد تجربتين إحداهما جميلة وحميمية في مسلسل «سابع جار»، والأخرى فاشلة في الجزء الأول من ليه لاء؟ تستعيد المخرجة نادين خان في «مين قال» قدرتها على استقطاب قضايا مجتمعية جانبية، حتى ولو كان الحديث عنها حاضرًا ومتكررًا، بفعل الوقت أصبحت مثل العادي، وتعيد إنتاج هذه القضية الدارجة، محيطة بحيثيات الأزمة، دون تنميط طرف، أو دفع طرف آخر ناحية موقف قبيح/ جميل واضح ومطلق، الشخصيات والحكاية ذاتها بينها وبين المشاهد مساحة للنظر وتكوين انفعال مستقل، دون الحاجة إلى إملاء من العمل وصنّاعه حول الموقف الذي يجب تبنّيه.

في العمل ظهرت بعض المشكلات، خاصة المتعلقة بالكتابة. رغم كتابة الشخصيات بشكل جيّد، 15 حلقة بها عدد أشخاص مقبول كل منهم لديه مسار فردي صغير، والجميع متجهون ناحية مركز الحكاية بتتابع متسق، إلا أن التصاعد الدرامي، وانتظار أن يحدث شيء فارق بالفعل، ضمن إطار التطورات الحاصلة، بدى بطيئًا وشحيحًا.

بدأ العمل بفقر التفاهم بين شريف ووالده، وأزمة حاصلة بين كل فرد من شلّة الأصدقاء ووليّ أمره، ومع ذلك، ثمة  شخصيات قطعت حكاياتها في المنتصف، أو بنهايات مفاجئة كي يتم الانتهاء من عنصر سردي ما، كذلك انتهى المسلسل بتفهم واضح وودود من الوالد تجاه ابنه شريف، دون وضع أزمات إضافية فعلية، رغم وجود مساحة جيدة لهذه الإضافات.

ربما انشغل فريق كتابة سرد بتضفير حيثيات أزمة الجيل والجيل الآخر مع الحكاية، لكن ذلك لم يكن كفاية لخلق حدوتة قادرة على التطور، وبفعل أن العمل على المسلسل كان بأدوات درامية تقليدية وخط درامي متتابع، كان من الضروري أن يكتمل العمل على نفس الثيمة، لكنه استحال إلى عدة التواءات، بعضها مفتعل، تنتهي بها الحلقات لخلق مدخل للحلقة التالية.

بالنسبة للممثلين، هناك ميزة في المسلسل، تم اختيار مجموعة كبيرة من الوجوه الجديدة، و للمفارقة كان أداء معظمهم جيّدًا، ربما أفضل من الممثل جمال سليمان، الذي رغم وجوده في الدراما المصرية منذ سنوات كثيرة بأدوار مختلفة اللكنات المحلية، لا يزال غير قادر على النطق كأب مصري بالفعل.

تجاه المركز

في حوار بين والدي شريف حول أحقية الولد في اختيار ما يناسبه، وضّح الأب لزوجته أن وضعهم الاجتماعي «إللي جاي على قد اللي رايح» وأن الولد ليس مرفّهًا وله مستقبل مضمون بفعل غنى الأب. كان جمال سليمان يحدث زوجته وهم جلوس في صالة واسعة، بمنزل جميل في كومباوند بالتجمع الخامس، أمّا عن شريف غير المرفّه، لديه «سكوتر» وماك بوك هدية أعطاها له والده منذ عدّة أيام. طبعًا شريف دفعه والده لدخول جامعة خاصة مكونة من ثلاثة حروف إنجليزية.

منذ مطلع القرن الجديد وحتى أيامنا، تتصاعد الهوة بين الطبقات الاجتماعية بصورة متكررة، العلاقة بين طبقة وأخرى، وبين طبقة وذاتها أصبحت أكثر تركيبًا من التقسيمة القائمة على العمالة والإنتاج. مجتمع الكومباوند الدخول فيه يزيح من طبقة لأخرى، ظهر الكومباوند في مصر لإعادة تكوين مجتمعات صغيرة، مُهندَسة معماريًا ولها شكل بعيدًا عن التشوه المكاني للقاهرة، وبها قدرة على خلق حالة أكثر أمانًا من الشارع، وطبعًا هي تطور منطقي لإضفاء لغة خاصة لكل طبقة اجتماعية وطريقة عيشها.

«إللي جاي على قد اللي رايح» مثلما يقول الأب عن وضعهم المادي، يعود إلى التراتبية الطبقية داخل مجتمع الكومباوند نفسه، وليس بالنسبة لعموم المجتمع، لأنه ربما يكون هناك، في نفس الحيّز المكاني الصغير، أولياء أمور قادرون على إغناء أبنائهم عن العمل. بفعل إعادة التراتبية من جديد، أصبح مسؤولاً كبيرًا في مصنع أدوية يتقاضى مرتبًا ضخمًا ويعيش في بيت مستقل، عرضة هو وأولاده للتهديد المادي!

دراما الطبقة المتوسطة

ماذا عن قطاع الطبقة المتوسطة الكبير، بعيدًا عن هذه التقسيمات المصغرة؟ خلال هذه السنوات تتم إحالة مادة الطبقة المتوسطة من السينما إلى الدراما، طالما كانت سينما الألفينات معنية بنزع مفهوم الجماعة عن الطبقة المتوسطة، وتقديم سرديات فردية لأشخاص وصلوا من القاع. لكن الدراما الحالية متجاوزة لفكرة النزع هذه، وبدأت في عرض شكل جديد للطبقة الأدنى، الأحق بالظهور كقياس للطبقة المتوسطة، وهي الشريحة الأعلى منها.

لنستعيد الأفكار الرئيسية لعدة مسلسلات سابقة تم عرضها. انتقلت علا في مسلسل «البحث عن علا» من شقة العائلة الصغيرة إلى كومباوند وبيت خاص، وحينما انفصلت عن زوجها، انحصر تحققها الذاتي في قدرتها على الإنتاج. طبيعة إنتاجها مرفّه ونابع من حيثيات ارتقائها الطبقي وما أعطاه له من مميزات، لذلك المشكلة التي واجهتها، وتجاوزتها علا في المسلسل، بدأت كمشكلة نسوية، لكن تم تنميطها وإزاحتها تجاه قاعدة أن المرأة المنتجة والمحققة ذاتيًا، هي بالضرورة ابنة لطبقة أعلى من كثير من البنات الطموحات لنفس الغاية. نفس حالة الاستقطاع هذه تتواجد كأساس درامي في الجزء الأول من مسلسل ليه لاء، حيث التحقق المجتمعي والذاتي في حياة عالية-أمينة خليل مستمد من قدرتها الطبقية، وما يعطيها ذلك من مزايا فردية.

تبدو نفس الآفة في مسلسل «مين قال»، وإن كانت بشكل أقل، لكنها حاضرة كأساس عام يغلّف حكاية المسلسل من الخارج، بحيث إن شلّة الشباب والبنات تصلح كقياس لعموم الآخرين في المجتمع، وشخصية شريف المميزة نموذج جيد يعكس آخرين كثيرين، وتخوفات الأب المادية حول قيمة وشكل ابنه في المجتمع، تحت ذلك الإطار من رفاهية حياتهم، تصبح قياس تخوفات الآباء عمومًا.

مسلسل «مين قال» لديه محتوى جميل ومقبول، رغم خضوعه لسردية الطبقة المتوسطة بثوب جديد، ورغم تصاعد اغتراب المشاهدين عن تفاصيل عيشهم الحقيقية أمام الشاشة، لكن على الأقل نستطيع أن نشتبك مع المسلسل من عدة نواحٍ. وربما تكون مثل هذه المسلسلات نماذج مقبولة للدراما الخفيفة، القادرة على الوصول بسهولة للمشاهدين، دون افتعال أو حشد لدفعة من الأفكار الكثيرة والأسئلة. كأن النصف ساعة مدة الحلقة هي آخر أوقات الدنيا.