خلف الميكروفون، كانت عينا الأمير السعودي الشاب تبصر عشرات الصحفيين الذين تكدسوا لمتابعة مؤتمر زعيم «الأمراء الأحرار»، لكن رأس الأمير لم تكن في بيروت حيث يعقد المؤتمر، بل كانت هنالك، في المملكة الأم، وتحديدا في قصر اليمامة حيث تدار شئون المملكة السعودية. أعلن الأمير المتمرد عن حركة «الأمراء الأحرار» الداعية للإصلاح في السعودية، وقد حظيت بتأييد بضعة أمراء من أبناء الملك.

كان ذلك في أغسطس/آب 1962، وكان ذلك الأمير هو طلال بن عبد العزيز، والد الأمير الملياردير الوليد بن طلال، الذي رفض حكم عائلته (وأخويه سعود وفيصل تحديدًا آنذاك) الاستبدادي للمملكة، وموقفهم من المعسكر التقدمي العربي الذي تقوده القاهرة في ذلك الوقت. دعا طلال والأمراء الأحرار معه إلى إقرار دستور سعودي وتأسيس برلمان تكون له السلطة ضمن نظام ملكي دستوري.

فشلت حركة الأمير بعد هزيمة مصر التي اتخذها مقرا له في حرب 1967، وانقلاب أخيه فيصل على أخيهما سعود، ليحكم المملكة بقبضة من حديد، وبسياسة صارمة لكنها متزنة، تجاه القوى الكبرى والأشقاء العرب.

رغم السماح بعودته إلى السعودية، ظل الأمير طلال مستبعدًا من السياسة، وكذلك صارت ذريته. حاول ابنه الوليد تعويض حرمانه السياسي بثروة مالية هائلة، لكن يبدو أن السياسة كانت قدرا له. لئن حاول الوليد الهرب من السياسة، فإن السياسة لم تتركه، وها هو مسجون اليوم في الريتز كارلتون مع أقربائه من أمراء العائلة.

هل كان الوليد حقا قد غادر السياسة ورضي بالثروة عوضًا عن السلطة؟ أم أنه حمل ثأر أبيه وحلمه بنظام جديد للمملكة أكثر مناسبة للانفتاح السياسي الذي تحبذه الثروة؟


قيصر المال والإعلام

بقرض مصرفي بسيط بدأ الأمير السعودي – حفيد الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة – حياته العملية والتجارية، حيث استثمر في مختلف المجالات والقطاعات حول العالم، وخاصة قطاع الإعلام، إذ امتلك أسهمًا كبيرة في العديد من المؤسسات الإعلامية العربية والأجنبية مثل مجموعة قنوات «روتانا»، وقناة «الرسالة»، وقناة «العرب» الإخبارية، كما امتلك حصصًا أيضًا في شركات «نيوز كورب» و«ميدياسيتي» و«سي إن إن»، فضلا عن استثمارات في القطاع التقني، أهمها في شركة «أبل» وشركة «تويتر» وغيرهما.


امتلك الوليد بن طلال

أيضًا العديد من الأسهم في سلسلة فنادق في باريس ونيويورك، بما في ذلك فندق «سافوي» في لندن، وفندق «بلازا» في نيويورك، وسلسلة فنادق «أكور» الفرنسية.

بذلك استطاع الملياردير السعودي بناء إمبراطورية ضخمة تضم ألمع الأسماء التجارية، وأصبح من أقوى 500 شخصية في العالم

وفقًا لتصنيف

مجلة «فورين بوليسي» عام 2013، كما دخل اسمه ضمن أحد أثرى مائة رجل أعمال عربي، حيث بلغ حجم ثروته وفقا لآخر إحصائية لمجلة فوربس الأمريكية أكثر من 18.2 مليار دولار.

وإذا كان هذا على المستوى الدولي، فقد

امتدت استثماراته

أيضا إلى الداخل السعودي عبر عدد من المشاريع العملاقة، أبرزها مشروع جدة العقاري الذي تتجاوز مساحته خمسة ملايين متر مربع، وبرج بارتفاع ألف متر.

كما

ترأس أيضا

مجلس إدارة «شركة المملكة القابضة» (إحدى أكثر شركات الاستثمار العالمية في مجال البناء والمقاولات)، وهو المساهم الرئيسي فيها بنسبة 95%.


اعتقال «الوليد»: فساد أم تصفية حسابات؟

هكذا اقتصر نشاط الأمير السعودي على مجال الاستثمارات، ولم يمتد إلى شغل أي منصب سياسي في مسيرته العملية، ما جعل إلقاء القبض عليه ضمن حملة الاعتقالات التي استهدفت المنافسين المحتملين لولي العهد محمد بن سلمان مفاجأة كبيرة أثارت العديد من التكهنات بشأن الدوافع الحقيقية وراءها.

في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى عدد من الأسباب والدوافع المحتملة وراء اعتقال الوليد، لعل أبرزها التالي:

أولا: رغبة ولي العهد في التخلص من منافسيه في مجال الاقتصاد والإعلام، فـالوليد بن طلال على الرغم من أنه لم يكن يبدي أي اهتمام في السباق نحو ولاية العرش، فإنه كان مزعجًا لولي العهد بسبب اهتمام الصحافة العالمية بتصريحاته والصورة التي تقدمها عنه كرجل أعمال ناجح عالميًا ويحتل مركزا مهما ضمن قائمة الأغنياء بالعالم.

في السياق ذاته، ترددت أنباء عن أن رجل الأعمال على الرغم من ترحيبه برؤية «2030» فإنه بدأ يشكك في أهدافها، ويطالب بالشفافية في تفعيلها، وبدأ يجاهر بموقفه هذا في مجالسه الخاصة داخل المملكة وخارجها، ما شكل إزعاجا لولي العهد.

وبالتالي باعتقال الملياردير السعودي يكون محمد بن سلمان قد استطاع تصفية الساحة من أي منافس اقتصادي له وللخطط التي يضعها تحت مظلة رؤية «2030»، وتمكن في الوقت ذاته من إحكام سيطرته على الإعلام ودوره الحيوي في الترويج لرؤيته وسياساته داخليًا وخارجيًا.

ثانيا: الخلافات المحتملة بين الأمير السعودي وولي العهد، حيث

توالت الأنباء

عن وجود توترات بين الجانبين على خلفية رفض الوليد بن طلال لتعيين محمد بن سلمان وليًا للعهد، بدلا من الأمير محمد بن نايف،

كما تردد

أن الوليد قد هدد بسحب كل أمواله من المملكة إلى أوروبا إذا لم يتم إطلاق سراح ولي العهد السابق.


أشار الصحفي البريطاني ديفيد هيرست

إلى ذلك في مقال له بموقع «ميدل إيست آي»، حيث وضح أن اعتقال الوليد بن طلال جاء على خلفية دعمه للأمير محمد بن نايف ودعوته لرفع الإقامة الجبرية عنه. وعلى الرغم من أن الوليد بن طلال أعلن مبايعته لولي العهد عبر «تويتر»، فإن هذا الأمر لا يعني أن الأخير لا يعتبر الأمير رجل الأعمال أحد مراكز القوى التي تشكل تهديدا لمواقع النخبة الحاكمة في المملكة.

ثالثا: المخاوف من إمكانية توفير الملياردير غطاء ماليا لقائد الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله، فربما تأتي هذه المخاوف كأحد الأسباب المحتملة وراء اعتقال ولي العهد للأمير الوليد بن طلال، تحاشيًا لإمكانية توفيره الدعم المالي للأمير متعب (المستهدف الرئيسي من حملة الاعتقالات) إذا ما قرر الانقلاب والوصول إلى عرش المملكة.

وربما دعمت هذه المخاوف لدى محمد بن سلمان ما سبق أن قام به الأمير طلال بن عبد العزيز والد الملياردير السعودي من رفض للتغييرات الوزارية التي أعلنها العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز عام 2015، والتي تم بموجبها إعفاء الأمير مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد وتعيين الأمير محمد بن نايف بدلا منه وتعيين محمد بن سلمان وليا لولي العهد.

فحينها

أكد الأمير

طلال رفضه مبايعة تلك التعديلات ووصفها بالارتجالية، كما استمر في انتقاد الأسرة الحاكمة والنظام الملكي الحاكم في السعودية عامةً، حتى تم طرده من المملكة إلى أن تم العفو عنه فيما بعد بشرط عدم تدخله في شئون الحكم.


25 مليون دولار عن كل ساعة اعتقال!

أخيرًا، وأيا كان السبب الأقرب لحقيقة اعتقال الأمير السعودي، فإن واقع الحال الآن يشير إلى أن هذا الاعتقال قد ترتب عليه العديد من التداعيات السلبية التي لم تقتصر فقط على مستوى شخص الوليد بن طلال واستثماراته، بل امتدت إلى المملكة ذاتها.

فقد مني الملياردير السعودي بخسائر فادحة منذ اعتقاله، إذ أشار تقرير لوكالة «بلومبيرج» إلى أن خسائره

بلغت نحو

1.2 مليار دولار خلال 48 ساعة فقط من اعتقاله، أي بما يعادل 25 مليون دولار عن كل ساعة كما سبق الإشارة.

هذا فيما

أكدت مجلة

«فوربس» الأمريكية المتخصصة في شئون الاقتصاد أن الخسائر وصلت إلى نحو ملياري دولار، موضحة أنه خسر في اليوم الأول من اعتقاله 1.2 مليار دولار، فيما خسر 700 مليون دولار في اليوم التالي،

كما أشارت

إلى أن ترتيبه في قائمة أغنياء العالم قد تراجع ثمانية مراكز ليحتل بذلك المركز الـ 78 بدلا من الـ70.

كذلك من المتوقع – في حال ثبوت اتهامه بغسل الأموال – أن تتوالى خسائره مستقبلا فهذه التهمة كفيلة بتهديد استثماراته حول العالم، حيث ترتبط بارتكاب الشخص أو المؤسسة أعمالاً مالية غير مشروعة، مثل تمويل الإرهاب والاتجار في المخدرات، والتجارة في صفقات السلاح واختلاس المال العام والعدوان عليه وغيرها، وبالتالي فعندما ينتشر بين المؤسسات العالمية التي يستثمر فيها الملياردير السعودي أنه متهم بغسل الأموال، فستصيبها المخاوف من تأثير هذه الاستثمارات على سمعتها.

أما عن المملكة، فإنها أيضا أحد أبرز الجهات التي تكبدت خسائر ملموسة عقب اعتقال الأمير الذي يعد أغنى رجال أعمالها، حيث

انخفضت أسهم

«شركة المملكة القابضة» المملوكة من قبله، بنسبة 9.9%، كما تراجع مؤشر البورصة السعودية، بنسبة 2.1% وذلك بعد مرور يوم واحد من الاعتقال!

كذلك، فمن شأن هذه الخطوة أن تنعكس سلبا على الاستثمارات الدولية في السعودية، فالملياردير هو واجهة للمملكة ورمز لقطاع المال والأعمال بها، واعتقاله سيعمل على زعزعة ثقة المستثمرين بها، وذلك في الوقت الذي تسعى فيه المملكة للتخلص من صورتها كدولة بترولية تتوقف إمكانياتها على أسعار النفط.