في القرن الرابع الهجري، ولدت أخت أمير قبيلة زناتة يعلي بن محمد اليفرني ولدًا من غير أب فسموه «كلمام»، نسبة إلى الماء، وقالوا إن حَمْلها لم يكن سفاحًا وإنما نتيجة استحمامها في عينٍ حاميةٍ هناك، بحسبما يحكي ابن خلدون في كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر».

وكلما كبر الولد ظهرت عليه خوارق ومواهب غير عادية، وذلك نتيجة أنه ابن ماء هذه العين التي استحمت فيها والدته.

القصة تذكرنا بأساطير يونانية قديمة تقدس الماء، ومنها أن ملكة الماء تيتيس Thètis غطَّست ابنها أخيلAchille  في النهر السحري ستيكس styx، ونتيجة لذلك امتلك قوة وشجاعة مفرطة جعلته أحد الأبطال الأسطوريين لدى الإغريق، بحسبما يذكر جان صدقة في «رموز وطقوس: دراسات في الميثولوجيا القديمة».

في المغرب القديم شاع تقديس بل عبادة الماء بين الأمازيغ، خصوصًا خلال الاحتلال الإغريقي ثم الروماني للمغرب، بل وشاع تقديس الكائنات التي تعيش في هذه المياه احترامًا للمياه نفسها، وبعد دخول الإسلام إلى هناك لم تختفِ تلك القداسة، وإن أخذت أشكالًا ومظاهر جديدة، استمر بعضها حتى يومنا.

ما مظاهر تقديس الماء في العصور القديمة بالمغرب وما الأساطير التي ارتبطت بذلك، وكيف أصبح الأمر خلال العصور الوسطى «الإسلامية» والعصر الحديث، ولماذا استمر؟ هذا ما نجيب عنه خلال هذا المقال.

هل سبق الأمازيغ الإغريق إلى عبادة الماء؟

قدس اليونانيون الماء، وقدموا القرابين لإله الماء والبحر «بوسيدون»، ومن بعدهم قدسه الرومان واتخذوا نفس الإله تحت مسمى آخر «نيبتون»، والدولتان احتلتا المغرب تباعًا.

ويعتقد كثير من الباحثين أن عبادة الماء لدى الأمازيغ في المغرب قد تكون أقدم من وجودها لدى الإغريق، إلا أن النقوش الأثرية التاريخية التي تشير إلى تلك العبادة في المغرب قبل الاحتلال الروماني مفقودة في الغالب، بحسب دراسة أحمد سراج «حول استمرار أحد مظاهر الديانات المائية القديمة بمغرب العصر الوسيط».

ولكن تشير نقوش أثرية تعود إلى ما قبل
الاحتلال الروماني، إلى تقديس الحوريات اللاتي كن يحرسن عيون المياه في المغرب،
وكانت هذه الحوريات تحظى بقداسة كبيرة.

هذه الحوريات لم تكن آلهة وإنما كانت مخلوقات أسطورية مقدسة مؤنثة، ويعتقد الباحثون أن أسطورة «عيشة قنديشة» الممتدة حتى العصر الحديث، هي امتداد لتلك الإناث المقدسة، بحسبما نفهم من دراسة سمير آيت أومغار «المعبودات المائية في المغرب بين العصر القديم والزمن الراهن».

عيشة قنديشة في المعتقد الشعبي المغربي
هي جنية تعيش في الأنهار والمستنقعات، يخاف منها الناس، ولو غضبت على أحدهم تحل
عليه اللعنة.

وكان للأمازيغ في العصور القديمة إلهًا مهمًا هو «أنزار» إله الأمطار أو «ملك الأمطار»، وما زال له صدى لدى ثقافات محلية حتى الآن في شمال أفريقيا.

يقدمون لها القرابين ويفكون بها نحس العوانس

ترتبط أساطير تقديس المياه في المغرب القديم بأكثر من اتجاه، ولعل ارتباطها بالنساء والزواج مثيرًا، ومن الحكايات الشائعة المرتبطة به أسطورة «تيسليت ن أنزار»، بحسب أومغار.

كانت تيسليت عاشقة للمياه، فرآها إله
المطر على ضفاف نهر فأحبها بجنون، وصارحها بحبه فرفضت، رغم أنها أحبته هي الأخرى،
معتبرة أن حبها له ومواعدته خيانة لأهلها.

بسبب رفضها توصل أنزار إلى حيلة تجعلها
تقبله دون أن تغضب قبيلتها، حيث منع ماء المطر عنهم وأصيبت أرضهم بالجفاف، وهنا
قبلت أن تتزوجه.

تزوج أنزار من الفتاة وخلال صعودهما إلى السماء، رُسِمَت خطوط ألوان الطيف السبعة «قوس قزح»، في الطريق من الأرض إلى السماء، احتفاءً بزواجهما.

ويسمى قوس قزح بالأمازيغية إلى يومنا «تيسليت ن أنزار»، وما زال التبرك بأنزار موجودًا، وبعض الممارسات الخاصة بـ«تيسليت ن أنزار» ما زالت قائمة ولو على نطاقات ضيقة، حيث يطوف الناس وقت الجفاف ويغنون لتسليت وأنزار لاستدرار المطر.

من الأساطير القديمة التي ما زال صداها موجودًا أيضًا، أسطورة «ئمي ن نفري» والتي تدور حول قنطرة طبيعية يمر من تحتها ماء مقبل من عين أو مغارة، تقع في منطقة قريبة من مدينة دمنات المغربية.

ونسجت أساطير مختلفة حول العين منها ما حكي بطريقة إسلامية، وتفيد بأن العين التي تنبع منها المياه قبل جريانها تحت القنطرة هي في الأساس مكان ضريح لوليّ يسمى «سيدي ناصر».

رواية أخرى تقول، إن عفريتًا له 7 رؤوس كان يسكن المغارة ويخطف البنات، وكان الأهالي يقدمون له كل عام فتاة عذراء اتقاءً لشره، حتى جاء الدور على ابنة ملك، فطلب من فارس شجاع يسمى «ملك سيف» أن يحمي ابنته، فدخل المغارة وبارز العفريت وهزمه.

في كل الأحوال يتفق السكان على أن
الاستحمام في مياه العين يفك نحس الفتيان العوانس، ويحبب فيهن الرجال، وحتى العصر
الحديث كان السكان يذبحون عجلاً عند المياه في اليوم الرابع عشر بعد عيد الأضحى من
كل عام، قربانًا لهذه العين المقدسة.

الأساطير الموروثة من المغرب القديم لا ترتبط بالنساء فقط، فكثير منها يتعلق بفكرة الخوف من المجهول وارتباط هذا المجهول بالشر، وحتى القرن التاسع عشر، كانت قبيلة بني مطير، جنوب شرقي مكناس، تعتقد أن هناك أرواحًا تسكن عيون المياه ومجاريها هناك.

ولذلك كانوا يقيمون الطقوس التعبدية لاتقاء شرها؛ ومنها ما كان يجري في منطقة الحاجب، حيث كانوا يذهبون مساء كل جمعة إلى عين تعرف بـ«الخادم»، ويوقدون الشموع حولها تقربًا وإرضاءً للأرواح التي تسكنها.

المياه في الزمن الإسلامي: بركة الأولياء

هذه الأساطير لم تصل من المغرب القديم إلى الحديث، إلا من خلال مرورها بالعصور الإسلامية الوسطى، ونستطيع من تتبع بعض المصادر الإسلامية أن نلمس صدى أساطير المياه في المغرب والأندلس الذي كان كثيرًا متحدًا بالمغرب في دولة واحدة، خصوصًا في أزمان الموحدين والمرابطين (من القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر الميلادي).

بعض هذه الأساطير ارتبط بالشكل القديم
لها، وبعضها أخذ طابعًا إسلاميًا ولكنه متأثر بجوهر الفكرة وهو قداسة الماء.

من الأساطير التي كانت امتدادًا أمازيغيًا في الزمن الإسلامي، ما جاء في كتاب «ذكر بلاد الأندلس»– مجهول المؤلف- من تحقيق لويس مولينا، عن جبل في شقورة بالأندلس، قيل إن به عين ماء تسبب حالة خصوبة غير عادية، فأي شخص يدخل إلى هناك ينزل منه المنِي من دون رغبة جنسية، وحين ينام يكثر احتلامه.

وذكر ليون الإفريقي (تـ1554م) في «وصف إفريقيا» عن منطقة «عين الأصنام» أنها كانت تضم معبدًا بجانبه عين ماء- كانت موجودة حتى عصر ليون- وكانت تتم بالمعبد ممارسة جنسية قدسية، نتيجتها تلد النساء أطفالاً مقدسين، يصبحون في المستقبل كهنة لهذا المعبد.

وكما كان يعتقد الناس في هذه العصور بقدرة المياه على إمداد الإنسان بالخصوبة والخير، فهي أيضًا قد تهلكه، على طريقة آلهة الخير وآلهة الشر.

ومن ذلك أسطورة جبل «مائة بئر» بالقرب من مدينة فاس، الذي كان بجواره بئر عميقة يخشاها الناس، ويعتقدون أن من يقترب منها لا يعود حيًا، فبمجرد اقتراب أحد منها تهب ريحًا تظلم المكان، حسبما تحكي الأسطورة التي نقلها الإدريسي (ت 559هـ – 1166م) في «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق».

مظاهر تقديس المياه استدعت أيضًا تقديس الكائنات البحرية، التي تعيش في المياه، ومن ذلك أن حاميم الغماري (ت ـ315هـ – 927م) الذي ادعى النبوة في المغرب، منع الناس من أكل مجموعة مأكولات كان منها «الأسماك».

كما ذكر ليون الإفريقي أنه شاهد في
بلاد ماسة عظام أسماك ضخمة على شكل قوس، قائمة هناك منذ مائة عام، ولم يجرؤ أحد
على النيل منها.

الأنقليس والسلحفاة أيضًا كان لهما قداسة في القرون الوسطى، وكثيرًا ما حُرم قتلها أو اصطيادها لدى السكان، باعتبارها كائنات مائية، بحسبما ذكر ألفريد بيل في «الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي إلى اليوم».

أما الأساطير التي حملت طابعًا إسلاميًا عن الماء، فارتبطت دائمًا بالصالحين والأولياء، الذين يتسبب صلاحهم في طواعية الماء لهم.

ومن القصص التي حملت هذا المعنى ما ذكره ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ) في «البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب» أن عبد الله بن ياسين مؤسس دعوة المرابطين كان يستطيع إخراج الماء من أي مكان مهما كان قاحلاً؛ ومن ذلك أنه سافر مع بعض أصحابه، فعطشوا جميعًا وليس بالمكان ماء، فسار بهم ساعة وقال لهم «احفروا» فحفروا فوجدوا ماءً بعد حفر بسيط جدًا، فاعتبروا أن ذلك من كراماته.

واعتقد الناس أن عقبة بن نافع كان قد سبق عبد الله بن ياسين إلى هذه الكرامة، بحسبما جاء في «الاستبصار في عجائب الأمصار»، حيث كان الفاتح المسلم الشهير للمغرب مع أصحابه في الصحراء وأصابهم عطش شديد، فاشتكوا له، فصلى ركعتين ودعا الله، وبعدها اكتشف فرسه عين ماء فشرب منها الجميع.

ويرى الباحث سمير آيت أومغار أن الماء في المغرب دائمًا يوجد بجوار أي مقدس، بشكل عام، ومن ذلك أضرحة الأولياء، حيث تبنى على آبار يكتسي ماؤها طابع القداسة، لخصائصه الاستشفائية التي يؤمن بها المقبلون على شربه واستعماله، وغالبًا يوجد هذا الضريح الخاص بالولي بالقرب من مجرى مائي أو عين، فتزداد قداسة الماء بقداسة الولي، ويزداد الولي قداسة بقداسة المياه.

لماذا قدس المغاربة المياه؟

هناك عدة عوامل ساعدت في تقديس الماء لدى المغاربة، خصوصًا في الأماكن القاحلة، أهمها أن الماء هو أساس للحياة، والإنسان القديم كان يبحث عن أماكن الماء ليقيم بها.

ويؤكد على ذلك أحمد سراج في أطروحته «حول استمرار أحد مظاهر الديانات المائية القديمة بمغرب العصر الوسيط»، موضحًا أن الظروف المناخية من الأسباب القوية التي جعلت الماء مركز الاهتمامات الدينية للأفارقة، فمن دونه لا زراعة ولا حياة، وتزداد الحاجة إليه والإحساس بقيمته كلما كانت البيئة جافة.

من الأسباب التي ساعدت على ذلك أيضًا
الجانب الاستشفائي للمياه المعدنية، الذي جعل الماء ليس فقط سببا للري والطعام، وإنما
كذلك سببا للشفاء؛ ومنذ العهد الروماني اعتقد المغاربة في قدرة الماء على الشفاء
في غياب وسائل الطب الحديثة، ما أضفى على الماء قداسة كبيرة.

وهناك كثير من العيون الاستشفائية بالمغرب، تحدث ليون الإفريقي عن بعضها، ومنها عين ساخنة جدًا بالقرب من مدينة الحامة التي بناها الرومان، ومنها كان ينبثق جدولاً يمشي داخل المدينة، ومن خصائص مائه أنها كانت تشفي من الجذام وتدمل الجروح، ولها تأثير عجيب على المرضى الذين كانوا يجتمعون حولها.

هذه الأسباب المبدئية وغيرها جعلت الماء مؤهلًا للتقديس، إذا ما أضفنا له الجوانب الخوارقية التي كان لها الحيز الأكبر في تفكير العالم القديم، والتي ذكرنا كثيرًا منها أعلاه، وعادة كانت ترتبط الخوارق بالأماكن الخالية من البشر، في الجبال والصحاري أو قيعان العيون أو الأنهار والبحار، وما أكثرها في المغرب، وهي أماكن مثالية لسكن الآلهة والأرواح في أكثر من ميثولوجيا.

واستمر ذلك في الثقافة الإسلامية، لأنه من الصعب انتزاع الثقافة المحلية ومحوها كلية لصالح الثقافة الجديدة، فمهما كانت قوة العقيدة الجديدة، تبقى دائمًا للعقائد القديمة ظلالاً عليها، خصوصًا في ظل الصراعات السياسية والدينية والمذهبية الإسلامية، التي سيطرت على منطقة المغرب العربي لقرون، إضافة إلى التقاء بعض الأساطير مع معتقدات في الثقافة الإسلامية تتعلق بكرامات الصالحين.