في مقال لم يتم نشره، كتبه الفيلسوف الإنجليزي الشهير بيرتراند راسل بعنوان «هل هناك خالق؟» عام 1952، صاغ فيه حجته المشهورة ضد فكرة الإله، قائلاً:

إذا أمكنني أن أشير أنه يوجد بين الأرض والمريخ إبريق مصنوع من الخزف الصيني يدور حول الشمس في مدار بيضاوي، لا يمكن لأحد أن يدحض افتراضي، إذا كنتُ حريصًا على ذكر أن الإبريق أصغر من أن تراه أقوى التلسكوبات الموجودة عندنا. ولكني إذا انتقلت إلى الادعاء بأن ما دام افتراضي لا يمكن إثبات عدم صحته، فإنه من غير المقبول لأي عقل بشري متزن أن يشكك في صحته، فبالتأكيد يجب أن يعتبرني الناس أتحدث بجنون خالص. ورغم ذلك فإنه إذا وجد في نصوص قديمة ما يؤكد وجود مثل ذلك الإبريق، واعتبر كشيء مقدس كل يوم أحد، وزرع في عقول الأولاد الصغار في المدرسة، فإن شككت في وجودها فسيكون ذلك علامة على عدم الاتزان ويجذب ذلك المشكك انتباه طبيب نفساني في عصر مستنير كعصرنا أو أي محقق في العصور السحيقة.

وقد سبق راسل إلى نفس الفكرة فلاسفة آخرون مثل جون بانيل بيوري عام 1913 في كتابه «تاريخ حرية الفكر» حيث ضرب مثالاً بكوكب يدور حول نجم بعيد عنا، يعيش عليه قطيع من الحمير الذين يتكلمون الإنجليزية، يتناقشون في علم تحسين النسل.

فإذا كنا لا نستطيع إثبات خطأ هذه الفرضية، فهل يجعلها هذا قابلة للتصديق؟، وهل عبء الإثبات على من ينفي الفرضية أم على صاحبها؟، كما ظهرت حديثًا في صور أكثر سخافة، على قدر عقول البعض، كوحش السباجيتي الطائر. لكن كل الحجج في الأخير لديها نفس البنية المعرفية وبالتالي تخضع لنفس التحليل.


أركان الحجة

لو حللنا النص سنجد أن راسل يتحدث عن فرضية لها شرطين:

– غير معتادة وصعبة التحقق «إبريق مصنوع من الخزف الصيني يدور حول الشمس في مدار بيضوي».

– لا يوجد دليل تجريبي عليها «الإبريق أصغر من أن تراه أقوى التلسكوبات الموجودة عندنا».

وقد وصل من المقدمتين السابقتين إلى نتيجتين وسيطتين:

الأول: لا يمكن إثبات عدم صحتها (افتراضي لا يمكن إثبات عدم صحته).

الثاني: لا يمكن إثبات صحتها (نتيجة مسكوت عنها كمسلّم بها).

فإذا كان من الخطأ أن أقتنع بصحة فرضية «لا يمكن إثبات صحته» لمجرد أنه لا يمكن إثبات عدم صحتها، فإني سأحتاج لدليل إثبات لصحتها من الشخص المقتنع بها. فيصل إلى النتيجة النهائية: عبء الإثبات على صاحب الادعاء وليس على من ينفيه!.


رؤية العالم وتشكيل المعرفة



عملية تشكيل الاعتقاد لا تعتمد فقط على القضية ولكن أيضا على الوزن المعرفي لمبرراتها فنحن نعتمد على سبب أو دليل عقلي أو غيرها من الأدلة المختلفة

قبل أن نبدأ في تحليلنا، لابد وأن نجيب على سؤال مرتبط بالتحليل المعرفي وهو: هل عملية تشكيل الاعتقادات إرادية؟ ولنضرب مثالا، نحن لا نستطيع أن نعتقد أن «غدًا ستحكم الفيلة العالم» باختيارنا وبإرادتنا مباشرة؛ لأن هذا يتعارض مع مقدماتنا ومعلوماتنا وطرق الاستدلال العقلي من تلك المقدمات والمعلومات.

فنجد أن عملية تشكيل الاعتقاد لا تعتمد فقط على القضية ولكن أيضًا على الوزن المعرفي لمبرراتها، فنحن نعتمد على سبب أو دليل عقلي أو منطقي أو عاطفي أو نفعي أو غيرها من أنواع الأدلة المختلفة. فلا أحد يقتنع بقضية ما بدون مبرر أو دليل.

ولهذا فإن شبكتنا المعرفية ورؤيتنا للعالم «المسلمات التي تحكم استدلالاتنا وطرق تكوين شبكتنا المعرفية ورؤيتنا للمعنى» تعتبر من أهم آليات التدليل على قضية ما، وأثقلهم وزنًا معرفيًا، والتي تكوّنت نتيجة التعليم والوعي والثقافة والمعرفة والتربية والاعتقادات التي تشكلها في الصغر؛ لأنها تكون ذات الثقل الأكبر والأصعب في التغيير بعد ذلك.

فعندما يقيمُ شخص قضية ما، فهو يبحث في شبكته المعرفية عن الأدلة التي تثبت صحة تلك الفكرة أو تنفيها وفق رؤيته للعالم.

فلو مثّلنا حساب الوزن المعرفي لقضية ما كنموذج رياضي للاحتمالية الشرطية، سنجد أن الشخص يحسب لكل قضية جديدة قيمة رقمية (posterior probability) تمثل وزن صحتها في ذاتها (prior probability) مضروبًا في احتماليتها مقارنة ببقية المعلومات المسبقة المرتبطة بها في الشبكة المعرفية (likelihood).

فإذا كانت قيمتها عالية فيتم إضافتها للشبكة المعرفية (قبول الفكرة)، وإذا كانت قيمتها أكبر من قيمة معلومة تتعارض معها فيتم حذف المعلومة لصالح الفكرة الجديدة (مراجعة فكرية)، وإذا كانت قيمتها أقل فيتم معارضة تلك الفكرة الجديدة على أساس المعلومات التي تعارضت معها (رفض الفكرة).

وكوننا نعتمد على دليل وعلى حالة الشبكة المعرفية وعلى رؤيتنا للعالم، يجعلنا نتحكم في تشكيل اعتقاداتنا بطريقة غير مباشرة، عن طريق إرادتنا واختيارنا للبحث عن الأدلة التي قد تهزّ شبكتنا المعرفية؛ لأنها خاطئة أو قاصرة أو قد تثبتها وتزيدها قوة، وفي كيفية البحث عن تلك الأدلة، وفي طريقة حساب قيمة صحة هذا الدليل، وفي محاولتنا للبعد عن الانحيازات الإدراكية وإيماننا باحتمال أن تكون شبكتنا المعرفية في صورتها الحالية مخطئة وتحتاج للمراجعة دائمًا.


افتراضات الحجة وحدودها

أول ما سأفعله هو أن أضرب مثالاً ببعض الفرضيات المختلفة، لكي ندرك المسلّمات المسكوت عنها وراء الحجة:

– سأضع جملة «مذنب يدور حول الشمس في مدار بيضاوي» بدلاً من «إبريق مصنوع من الخزف الصيني يدور حول الشمس في مدار بيضاوي» مع بقاء شرط عدم وجود دليل تجريبي على تلك الفرضية.



يرى راسل أن فرضية الله تساوي معرفيا فرضية إبريق مصنوع من الخزف الصيني من حيث إنها فرضيات تجريبية في ذاتها فقط وليس لها أي آثار معرفية ناتجة عنها

ستجد أن المثال أصبح أقل سخافة وأكثر قابلية للتصديق؛ لأن وجود مذنب صغير يدور حول الشمس شيء معتاد وممكن التحقّق، لأن معلوماتنا الفلكية في شبكتنا المعرفية المسبقة ستقول ذلك، حتى لو لم يكن هناك دليل تجريبي على وجوده.

هنا سنجد أن حجة راسل «تفترض مسبقًا احتمالية حدوث قليلة للفرضية».

– أي الفرضتين الأكثر قابلية للتصديق، «لا يوجد لُب لكوكب بلوتو» أم «يوجد لب لكوكب بلوتو»؟. من المؤكد أن الأكثر قابلية للتصديق هي «يوجد لب لكوكب بلوتو» بدون حتى الحاجة لدليل تجريبي؛ لأن معلوماتنا الفلكية والجيولوجية في شبكتنا المعرفية المسبقة ستقول ذلك، هنا على عكس «إبريق راسل»، نجد أن الفرضية الموجبة (التي تثبت وجود شيء) أكثر قابلية للتصديق من الفرضية السالبة.

بل سنجد أيضًا أن صاحب الفرضية السالبة هو المطالب بتقديم دليل. إذًا فالمشكلة ليست في الفرضية الموجبة، ولكن في كون الفرضية ذات احتمال حدوث أقل. واحتمال حدوث تلك الفرضية أقل «لأنها تخالف الشبكة المعرفية المسبقة التي تكوّن رؤيتنا للعالم».

– أي الفرضتين الأكثر قابلية للتصديق، «لا يوجد مخ لدى زميلك في العمل» أم «يوجد مخ لدى زميلك في العمل؟» من المؤكد أن الأكثر قابلية للتصديق هو «يوجد مخ لدى زميلك في العمل» بدون حتى الحاجة لدليل تجريبي؛ لأن معلوماتنا البيولوجية والإنسانية في شبكتنا المعرفية المسبقة ستقول ذلك.

هنا أيضًا، كالمثال السابق، نجد أن الفرضية الموجبة (التي تثبت وجود شيء) أكثر قابلية للتصديق من الفرضية السالبة، بل سنجد أيضًا أن صاحب الفرضية السالبة هو المطالب بتقديم دليل.

إذًا أيضًا المشكلة هي أن الفرضية ذات احتمال حدوث أقل، واحتمال حدوث تلك الفرضية أقل؛ لأنها تخالف الشبكة المعرفية المسبقة التي تكون رؤيتنا للعالم.

النقطة الإضافية هنا، أن «الدليل لا يكون تجريبيًا دائمًا»؛ لأن الفرضية السالبة هنا تخالف أيضًا التأثيرات الواضحة للمخ والتي تظهر لنا من سلوك وردود أفعال الشخص.


مشاكل وراء مسلمات الحجة

تظهر لنا المشكلتان الأساسيتان في مُسلّمات راسل والتي تقيد الأشياء التي يمكن أن تنطبق عليها حجته:

– اختياره لمثال سخيف «إبريق مصنوع من الخزف الصيني» يعكس افتراضه المسبق في الحجة بأن الفرضية لابد وأن تكون ذات احتمالية حدوث قليلة، واحتمالية الحدوث القليلة تعمل هنا «كدليل نفي».

راسل قصدَ أن يختار مثالاً سخيفًا لدرجة أن معظم الناس ستستهجنه، إن لم يكن كلهم، سواء مؤمنين أو ملحدين أو لا أدريين. ولكن ليست كل فرضية على مثل هذا الوزن المعرفي لكل شخص.

فنجد أن حساب احتمالية الحدوث يكون نتيجة للشبكة المعرفية المسبَقة التي تُكوّن رؤيتنا للعالم، والتي تختلفُ باختلاف كل شخص. «فما يكون ذا نسبة حدوث قليلة لشخص ما، قد يكون ذا نسبة حدوث عالية لشخص آخر

»،

وبالتالي عند استبدال المثال السخيف بأمثلة ذات نسبة أعلى للحدوث نجد أننا قد نصدقها بدون أدلة تجريبية حتى.

– مسلمات برتراند راسل نابعة من رؤيته العلمية التجريبية المادية للعالم، من حيث إن أدلة إثبات الفرضية ونفيها لابد وأن تكون أدلة تجريبية. وهذا يظهر في القفزة المنطقية من «لا يوجد دليل تجريبي على الفرضية» إلى «لا يمكن إثبات عدم صحتها ولا حتى صحتها أيضًا».

فحدود المنهج العلمي واضحة؛ لأنه قائم على ملاحظة الظواهر من تأثيراتها التجريبية ثم يلجأ لـ«نصْل أوكام» ليختار أبسط تفسير وبأقل افتراضات ليوضح كيفيتها، وبالتالي فأي فرضية ليس لها تأثير تجريبي هي فرضية محذوفة بـ«نصل أوكام»، ولهذا فالمنهج العلمي يركز على تفسير آثار الله كما تظهر في الأديان بالقوانين العلمية.

وبالتالي ينفي وجود آثار تجريبية مباشرة للإله، فالقوانين العلمية تحل محل تدخله المباشر، وبالتالي ينفي الحاجة إلى فرضيته، فينفي وجوده.

ونجد أن نفس طريقة الاستدلال يتبعها الكثيرون خارج المنهج العلمي، فالكثير من الذين يرون أن الله لا يؤثر في الحياة بأي طريقة، يقفزون للاستدلال بأنه غير موجود أو أن فرضيته لا تستحقّ التأمل حتى، ناهيك عن الإيمان.

لكن في الحقيقة، سنجد أنه ليست كل الأدلة تجريبية، فبعضها منطقي، أو نفسي، أو عقلي؛ فسنجد أن المنهج العلمي كالشبكة ذات الفتحات الواسعة، مهما حاولت اصطياد الأسماك، فستفشل دائمًا لأنها لا تخرج إلا بالماء.

فهو مقيد بالإجابة على «كيف» ولا يصل للإجابة على «لماذا». والله، معرفيًا، هو إجابة السؤال الميتافيزيقي الأساسي، كما صاغه ليبنتز، «لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟».

– الأهم أنه لا يوجد دليل تجريبي على صحة التجريبية، فهي مسلَّمة ميتا-معرفية أي ميتافيزيقية، فسنجد في الأخير أن مسلمات راسل تنفي نفسها بنفسها.

فلو اعتمد شخص ما فقط على إيمانه بالتجريبية ليبرر عدم إيمانه بوجود إله، فهناك مشكلة منهجية كبيرة في هذا الاستدلال.

في الأخير، نجد أن راسل يقول إنه من الخطأ أن أقتنع بفرضية ذات احتمال حدوث قليل، وفق شبكتي المعرفية المسبقة، ولا يمكن إثباتها أو نفيها تجريبيًا، لمجرد أنه لا يمكن إثبات عدم صحتها.

ومن خلال رؤيته العلمية التجريبية المادية للعالم، فراسل يرى أن هذا سينطبق على الله، بمعنى أنه يرى أن فرضية الله تساوي معرفيًا فرضية «إبريق مصنوع من الخزف الصيني» من حيث إنها فرضيات تجريبية في ذاتها فقط وليس لها أي آثار معرفية ناتجة عنها.


حجة راسِل في ميزان المؤمن معرفيًا



فكرة الإله بالنسبة للمؤمن فكرة معتادة وواجبة التحقق بسبب آثارها الناتجة عنها مثل آثارها المنطقية كوجود الكون أو آثارها النفسية أو آثارها العقلية

لكن من الناحية الأخرى، سنجد أنه وفق رؤية المؤمن للعالم، فليست كل الأدلة تجريبية، وبالتالي يكفيه دليل منطقي، أو نفسي، أو عقلي، لكي يصبح احتمال حدوث فرضية ما عاليًا لدرجة الاقتناع به وفق شبكته المعرفية ورؤيته للعالم، بل إن البعض يعتبر الإله مسلَّمة يقينية.

ولهذا فالشروط التي يضعها راسِل للفرضية والتي يراها تنطبق على الإله برؤيته له وللعالم ووفق شبكته المعرفية من حيث إنها فرضية ذات احتمال حدوث قليل، ممكنة التحقق، وليس لها أي أدلة إثبات أو نفي تجريبية، لا تنطبق على فكرة الإله بالنسبة للمؤمن.

ففكرة الإله بالنسبة للمؤمن هي فكرة معتادة وواجبة التحقق بسبب آثارها الناتجة عنها، مثل آثارها المنطقية كوجود الكون مثلًا، أو آثارها النفسية، أو آثارها العقلية.

فهي ذات احتمالية عالية جدًا بالنسبة له، كما أن المنهج التجريبي لا ينطبق عليها بتاتًا. ولهذا فالمؤمن يرى أن فرضية الله لا تساوي معرفيًا، بأي حال من الأحوال، فرضية «إبريق مصنوع من الخزف الصيني».

ولهذا فحجة راسل ليس لها أي وزن معرفي عند تطبيقها على الإله في رؤية المؤمن للعالم، على عكس أصحاب الرؤية العلمية التجريبية المادية للعالم.