يتعلم طلبة العلوم السياسية في سنتهم الأولى أن «الأيديولوجية» هي فكر وحركة أو نظرية وأدوات للتغيير، وهو ما ينطبق على «النسوية» كإحدى الأيديولوجيات الحديثة. وكمثيلاتها لا يمكن اعتبار النسوية كتلة واحدة بل تنقسم إلى تيارات فكرية، أبرزها الليبرالية والاشتراكية والراديكالية والدينية (المسيحية منها والإسلامية). يتفقن جميعًا على نقد ورفض نظم المجتمعات القائمة على التمييز ضد النساء، ويعتبرن هذا الأمر مسلمة تتطلب العمل على تغييرها. ويتفقن أيضًا باختلاف تياراتهن على القيمة العليا التي يسعين إليها وهي المساواة.

إذًا، فما الاختلافات بين التيارات النسوية؟

تبدأ التباينات من الخلفيات الفكرية لهذه المدارس، ومن ثمّ استراتيجيات التغيير لدى كل منها. مع كل موجة نسوية من الموجات الأربعة الشهيرة كانت تلمع مطالب أحد هذه التيارات، فمثلًا يمكن اعتبار الموجة الأولى في نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 موجة ليبرالية بامتياز، تكللت بانتزاع بعض الحقوق المدنية في كثير من دول العالم، ودخول النساء للمجال العام من بوابة التعليم والمشاركة السياسية.

كما ارتبطت أيضًا بدايات الموجة الثانية (التي تزامنت مع عقد ربات البيوت في أمريكا إبان نهاية الحرب العالمية الثانية) بأسئلة متعلقة بتحقق النساء واكتمالهن، ومكانتهن الاجتماعية وأدوارهن النمطية. لتبدأ بعدها النسوية الاشتراكية في التبلور في النصف الثاني من الموجة الثانية، لتسائل الليبراليات عن موقفهن من المهمشات والفقيرات وعن علاقات القوى في المجال الخاص (داخل الأسرة)، إضافة لتقديم الأسس الفكرية التي ربطت بين الأبوية والرأسمالية باعتبارهما نظامين يعتمدان على بعضهما البعض للاستمرار. كما قدم الفكر النسوي الاشتراكي سبقًا معرفيًا بالبحث في أصل التمييز ضد النساء تاريخيًا، وهو ما لم يكن محل تركيز واهتمام الليبراليات من قبل.

وشهدت الموجة الثانية أيضًا ظهور النسوية الراديكالية وتركيزها على تحرير النساء جنسيًا وعلى قدرتهن على التحكم في أجسادهن، فالسيطرة السياسية تبدأ بالسيطرة على الأجساد (يعتبر كتاب ميشيل فوكو المراقبة والمعاقبة فتحًا نظريًا للراديكاليات)، وأن الجسد هو موضوع للقهر السياسي الذي يقوم به الرجال مدعين أنه لمصلحة المجتمع لكي تتواءم النساء مع الأدوار المنوطة بهن، فوفقًا لهن، لا سبيل لتحقيق المساواة إلا باستعادة النساء للسيطرة التامة على أجسادهن.

النسوية الإسلامية

أما النسوية الإسلامية، فيمكن اعتبارها من تيارات الموجة الثالثة في تسعينيات القرن الماضي، وإن كانت إرهاصاتها قد بدأت في نهاية القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20 على يد رائدات سعين إلى المساواة والعدالة «من داخل المنظومة الإسلامية نفسها، بمبادئها وشريعتها ومقاصدها» عن طريق الاجتهاد في تقديم خطاب ديني مختلف من منظور نسائي (وليس نسويًا فهن لم يكن يقدمن أنفسهن حينها كنسويات ولم يكن هذا المفهوم متبلورًا بعد)، فقدمت عائشة تيمور مفهوم القوامة المشروطة ضد القوامة المطلقة، وفندت نظيرة زين الدين خطاب نقص العقل والدين.

أما نشأة «النسوية الإسلامية» كفكر ومنهج فترجع لتسعينيات القرن الـ20، مع محاولات ناشطات إيرانيات انتزاع حقوق قانونية شرعية من داخل المنظومة الفقهية الشيعية بعد الثورة الإسلامية في إيران. وبعدها نشأت من ماليزيا للمغرب العربي مدرسة نسوية إسلامية واعية بموقعها النسوي، متماسكة ولها أسس فكرية واضحة. يعتبر أهم وأول إسهام للنسوية الإسلامية هو تحول المرأة من «موضوع الدراسة»إلى الدارسة والباحثة الواعية بمسألة النوع، التي يمكن أن تقدم خطابًا دينيًا جديدًا غير مشوب بالأبوية.

مشكلة النسويات الإسلاميات مع المعارف الدينية

يتفق هذا التيار مع باقي التيارات النسوية في الفكرة المحورية، وهي أن المرأة مقهورة في كل المجتمعات، وأن التعامل معها يتم على أساس كونها جنسًا أدنى، وهدفهم كهدف باقي التيارات هو إعادة بناء علاقات النوع وتوزيع القوى من أجل تحقيق المساواة.

لكن أهم ما يميز النسوية الإسلامية هي أنها لا تتصادم مع الدين، وأنها تعتبر النص الإلهي نصًا مقدسًا، تعرفنا من خلاله الذات الإلهية إرادتها في تنظيم الكون، فالدين هو الحقل الذي يعملن من داخله، وهذه هي نقطة الاختلاف المحورية مع باقي التيارات النسوية. فالليبراليات محايدات تجاه الدين، إلا لو أصبح عقبة أمام خروج المرأة للمجال العام، ولكنهن يظللن أقرب التيارات للنسوية الإسلامية من حيث كون المدرستين مدارس إصلاحية. أما الاشتراكيات والراديكاليات فلهن موقف سلبي من الدين، باعتباره إحدى أدوات الطبقة المسيطرة لتبرير وضعها المتميز في حالة الاشتراكيات، أو إحدى أدوات الرجال للتحكم في أجساد النساء وقهرهن في حالة الراديكاليات.

ترى النسويات الإسلاميات أن الحقوق المتساوية مثبتة في القرآن، بما فيها حقوق دخول المجال العام على قدم المساواة مع الرجال. أما في المجال الخاص، فالمرأة والرجل متساويان ومتكاملان ولكن غير متماثلين. فمثلًا وظيفة الحمل والولادة يقابلها وظيفة الإنفاق، وهو ما لا يترتب عليه أي تراتبية بين الجنسين، فالإنفاق

وفقًا لهن

ليس مقابل الخدمات الجنسية أو الرعوية وإنما يتكامل مع وظائف الحمل والولادة التي تقوم بها النساء. وأما ملكية الجسد، فكل الأجساد ملك لله وليس الخلق، يسري عليها ما يأمر به الله.

الإشكالية الكبرى والأهم عند النسويات الإسلاميات هي المعارف الدينية وليس الدين، تفسير النص وليس النص في ذاته. تعتقد النسويات الإسلاميات أن المعارف الدينية ذكورية وأبوية لأن ببساطة من قاموا بتفسير وتخريج الأحكام على مدار التاريخ الإسلامي بداية من الدولة الأموية وحتى الآن هم من الرجال، ولأن علماء الدين كانوا يعملون في إطار ثقافي أبوي وسياق ذكوري غيبت عنه النساء ومُنعت من المجال العام تمامًا. ولذلك لا بديل عن إنتاج معارف دينية جديدة- ما بعد أبوية- في التفسير والفقه، عن طريق العودة للنص الأصلي مباشرة وإعادة وقراءته بعدسة جندرية، وأن تكون النساء هن منتجات هذه المعرفة ولسن موضوعها فحسب.

منهج النسويات الإسلاميات

وضعت النسوية الإسلامية منهجًا في التعامل مع النصوص الدينية، من مبادئه الرئيسية:

1. تتبع مسيرة الحكم الفقهي أو التفسير الذكوري وتراكمه من جيل لجيل حتى الوصول للتفسير السائد، و

مساءلة السياق

المجتمعي والتاريخي لظهور هذا التفسير أو الحكم. وبما أن التفاسير والأحكام محكومة بالسياقات الاجتماعية والتاريخية فمن المنطقي اليوم احتمالية تغيرها بتغير السياق، وإلا ما كان الدين صالح لكل زمان ومكان.

2. مساءلة لغة الرمز، والإلحاح في استخدام رموز أنثوية عند الإشارة لمعان سلبية سواء في الرسائل المباشرة أو غير المباشرة.

3. رفض استخدام رجال الدين لمصادر غير النص الإلهي لتفسير النص الإلهي خصوصًا عند التعارض بينهما.

4. رفض استخدام المنهج الذراتي atomistic approach في تفسير القرآن واستخدام المنهج الشمولي holistic approach، ويشمل ذلك: تفسير الآيات في ضوء بعضها البعض وليس كوحدات منفصلة، وتفسير التمييزي في ضوء المساواتي وليس العكس. كذلك، الأخذ في الاعتبار رسالة الدعوة الكبرى، وقيم العدل والكرامة وفردانية الحساب وقيمة الإنسان المعنوية بغض النظر عن الجنس. وأخيرا، مقارنة معاني نفس اللفظ في كل مواقع ذكره في القرآن وليس في آية واحدة.

تفرعات التيار الواحد

ومع تعمق الجذور الفكرية للنسوية الإسلامية وتنوع إنتاجها المعرفي بدأت تظهر تباينات واختلافات فكرية داخله. فانقسم التيار في السنين الأخيرة إلى فرعين، أحدهما

راديكالي

(كيشا علي وأمينة ودود مثلا) يرى أن النص المقدس فيه تحيز ذكوري وتراتبية، وأن الآيات المساواتية تتعلق بالأمور الروحية، بينما الآيات التمييزية تتعلق بالحياة المجتمعية اليومية، بالتالي يمكن اعتبار النص القرآني نصًا تاريخيًا نزل في جماعة بشرية في ظرف ثفافي معين، وكان تحرريًا قياسًا بوقت نزوله. لذا فالقدسية للرسالة وليس لمنطوق الرسالة، والنص هو نقطة البداية للتغيير وإرساء القيم الكبرى للإسلام وليس نقطة النهاية.

أما التيار النسوي الإسلامي التقليدي (أميمة أبو بكر وأسماء البرلس مثلا)، فيرى أن هذا الطرح يهدم الأساس المنطقي الذي تقوم عليه النسوية الإسلامية أصلًا، وما هو إلا الوجه الآخر لعملة السلفية المتعلقة بحرفية النص.

الجدير بالذكر أيضًا أن نسويات رائدات كنوال السعداوي أو فاطمة المرنيسي هن نسويات من خلفيات مسلمة أو لهن اهتمام بالإسلام باعتباره عنصرًا مهمًا في الثقافة والسياق الذي يعشن فيه، لكنهن بالتأكيد لسن نسويات إسلاميات من حيث التعريف.

ويمكن للمهتمات والمهتمين أن يطلعوا على الكتب والأوراق البحثية الموجودة على موقع

مؤسسة المرأة والذاكرة

ومؤسسة

مساواة

.