ومن ثم فإن السطور القادمة لن تسعى للخط فيما خط فيه آخرون من حيث الجواز من عدمه، أيضا لا تهدف تلك الكلمات إلى التبرير والاستزادة من سلوك بعينه سواء بالحجب أو الإباحة، وإنما نسعى إلى محاولة الوقوف على ظاهرة اجتماعية ألقت بظلالها على الواقع المصري في الآونة الأخيرة ابتداءا من ثورة يناير/كانون الثاني 2011، إلى أن وصلت لذروتها بعد 30 يونيو/حزيران 2013، ألا وهي محاولة رصد للدوافع والأسباب التي أدت إلى ارتفاع مستوى البذاءة اللفظية على المستوى السياسي. وعليه فإن مسار الحديث أدناه يسعى لاستجلاء الدوافع الكامنة لتفشي تلك الظاهرة ومدى ملاءمتها للمنطق والفكر.




وضع أرسطو قواعد ومبادئ الاستدلال، والتي تعد ضابطة لموازين الفكر دون إخلال أو تناقض مع القيم العقلية

عادة ما يُشار إلى الانسان باعتباره الكائن الأرقى في سلم الكائنات الحية باعتباره كائن مفكر وناطق. وقد اتفق المفكرون على مدار الأزمنة والعصور وباختلاف الحضارات على اعتبار الفكر واللغة عنصران متكاملان لا غنى عنهما ولا انفصال بينهما. ومن هنا جاء القول بأن اللغة هي الفكر المنطوق، والفكر هو اللغة غير المنطوقة. وهو ما أشار إليه أبوحيان التوحيدي بأن «النحو منطق لغوي، والمنطق نحو عقلي».

وليس خفيا أن أحد الدعائم الأساسية والتي جعلت «سقراط» يتصدى للسوفسطائية تمثلت في إخلال السوفسطائيين بين متلازمة العقل واللغة إذ لا يمكن أن تنصرف اللغة بدون فكر يضبط بالأساس حركتها، فلا يُعقل للانسان أن يكون الشيء ونقيضه في ذات الوقت، ولعل ما جاء به «أرسطو» لاحقا داعما لنفس الإطار، حيث وضع ارسطو قواعد ومبادئ الاستدلال والتي تعد ضابطة لموازيين الفكر وحاكمة له دون إخلال أو تناقض مع القيم العقلية.

وبذلك فإنه يمكن القول بأن اللغة هي مجموعة من الاصطلاحات التي تعبر عن صور ذهنية، وتحظى بالقبول العام بين المتعاملين بها. وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في كتابه «هذا هو الإسلام»:

اللغة التي يتكلم بها الناس ألفاظ مفردة لها معان محددة. القضية الأساسية في الوجود هي أن تحكم مفرداتة اللغة بنسبة يقينية، ولا يكفي في النسبة أن تكون مجزوما بها ولا أن تكون واقعة، وإنما تتطلب شيئا آخر هو أن يقام عليها الدليل، فكلمة الأرض هي مجرد لفظ يحمل في الذهن تصور معين عن شيء ما، إذا ما أضفنا إليها «كروية» تصبح تلك نسبة ويقع فيها الجزم بأن الأرض كروية وقامت عليها الأدلة والبراهين العلمية ومن ثم فالقول بأن الأرض كروية يعد نسبة يقينية.


شهد المجتمع المصري حالة من الاستقطاب الحادة لم يعرف لها مثيل في تاريخه الحديث وذلك بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما صاحبها من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية جعلت الناس تنشغل بالشأن العام وتدلي فيها بما تراه صحيحا ومناسبا.

ويمكن القول بأن أحداث 30 يونيو/حزيران 2013 وما تلاها من أحداث، حدا بالبعض إلى اتباع حملات ممنهجة في السب والقذف للنظام الحالي الذي يترأسه «عبدالفتاح السيسي». بل فقد تم تدشين العديد من الوسومات على المواقع الاجتماعية كـ«تويتر»، و«فيس بوك» التي تهاجم النظام وتصفه بألفاظ نابية تتنافى مع القواعد الأولية للأخلاق والمبادئ المجردة، الأمر الذي شكل جبهة تنديد مُعارضة ضد رموز النظام وعلى رأسهم السيسي.

وانبرت المعاقل الإعلامية المؤيدة للنظام في حملات مضادة مفادها النيل من المعترضين بأن تلك الأخلاق لا تتناسب مع الفكر الوسطي ومع المبادئ الدينية العامة. ولا يمكن القول بأن الهجوم على النظام الحالي يكمن بالأساس في أنصار تيار الإسلام السياسي وجماعة الأخوان بل انشغل به العديد من أصحاب القضايا الاجتماعية لما يرونه في النظام الحالي من إعادة تكريس لنظام قمعي وأمني وبشكل أكثر عنفا من ذي قبل مما يعد تهديدا عميقا ومبالغا فيه للحريات والمبادئ الإنسانية المجردة.

ووفقا والمعطيات السابقة فإن السطور القادمة تسعى للوقوف على تلك الظاهرة ورصد بعض ملامحها الأساسية في ضوء ملابساتها المجتمعية:

  • لم تعد الانتهاكات المُمارسة من النظام الحالي تشكل أي درجة من الامتعاض عند الكثيرين وباتوا في اعتياد على جرائم ضد الانسانية كالسحل والاختفاء القسري والتعذيب والاحتجاز غير القانوني والاعتقال . وفي السياق ذاته ما انفكت المنابر الإعلامية المحسوبة على النظام في الترويج لخارطة الطريق الجديدة انطلاقا من محاربة الإرهاب المتمثل في جماعات الإسلام السياسي وهو ما يضع النظام أمام الإشكالية الكلاسيكية المتمثلة في ضرورة الحفاظ على النظام والدولة من الإرهاب بحفظ الأمن والنظام.
  • بات الاستهجان عند الكثيرين مرتبطا باللفظ وليس بالفعل، فتحول الإلزام الخُلقي إلى مجرد تناسق ظاهري يقيم الفعل وقوة فاعله، ففي حين يتم تعذيب المواطنين وانتهاك حقوقهم الأساسية إلا أن الاستهجان لا يقع على هذا الفعل بالأساس في تقويض صريح وعمدي لفقه الألويات، وينصرف الاشمئزاز قصرا على السلوك التابع والذي قد يتمثل في الرفض بشتى صوره. بمعنى آخر لم ينزعج الكثيرون من انتشار القمع والقهر مجتمعيا على الكثيرين والارتدادات العكسية المتتالية والتي شكلت انتكاسات هائلة لثورة يناير/كانون الثاني 2011، ولكن جل ما أقض مضاجعهم كان أحد مظاهر الإخلال بالآداب العامة متمثلا في بذاءة القول التي لا تتنافى مع أخلاقياتنا وتربيتنا.
  • اللغة كما أشرنا هي اصطلاح متفق عليه ويحظى بالقبول العام. الرفض الناتج عن التجاوزات اللفظية يرجع مباشرة إلى عدم قابلية البعض للكلمات نفسها وليس لدلالته في الذهن أو نسبتها في العقل. ولعل أبرز مثال هو الكم الهائل من الألفاظ الفاحشة والنابية التي يتم تداولها إعلاميا ولكن بتحوير وتبديل في حرف بحيث تعطي نفس الدلالة السمعية على الأذن ولا تخل بالمعنى البذئ المراد. علما بأن الأصل أن يتم استهجان كل ما يثير ذلك المعنى في الذهن وليس اللفظ فقط فالقضية الأخلاقية بالأساس قائمة على استهجان صور ذهنية بصرف النظر عن طريقة التعبير عنها. فإذا ما أضفنا بعدا هاما بتلك المعادلة أن هنالك عديد لا يلتفتون إلى بذاءات الإعلام المؤيدة لسلوكيات النظام.

في ضوء ما سبق وفي ظل ما أسلفنا عرضه للانتهاكات التي تُمارس في حق المواطن المصري، الأمر الذي يفرض بشكل بديهي وسائل تعبير جديدة أكثر رفضا للواقع المُعاش وأن الحملات الهادفة للحفاظ على الآداب العامة وإن صدق بعضها في جوهره، إلا أن كثيرا منها لا يخلو من توجيه فوقي بهدف الإلهاء في قضايا فرعية لم تبلغ فداحتها قبح ما يُمارس ويُقال.



لقد أصبح الوجدان الجمعي أكثر اتفاقا مع انتهاكات الأنظمة السياسية، وأكثر ميلا لقبول البذاءات ولكن من مصادر محددة

وهنا تجدر الإشارة إلى قول الشيخ الشعراوي عن النسبة القولية وهل هي : مجزوم بها، واقعة ومدلل عليها. ومن ثم فإن المعيار الأساسي للحكم على مدى شرعية السلوكيات المُنتقدَة يكمن ابتداءا في الثلاث محاور: الجزم بالجُرم المرتكب ووقوعه الحالي وإمكانية التدليل عليه. وسبق أن أشرنا إلى وقوع الجرم الحالي هذا فضلا عن بساطة وسهولة التدليل عليه بالإشارة إلى كافة التقارير الدولية التي تفيد بتردي بالغ في الأوضاع الداخلية على كافة الأصعدة بدءا من السياسة ومرورا بالاقتصاد والاجتماع والصحة والتعليم…إلخ.

ومن ثم يمكن القول بأن الأساس الأخلاقي المجتمعي أو ما يُعرف بالوجدان الجمعي بدا أكثر اتفاقا مع انتهاكات الأنظمة السياسية وصار لديه قبول واضح إلى قبول تلك العبارات والبذاءات ولكن من مصادر محددة. هي تلك التي تمتلك القوة على مستوى النظام والتي عبرت عنها بكل وضوح بعض القنوات الإعلامية غير أنه من المنطقي هو رفض الأمر جملة وتفصيلا أيا كان مصدره باعتباره يهدد المبادئ المجردة للتربية والأخلاق.

وبالتالي فإنه يمكن القول ختاما أنه للحكم على أي سلوك يجب أن يتم الأخذ في الاعتبار الظرف الراهن أو ما يعرف بالسياق، وكما سبق فإن الهدف ليس التنظير إلى قاعدة عدم الامتثال للآداب العامة أو التقيد بالحدود الأخلاقية ولكن الهدف الأساسي ينبع من الموضوعية وعدم الانتقائية في التعامل وترتيب الأولويات.

فإن اعتمد البعض على أسباب لرفض تلك الحملات المسيئة للنظام الحالي باعتبارها منافية للآداب ولصحيح الدين ينبغي أن يؤخذ أولا بالاعتبار مدى ملائمة سلوكيات النظام إلى الآداب العامة ومدى احترامها للإنسان والتزامها بمعايير الحكم الرشيد. إلا أن السياق السلوكي الحاكم للرفض يركن -عند الكثيرين- إلى منطق لا يعدو عن كونه أكثر من مجرد إطار وهمي لحاجز اختلقته أهواء القوم.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.