يتساقط لاعبو الفريق واحدًا تلو الآخر، فأجبرتهم الظروف على الاستعانة بمراهق يبلغ من العمر 16 عامًا فقط، الإصابات تضرب الفريق بشكل لافت، حتى انتقلت العدوى من ديمبيلي إلى ميسي، وكأن الجميع كان ينتظر ذلك حتى يدركوا أن ليونيل قد تجاوز الـ 30 من عمره، وعملية إنهاكه لا سبيل لوقفها.

وبينما كانت الجماهير تحدث نفسها غضبًا مما يحدث، فاجأهم مدرب الفريق إرنستو فالفيردي بتصريح غريب:

لا أهتم بالإعداد البدني للفريق بصورة كبيرة، حينما نخسر فالجميع ملام وحينما نفوز فليست أزمة. خسرنا نقاطًا أكثر من المتوقع، ولكننا نستطيع المضي قدمًا.






«إرنستو فالفيردي» في المؤتمر الصحفي قبل مباراة برشلونة وخيتافي، الدور الأول لموسم 2019/2020


بشكل تلقائي وبمجرد قراءة التصريح، ستربط بين الإصابات العضلية والإعداد البدني. لكن ماذا لو كان فالفيردي لا يقصد، ويريد إخبارنا بشيء آخر؟ شيء يعبر عن تطور في اللعبة لم نلحظه بعد.


الفيلسوف يتفق مع زميله

الآن، حاول أن تتناسى خلافك مع فالفيردي وكرته الرديئة وتخيل نفس التصريح صادرًا عن أفضل مدرب بالعالم في الألفية الجديدة وفقًا لتصنيف الكثيرين، بيب جوارديولا. ماذا لو أخبرتك أنك لست بحاجة للتخيل لأن بيب قد صرح به فعلاً؟

الشق البدني لذاته ليس موجودًا من وجهة نظري، أنا أرى أن العقل يتحكم بكل شيء. ما عليك فعله داخل الملعب، بالكرة وبدونها بجانب بعض الظروف الأخرى أهم من الناحية البدنية.






«بيب جوارديولا» في أحد المؤتمرات الصحفية رفقة مانشستر سيتي


نال فالفيردي ما نال من السخرية، أما تصريح بيب فمر مرور الكرام لأن فريقه على الأرجح لم يكن متخمًا بالإصابات. وعلى الرغم من الاختلاف الحاد بين فلسفة كل منهما في اللعب، لكن يبدو أنهما التقيا في نقطة علينا تفسيرها.

يمكننا أن نصف الجانب البدني في كرة القدم وما شابهها بأنه أداة التنفيذ التي تترجم أفكار اللاعب. المفاصل، العضلات، الأربطة، جميعها تمتلك قدرة محددة للحركة، وقدرًا معينًا من التحمل، تجاوزه يعرّض اللاعب للإصابة بالطبع، وبالتالي إذا أردنا زيادة سرعة الفريق وإيقاع لعبه، فإن ذلك لا يتم برفع سرعة اللاعبين أثناء الركض، أو قدرتهم على الركض لفترة أطول.

بل يتم بزيادة وعي اللاعب بمهامه داخل الملعب، هجوميًا ودفاعيًا، وإدراكه لما حوله داخل الملعب: الزميل، الخصم، الكرة، المساحة. قد يكون هذا هو تفسير عرضيات كيفين دي بروين التي يرسلها إلى القائم البعيد دون أن ينظر. المهم أن سرعة اتخاذ القرار باتت أهم من سرعة الركض، خاصةً أن الوقت لم يعد متاحًا كالسابق.


تلفّت كاللصوص

يخبرنا «هانز ديتر هيرمان» الطبيب النفسي للمنتخب الألماني أن

متوسط الوقت المتاح للاعبي منتخب بلاده بالكرة

كان 2.9 ثانية في كأس العالم 2006، وتقلص الرقم إلى 0.9 ثانية في كأس العالم 2014. انخفض الرقم إلى الثلث تقريبًا في 8 سنوات فقط. تطور أسرع من المتوقع، قد يعود إلى ذلك الهوس بالضغط العالي والدفاع بالاستحواذ على الكرة لا بدونها. والمحصلة؛ تقلص الوقت المتاح لكل لاعب للتصرف.

بات اللاعب مجبرًا على التحضير مسبقًا للعبة لاستثمار وقته الضئيل، وكانت أولى الخطوات الفعالة لذلك هي النظر حوله قبل استلام الكرة أو ما يعرف بمصطلح المسح «Scanning». يتقمص اللاعب دور اللص الذي لا يكف عن التلفت حوله من شدة القلق، ويقوم بجمع المعلومات اللازمة عن المساحة الشاغرة، وأقرب خصم لتجنبه، وأفضل زميل متاح للتمرير.


كلما نظر اللاعب أكثر، تمكن من جمع معلومات أدق، وبالتالي كان أسرع في اتخاذ القرار، حتى لو لم يكن أسرع من خصمه على مستوى الركض. قد يكون الإسباني تشافي هيرنانديز هو المثال الأفضل لشرح ذلك، فإذا نظرت إليه تشعر أنه أبطأ لاعبي الفريق، لكن عند الحركة والاستلام والتسلم كان يظهر كمن يمتلك عيونًا إضافية في ظهره، تمكنه من إدراك ما حوله بشكل أكثر تفصيلاً.

في هذا الصدد، قام

دكتور «جيير جورديت»، الأستاذ بجامعة النرويج للعلوم الرياضية

، بمتابعة

مقاطع فيديو لـ 250 لاعبًا لتحيل ما يقومون به قبل استلام الكرة

. فوجد ستيفن جيرارد ينظر حوله بمعدل 0.61 مرة بالثانية، ومواطنه فرانك لمبارد بمعدل 0.62 نظرة بالثانية، بينما كان الرقم الأعلى من نصيب تشافي الذي كان ينظر بمعدل 0.83 مرة في الثانية.

ثم قام «جورديت» بتقسيم 118 لاعبًا من لاعبي الوسط والهجوم إلى ثلاثة مستويات: ضعيف ومتوسط ومرتفع، وفقًا لمستوى الـ«Scanning». حظي اللاعبون من المستوى المرتفع بأعلى نسبة دقة تمرير 81%، مقابل 64% للاعبي المستوى الضعيف، حتى على مستوى التمرير للأمام كانت الفروق واضحة. لننتقل الآن إلى السؤال الأهم الذي يجول بذهنك: هل ما فعله تشافي ولامبارد وغيرهما كان ناتجًا عن التدريب أم الموهبة؟

الواقع الافتراضي

توجه دكتور «جورديت» لسؤال لامبارد نفسه عن تلك المهارة، ليفاجئه فرانكي باعتقاده أنه وُلِد بها، وبالتبعية فهي مهارة فطرية غير مكتسبَة، وهو ما لا يتفق مع محاولات جوارديولا وغيره لتطوير لاعبيهم ذهنيًا، لذلك سنذهب إلى تفسير علم النفس.

وفقًا لكتاب «Thinking, Fast and Slow»، هنالك نظامان للتفكير: الأول، يعمل تقائيًا وبسرعة مع بذل جهد ضئيل، وبدون شعور بالتحكم الطوعي «voluntary control»؛ أما الثاني فيرتبط بالأنشطة العقلية التي تتطلب مزيدًا من الجهد وتحتاج للتحليل والاختيار.

يمكن القول إن ذلك النظام الآلي (النظام الأول) شبيه بما يفعله ميسي عند تجاوزه للمدافعين واحدًا تلو الآخر كأنهم حواجز ثابتة، دون أن ينظر كثيرًا حوله أو أنه يدرك ما حوله بسرعة خارقة؛ أما النظام الثاني،

فوفقًا لدكتور علم النفس الرياضي بنادي هوفنهايم «جان ماير»

يمكن العمل على تطويره.

تؤكد تلك

الورقة البحثية التي نشرت بعام 2012 ذلك

، إذ وُجِد أن نخبة الرياضيين في رياضات الكرة يحرزون درجات عالية في اختبارات ما يعرف باسم «الوظائف التنفيذية»، وتحديدًا الإبداع والتتبع البصري وتبديل المهام والذاكرة والتحكم العاطفي، ومن هنا أتت فكرة استخدام ألعاب المحاكاة والواقع الافتراضي «Virtual Reality» لتطوير هذه الوظائف شاملة مهارة الـ«Scanning».



كان نادي هوفنهايم الألماني سباقًا في ذلك الأمر

بفضل «ديتمار هوب» مالك النادي ومؤسس شركة «SAP» للبرمجيات، حيث يمتلك النادي شاشة كبيرة منحنية على امتداد 180 درجة، تعرف باسم «Helix»، وقد تم ضبطها بواسطة شركة «SAP» لتدريب اللاعبين على تحريك رؤوسهم في كل الاتجاهات للتذكر، وتتبع خصومهم وزملائهم الافتراضيين.

اختلاف الظروف بين العالمين الافتراضي والواقعي قد يجعلك تتساءل عن مدى جودة النتائج، لكن

الورقة البحثية التي نشرها طالب الدكتوراه بجامعة مونتريال «توماس رومايس»

أكدت تحسن قرارات اللاعبين الذين مارسوا تدريبات شبيهة بالـ «Helix» بنسبة تصل إلى 15%، مما يعني أن انتشار تلك التكنولوجيا قد يجلب مزيدًا من النتائج ومزيدًا من الأبحاث.

لعل هذا هو أبرز التطورات جنونًا في تلك اللعبة، لكن عليك أن تدرك أمرين قبل الختام: الأول هو أن الجانب البدني ما زال مهمًا، لكن الجانب الذهني بات أكثر أهمية من ذي قبل، وكلما زاد مستوى المنافسة زادت أهميته؛ والثاني هو أن الألعاب المستخدمة لتطوير اللاعبين ليس المقصود بها ألعاب الـ Play Station والـ Xbox.