من منا لم يسمع من قبل عن مصطلح «العقل الباطن» أو «اللا وعي»؟ تلك القارة الغارقة في بحر النفس التي تطفو أجزاءٌ منها على السطح بين الحين والآخر في أحلامنا. إن المعنى البسيط والمتداول لللا شعور الذي بلوره سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي هو أنه: مستودعٌ للأفكار والدوافع والرغبات التي يتم كبتها خارج دائرة الوعي الإنساني، لحماية النفس من تأثيرها السلبي، وإن كانت تؤثر هذه الأفكار في سلوك الفرد بدون وعي منه. فمن الممكن أن تكون حاقدًا على أحد أصدقائك لامتلاكه شيئًا ما تريده بشدة، ولكن نفسك تأبى أن تعترف بهذا الشعور فتكتمه في عقلك الباطن، ولكن هذا الشعور يظهر في مزاحك الثقيل معه، والذي يتجاوز الحد في أحيان كثيرة.

يشير فيسا تاليڤيتيا أستاذ علم النفس بجامعة هلسنكي بفنلندا في كتابه «Freudian Unconscious and cognitive Neuroscience» أو «اللا وعي الفرويدي وعلم الأعصاب الإدراكي» أن اللا وعي عند فرويد وزملائه من المحللين النفسيين هو:

ساخنًا ورطبًا، كان يغلي بالشهوة والغضب، كان مهلوسًا، بدائيًا، وغير عقلاني. اللا وعي الخاص بعلم النفس المعاصر أطيب وألطف من ذلك وأكثر تقيدًا بالواقع وعقلانية، حتى وإن لم يكن باردًا وجافًا بالكامل.

يعكس هذا الاقتباس تغيّر نظرة علماء النفس لللا وعي، فهو لم يعد ذلك المستودع للرغبات الجنسية المحرمة والأفكار المزعجة غير المرغوب فيها، وكأن الأفكار الواعية هي الأساس والأفكار التي نريد التخلص منها فنكبتها ونلقيها في زاوية مقفرة من العقل تُدعى العقل الباطن، بل وجدوا أن الأصل في العمليات الذهنية أن تكون غير واعية، وهي تشكل النسبة الأكبر من تلك العمليات ووعينا بها أمر طارئ عليها.


تحسبه واعيًا لكن ربما ليس كذلك

بل إن العمليات الواعية تكمن وراءها عمليات غير واعية، فمن التجارب الكلاسيكية في علم النفس العصبي التجربة التي قام بها عالم الأعصاب بنجامين ليبيت التي أثبت من خلالها ظهور جهد كهربائي في المخ يسبق إدراك المرء الواعي برغبته في القيام بفعل ما (تحريك إصبعه مثلًا) بـ350 مللي ثانية، وبغض النظر عن التأويلات التقنية والفلسفية المبنية عليها إلا أنها تشير إلى احتمال وجود دور للنشاط العصبي غير الواعي حتى في أفعالنا الواعية. سنتحدث في هذا المقال عن دور العمليات العصبية غير الواعية في النشاطات الحسية والحركية والشعورية، والتي كان يرى العلماء من قبل ضرورة وجود الوعي للقيام بها، وقد ثبت الآن عكس ذلك.


لا أرى ولا أدرك لكن أتحرك!

في فبراير/ شباط من عام 1988 قرب مدينة ميلان الإيطالية، تعرضت د.ف. إلى التسمم من غاز أول أكسيد الكربون مما تسبب في إصابتها بالعمى القشري، وهو عمى تسببه إصابة الجزء المسئول عن الإبصار في القشرة المخية، بينما تكون العينان سليمتين. لاحظ عالما نفس الأعصاب الأسكتلندي ديفيد ميلنر، والكندي ملفن جودال، أن د.ف. تستطيع مد يدها والإمساك بقلم إذا قدمته لها بالرغم أنها لا تراه ولا تستطيع إخبارك باتجاهه أهو رأسي أم أفقي، بل ويمكنها أن تغير هيئة يدها إلى هيئات مختلفة للإمساك بأشياء متعددة. تُعرف هذه الظاهرة بالرؤية العمياء (Blindsight)، لكن كيف نفهم هذا؟

اقترح ملنر وجودال نموذجًا يرى أن د.ف. أصيبت في مسار عصبي يدعى المسار البطني (ventral stream) وهو المسئول عن التعرف على ماهية الأشياء التي نراها فنعرف أن هذا قلم أو كوب مثلًا، وهو مسار يحتاج إلى الإدراك البصري الواعي، أما المسار الظهري (dorsal stream) المسئول عن تحديد موقع الشيء ليرشد حركة العضلات للإمساك بذلك الشيء فهو مستقل عن المسار الظهري، ومستغنٍ عن الإدراك البصري الواعي! أي أنك لا تحتاج أن تكون واعيًا لتمسك بالأشياء!

علم التشريح

المسار البطني والمسار الظهري


تعددت الشخصيات والدماغ واحد

ومن الظواهر المبهرة التي توضح الدور القوي الذي يلعبه اللا وعي ما بينته التجارب بخصوص ما يعرف باضطراب الهوية الانفصالي (Dissociative identity disorder) الذي كان معروفًا باضطراب تعدد الشخصيات، والذي يُصاب المرء به إذا تعرض لصدمة نفسية حادة، فيقوم اللا وعي بفصل الذكريات والمشاعر المؤلمة عن وعيه لحمايته منها حتى يستطيع الاستمرار في الحياة، ويسمى هذا الجزء من الشخصية بالجزء الذي يبدو طبيعيًا. لكن تتكون بداخل المريض شخصية أخرى تستحضر الذكريات الخاصة بالصدمة والانفعالات السلبية ضدها فتتغير سلوكياته ومشاعره إذا تحكمت فيه تلك الشخصية، ويسمى هذا الجزء من الشخصية بالجزء العاطفي.

قام مجموعة من الباحثين في إحدى جامعات هولندا بدراسة الفرق في النشاط العصبي والمؤشرات الحيوية بين الجزء الطبيعي والعاطفي لشخصيات أحد عشر مريضًا، و

كانت النتائج في غاية الغرابة!

فعندما يُطلب من المرضى وهم في حالاتهم الطبيعية قراءة جزء من سيرة حياتهم التي تتضمن تفاصيل الصدمات التي تعرضوا لها؛ يقولون إنها لا تمت إليهم بصلة ولا يتذكرونها، والمؤشرات الحيوية تؤكد صدقهم، فنبضات القلب وضغط الدم في المستويات الطبيعية. أما في حالاتهم العاطفية يحدث تزايد في نبضات القلب وارتفاع في ضغط الدم! ليس هذا فحسب، فعند قياس النشاط العصبي لمناطق مختلفة من الدماغ تختلف المناطق النشطة بين حالة وأخرى، فعندما يقرأ المريض في حالته العاطفية تفاصيل الصدمة تنشط المناطق المخية المسئولة عن المشاعر السلبية كالخوف والألم والهلع، أما نفس المريض في حالته الطبيعية لا تُظهر هذه المناطق نفس النشاط، فهو لا يتذكر هذه الأحداث! شخصيتان بأنماط عصبية وحيوية وشعورية مميزة ومختلفة في نفس الدماغ!

قام باحثون في ميونخ

بتجربة أخرى عجيبة

على مريضة تعاني من اضطراب الهوية الانفصالي، فهي مبصرة في حالتها الطبيعية ولكن شخصيتها العاطفية المرضية عمياء! عند قياس النشاط الدماغي الذي تثيره المؤثرات البصرية أثناء حالة المريضة الطبيعية، كان النشاط الكهربائي طبيعيًا مما يدل على كونها مبصرة، لكنه انخفض بشكل ملحوظ وهي في حالتها العاطفية مما يشير إلى عدم وجود نشاط دماغي متعلق بالإبصار. شخصية مبصرة وأخرى عمياء في نفس الدماغ!

من المحتمل أن تصيبك الدهشة مثلي عند قراءتك لهاتين التجربتين، وربما ستجد أنه من الصعب تخيل الكيفية التي ينتقل بها المريض من حالة إلى أخرى بدون أي تحكم واعٍ منه، ولكن المسئول عن هذا الأمر في الحقيقة هو عمليات عصبية غير واعية. ففي التجربة الأولى وعند قراءة المريض لأجزاء مؤلمة من سيرته الذاتية وهو في حالته الطبيعية، يعيق نشاط عصبي في الدماغ معالجة الذكريات المرتبطة بالصدمة التي تعرض لها المريض، فلا يشعر أن تلك الذكريات تمت له بأي صلة.


الجمال في القشرة المخية للناظر

هل يمكن للدماغ أن يعالج المعلومات البصرية دون أن يكون المرء واعيًا بها؟ أجل، ولقد درس الكثير من الباحثين معالجة الدماغ غير الواعية للصور المختلفة، ففي البداية يقومون عبر آلية ما بتعطيل الإدراك الواعي البصري في عين أحد الأفراد؛ أي تصبح غير مدركة للصور، ثم يقومون بعرض صور مختلفة لهذه العين. لاحظ الباحثون أمرًا في غاية الغرابة، وهو أن هناك بعض الصور التي تعرض على العين تقوم بكسر هذا التعطيل للإدراك الواعي أسرع من صور أخرى؛ أي أن اللا وعي قام بمعالجة هذه الصور ولاحظ بها أمرًا ما، فأوصلها إلى نطاق الوعي أسرع من بقية الصور. وجد الباحثون أن الوجوه القائمة والكلمات الواضحة تكسر هذا التعطيل أسرع من الوجوه المقلوبة والكلمات غير الواضحة، كما أن تعبيرات الوجه الخائفة تكسر هذا التعطيل أسرع من التعبيرات المحايدة.

قام مجموعة من الباحثين في الجامعة العبرية بالقدس

بنفس التجربة

، ولكن عرضوا على الأفراد صورًا أكثر تركيبًا. كانت بعض هذه الصور متناسقةً في تفاصيلها مثل امرأة تضع صينية طعام داخل الفرن أو رجل يلعب كرة السلة، وبعضها لم يكن كذلك، كامرأة تضع رقعة شطرنج داخل الفرن أو رجل يلعب كرة السلة ببطيخة، والنتيجة؟ قامت الصور غير المتناسقة بكسر التعطيل أسرع من المتناسقة؛ أي أن الآليات العصبية غير الواعية بالقشرة البصرية في المخ قامت بمعالجة الصور، ولاحظت أن الصور غير متناسقة في محتواها فأوصلتها بسرعة أكبر إلى نطاق الوعي! فأنت لا تحتاج إلى الوعي لتلحظ أن في الصورة شيئًا مريبًا.


أن تولي فرارًا.. ثم تعرف مما فررت

قام جوزيف لودو عالم الأعصاب بجامعة نيويورك بوصف الأسس العصبية لتجربة مررنا بها كثيرًا. تخيل أنك تقوم برحلة سافاري في قلب الصحراء، وبينما تسير يقع بصرك على جسم طويل ورفيع أمامك فتتوقف فجأة وترتد إلى الوراء، ويتبين لك بعد ثوانٍ أن هذا ثعبان سام. يفسر لودو هذا السلوك بمسارين عصبيين؛ أسماهما: الطريق العلوي والطريق السفلي (High road and low road).

الطريق السفلي هو: المسار العصبي الذي ينقل المعلومات من شبكية العين إلى ما يُعرف بالأميجدالا عبر ما يُسمى بالمهاد، فتشعر بالخوف وتتوقف عن السير. كل هذا يحدث تلقائيًا وبغير وعي منك ودون أن تدرك حقيقة هذا الجسم. أما الطريق العلوي فهو: مسار أبطأ ينقل المعلومات من شبكية العين إلى القشرة البصرية عبر المهاد أيضًا، لمعالجة تلك المعلومات، فتدركها ويتبين لك أن هذا الجسم ثعبان سام. هذا يوضح أن الطريق السفلي غير الواعي هو الذي جعلك تنفعل وتخاف من هذا الجسم قبل أن تدرك ما هو، وهذا يوفر لنا ميزة تفادي الأخطار بسرعة عن طريق العمليات غير الواعية لأنها أقل دقة لكن أسرع من العمليات الواعية.

الطريق العلوي والطريق السفلي؛ المهاد ممثل باللون الأصفر والأميجدالا بالأحمر والقشرة البصرية بالبنفسجي.


خاتمة

الدماغ البشري

الدماغ البشري

إن حديثنا هذا لا يقلل من أهمية الوعي في شيء، فبدون الوعي يكون سلوكنا سلسلةً من الفعل ورد الفعل فحسب، ولن نستطيع الإتيان بأي أفعال معقدة أو الاختيار بين خيارات متعددة فنخسر سمةً هامة من سمات إنسانيتنا.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.