تسلمت تركيا خلال الأيام القليلة الماضية منظومة إس-400 الروسية للدفاع الجوي، في تحدٍ واضح للتهديدات الأمريكية بفرض عقوبات عليها إذا واصلت الصفقة. الكثير من الأسئلة تُطرح على هامش هذه الصفقة التي

عدتها أنقرة

«الأهم في تاريخ تركيا»، نحاول في هذا التقرير تناول أهم هذه الأسئلة.


أين ستنشر صواريخ إس-400؟

أشارت

تقارير صحفية

تركية، في مايو/ أيار الماضي، أن الحكومة تعتزم نشر نظام إس-400 للدفاع الجوي في العاصمة أنقرة، فور وصولها وتجهيزها للعمل، لكن

صحيفة بلومبرج

نشرت في نفس الشهر، نقلًا عن 4 مسؤولين أتراك معنيين بالملف، أن تركيا تفكر في وضع بطاريات إس-400 على طول ساحلها الجنوبي حيث ترافق سفنها الحربية سفن التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط.

تبدو المعلومات متضاربة إلى الآن، لكن من الممكن أن تقوم السلطات التركية في البداية بوضع بطاريات إس-400 في العاصمة أنقرة حتى تكتمل جهوزية المنظومة وتدريب القوات التي ستعمل عليها، ثم بعد ذلك تُنقل إلى الساحل الجنوبي حيث تقاتل أنقرة للحصول على حصة في غاز المتوسط.


قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية

في العام 2010 احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون م3 من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل وغزة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، ومنذ ذلك الحين تواصلت الاكتشافات التي تؤكد صحة التقديرات.

تعتقد تركيا أن لها نصيبًا في ثروات شرق المتوسط، وتتنازع مع قبرص اليونانية على تحديد المناطق البحرية، إذ تعتبر أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها، كما تطالب تركيا بحقوق جمهورية قبرص التركية (التي لا يعترف بها أحد في العالم سواها) في ثروات جزيرة قبرص، ويرفض كلٌ من قبرص اليونانية واليونان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، الادعاءات التركية ويعتبرون أن تنقيبها في شرق المتوسط غير مشروع.


تفاقم الصراع

منذ فبراير/ شباط 2018، عندما أعلنت أنقرة اعتزامها التنقيب عن النفط والغاز شرق البحر المتوسط، واعتبرت أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين مصر وقبرص عام 2013 غير قانونية، وهو ما قوبل بتحذير مصري من «أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، وأنها تعتبر مرفوضة وسيتم التصدي لها».

لكن في ذات الشهر

قامت البحرية التركية

باعتراض سفينة تابعة لشركة «إيني» الإيطالية كانت في طريقها للتنقيب عن الغاز في إحدى المناطق المتنازع عليها مع قبرص اليونانية بموجب اتفاق مع الأخيرة، وبذلك استخدمت تركيا للمرة الأولى في تاريخها الحديث قوتها الخشنة لاعتراض سفينة أوروبية.

منذ ذلك الحين، أرسلت تركيا أكثر من سفينة للتنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، آخرها

سفينة «ياووز»

التي أرسلت في 20 يونيو/ حزيران الماضي، لتنضم إلى سفينتي «بربروس» و«الفاتح» في مهامهما.

في ظل هذا الصراع المشتعل، يبدو أنه من المنطقي أن تنشر تركيا بطاريات منظومة إس-400 للدفاع الجوي على سواحلها الجنوبية؛ لحماية ما تعتبره حقها في ثروات شرق البحر المتوسط.


دليل جديد على عمق علاقات موسكو – أنقرة

يعتبر اكتمال صفقة إس-400 تعبيرًا جديدًا عن مدى عمق العلاقات الروسية – التركية، إذ لا يمكن فصلها عن تطور العلاقات بين البلدين، والذي شمل مؤخرًا أيضًا التفاهم حول الأوضاع في سوريا، والاقتراب من إتمام خط غاز «السيل التركي» الذي يبدأ من روسيا ويمتد إلى شرق وجنوب أوروبا عبر تركيا.

وقبيل إعلان وصول إس-400 إلى أنقرة، كشفت

صحيفة «موسكو تايمز»

أن خط «السيل التركي» اكتمل بنسبة 90%، وأن 86% من أعمال البناء لمحطات الاستقبال في تركيا تم الانتهاء منها، وعليه سيتم افتتاح خط الغاز أواخر العام الجاري كما هو معلن سابقًا.


وتستخدم موسكو

خط «السيل التركي» لدعم نفوذها في الفناء الخلفي لأوروبا، وتعميق علاقتها الإستراتيجية مع أنقرة، التي لا تمانع في تمكين روسيا من التحكم في تدفق الغاز إلى أوروبا طالما أنها مستفيدة.

كما سيمكن خط الغاز الجديد روسيا من الضغط على أوكرانيا، التي

تفرض الدول الغربية

على موسكو

عقوبات

بسببها. فرغم أن شبكة خطوط الأنابيب المتعددة التي توجه الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية عبر أوكرانيا تعتبر هامة للغاية، سيتسبب

تقليل استخدامها

بسبب الخط التركي الجديد في خسائر كبيرة للسلطات في كييف، وهو ما سيمنح موسكو ورقة ضغط لتسوية الأزمة المندلعة منذ العام 2014 مع أوكرانيا، إثر قيام

روسيا بضم شبه جزيرة القرم

الأوكرانية إلى أراضيها، ما أفضى إلى فرض عقوبات غربية عليها.


ما بعد 2016 ليس كما قبلها

لا يمكن إغفال دلالة التاريخ الذي سلمت فيه روسيا منظومة إس-400 إلى تركيا، فهذه الأيام تمر الذكرى الثالثة للانقلاب العسكري الفاشل الذي حاول الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان عام 2016. هذا التاريخ لم يتم اختياره عن طريق الصدفة من قبل الجانب الروسي، فموسكو حريصة على تذكير أنقرة بأن فلاديمير بوتين كان

أول من دعم

الرئيس أردوغان في ذروة محاولة الانقلاب، على عكس حلفاء تركيا التقليديين، الذين تأخروا في إبداء التعاطف بدعوى «ضبط النفس».

لم تغفل الصحف الفرنسية دلالة التاريخ، فألقت باللوم على الدول الأوروبية في دفع تركيا نحو الأحضان الروسية. و

اعتبرت صحيفة «لوموند»

أن حقيقة الصفقة هي أن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم تظهر دعمها لتركيا وقت الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، وهو ما أثار استياء الحكومة التركية وتم تصوير الدول الغربية على أنها قوى شريرة لها هدف واحد فقط هو إسقاط تركيا.


ما هو موقف الدول الأوروبية من الصفقة؟

منذ بداية الحديث عن صفقة إس-400 التركية، التزمت أغلب الدول الأوروبية الصمت، فلم تعلق عليها سوى في إطار حلف الناتو. فيما

اعتبرت فرنسا

، الشهر الماضي، أن السلطات التركية تستخدم حقها السيادي في قرارها اقتناء صواريخ «إس-400» الروسية، لكنها دعت أنقرة إلى حل خلافاتها مع سائر دول الناتو لتجنب إضعاف قدرات الحلف.

أما حلف الناتو فلم يتخذ حتى الآن أي قرار رسمي بشأن الموقف من تركيا، واكتفى

بالتعبير عن القلق

إزاء التداعيات المحتملة لقرار تركيا حيازة منظومة إس-400 عقب تحذيرات متكررة من أن المنظومة الروسية تتعارض مع أنظمة الحلف الذي تعتبر تركيا عضوًا هامًا فيه.

وحتى الآن يبدو أن صفقة إس-400 لن تؤثر على العلاقات التركية الأوروبية، وربما هي بمثابة إنذار لأوروبا بأن أنقرة تبتعد عنها يومًا بعد يوم، كما

لا يبدو أن حلف «الناتو»

سيقوم بمعاقبة تركيا، إذ لا تنص معاهدته التأسيسية على أي آلية للعقوبات ضد أي عضو، ولا توجد قواعد داخلية في الحلف يمكن أن تسمح بدراستها، وبالتالي، فإن الجميع سينتظر رد الولايات المتحدة على تركيا.


هل تقدم واشنطن على معاقبة أنقرة؟

حتى أسابيع قليلة ماضية،

كانت الدبلوماسية الأمريكية

مقتنعة بأن تركيا لن تكمل طريقها للحصول على منظومة إس-400 بعد التحذيرات الأمريكية، الآن وقد حصلت تركيا على إس-400، فكيف سترد الولايات المتحدة؟

خلال زيارته إلى مقر الناتو في بلجيكا أواخر الشهر الماضي،

قال وزير الدفاع الأمريكي

بالإنابة مارك إسبير: «إذا تسلمت تركيا منظومة S-400 ، فلن تحصل على طائرة F-35، الأمر بهذه البساطة».

الطائرة F-35 تعتبر مستقبل الطيران العسكري، وهي أغلى نظام أسلحة في التاريخ. وتخطط تركيا للحصول على 100 من هذه الطائرة لتحديث أسطولها الجوي، كما تشارك في برنامج تطويرها إلى جانب 8 دول أخرى تقودها الولايات المتحدة،

ودفعت حتى الآن

1.4 مليار دولار في البرنامج.

وإلى جانب حرمان تركيا من الحصول على صفقة طائرات F-35، فإن الشركات التركية المشاركة في تطوير الطائرة، ستخسر فرصًا تجارية كبيرة. ففي أبريل/ نيسان الماضي،

حذر مايك بينس

، نائب رئيس الأمريكي، من أن طرد تركيا من برنامج F-35 المشترك «لن يضر فقط بقدرة تركيا الدفاعية، لكنه قد يشل العديد من الشركات المصنعة للمكونات التركية التي تشارك في هذا البرنامج»، وتنتج الشركات التركية 844 قطعة من مكونات F-35.

من جانب آخر، أخبرت إلين لورد، وكيل وزارة الدفاع الأمريكية، المراسلين في البنتاغون، الشهر الماضي، أن «هناك تصميمًا قويًا من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) في الكونجرس الأمريكي على فرض عقوبات كاتسا على تركيا إذا حصلت على S-400»، وتعالت حاليًا أصوات أعضاء في الكونجرس لتطبيق قانون كاتسا.


وكاتسا

هو قانون مكافحة خصوم أمريكا عبر العقوبات الذي صدق عليه الكونجرس عام 2017، وينص على فرض عقوبات على الدول والشركات والأفراد التي تتعامل مع شركات السلاح الروسية والإيرانية والكورية الشمالية.

حتى الآن تعتقد أنقرة أن واشنطن لن تقدم على فرض عقوبات عليها. قبل يومين،

قال الرئيس التركي

رجب طيب أردوغان، خلال استقباله رؤساء تحرير مؤسسات إعلامية تركية، عن ثقته بأن نظيره الأمريكي دونالد ترامب، لا يتشاطر الأفكار نفسها عن إخراج تركيا من برنامج إف-35، مع مسؤولي إدارته، كما أكد أن تركيا غير مدرجة ضمن «قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات».

بالفعل،

ترامب غير متحمس

لفكرة معاقبة تركيا بسبب شرائها منظومة إس-400، وأبدى مؤخرًا تعاطفه مع الموقف التركي، ملقيًا باللوم على إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، في وضع شروط لشراء تركيا صواريخ «باتريوت» الأمريكية.

من الناحية النظرية، واشنطن مضطرة الآن للرد بحزم على أنقرة لإرسال تحذير قوي إلى أردوغان، ولجعل أي خطط تركية لشراء أسلحة روسية في المستقبل أمرًا أكثر تعقيدًا، ولتحذير الدول الأخرى التي قد تسعى للحصول على معدات عسكرية روسية مشابهة خاصة إذا كانت ضمن دول حلف الناتو. لكن عمليًا، تركيا لا تزال مهمة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة ولحلف الناتو ولأوروبا، لذا من المتوقع أن يكون الرد معتدلًا وغير مؤذٍ بشكل كبير.