فيلم فرنسي يحكي بطريقة الفلاش باك قصة فتاة تدعى «مونا بيرجيرون» تعيش منتقلة من مكان إلى آخر، تمر بعدة أشخاص في رحلتها، ولدى كل منهم حكاية عن علاقتهم بها. وبينما يتناول الخط الأساسي للفيلم رحلة الفتاة، فإنه لا ينسى أن يدلف إلى حياة كل شخصية تقابلها، لتخرج لنا توليفة سينيمائية مكثفة عن الإنسان وعلاقته بالآخر، بما في ذلك الصراع بين الفرد والمجتمع، بين تلك الرغبة المجنونة في أن يعيش المرء وفق هواه، وبين ما يتطلب دفعه لقاء ذلك، طارحًا هذا التساؤل: إلى أي حد يمكن أن تصمد هذه الرغبة في وجه المجتمع المحيط؟

أنتج الفيلم عام 1985 بإخراج «آنيس فيردا»، وبطولة «ساندرين بونير» التي حصدت عنه جائزة «السيزار» لأفضل ممثلة.


بدون سقف أو قانون

يستهل فيلم «Vagabond – المتجولة» أولى مشاهده بكادر مفتوح لحقل كروم ممتد يجمع فيه أحد العمال الحطب، وعند نهايته يكتشف هذا العامل فتاة ملقاة في حفرة، فيسارع لإخبار رب عمله أنه وجد فتاة ميتة، دون أن يتحقق من الأمر. وهكذا أخذ أمر الفتاة على هذا النحو الذي جعل من موتها شيئًا لا يقبل الشك فيه، بسبب هيئتها المزرية. وهذه نقطة تثيرها لقطة أخرى، تظهر ضربات النبض القوية في عنق الفتاة، مما يعزز الشك حيال موتها.

بعد هذا المشهد يجيب العامل على أسئلة الشرطي ببساطة: «امرأة في الحفرة. إنها ميتة.. ميتة». وكأن المجتمع قد أبرم صفقة بين أبنائه من أجل غض الطرف عن الخيط الذي قد ينجيها، لأنها رفضته وكرهت أعرافه وقوانينه.

يضعنا الفيلم في النهاية الطبيعية لزمن رحلة الفتاة نحو الحرية، هذه الرحلة التي تبدأ بتكوين شاعري تظهر فيه «مونا بيرجيرون» وهي تخرج عارية تمامًا من البحر، حرة ومنطلقة بدون سقف أو قانون – ترجمة الاسم الفرنسي للفيلم: «Sans toit et loi» – كما لو أنها ولدت هناك لتوها، تعرف ما تريد وتتعقب أثره، ولديها شخصية مستقلة في التعامل مع كل ما تمر به.

تلتقي براعي غنم دارس للفلسفة، يعيش مع زوجته وطفلته، يقول إنه اتخذ طريقًا وسط، بين الحرية والوحدة، ويحسدها لأجل ذلك على حريتها التامة. يعطيها قطعة الأرض لتزرعها لكنها تراجع نفسها، وتتساءل فيما بينها: هل هذا حقًا ما أريد؟ فتهمل الأرض، ويتهمها الراعي بالإهمال ويطردها. فتقول له: «أنت تعيش في القذارة مثلي، الفرق بيني وبينك أنك تعمل أكثر. لو درست، لن أعيش مثلك. أكره أن أكون سكرتيرة. لقد أقلعت عن هؤلاء الرؤساء».

لقد تركت «مونا» عالم الإرغام والمساومة برمته وراءها، بحثًا عن عالم تكون فيه سيدة نفسها. هذا العالم تأخذ فيه الأشياء التي نمتلكها مكانتها الطبيعية، فالحذاء الذي ترتديه لا يمثل بالنسبة لها أكثر من مجرد حذاء يؤدي وظيفته: حفظ القدمين. لا شيء يهمها في الحذاء سوى صلاحيته لأن يكون كذلك، فإذا تعطل عن أداء هذه الوظيفه أصلحته.

تقول أغنية «The flood لـ Katie melua»:

من المؤكد أنه لا شيء مؤكد

ما نحوزه يصير سجنًا لنا

ممتلكاتي سترحل

إلى المكان الذي جاءت منه


التلقائية في مواجهة الاغتراب

إنها تنطلق بعيدًا عن براثن المجتمع الحديث الذي يعبر بالسلعة ويتجاوز حدودها الوظيفية إلى خلق روابط زائفة تحقق صورة ذهنية مقصودة. إنها تنبذ الفكرة التي تقول إن ما ترتديه وما لا ترتديه يعرف من تكون، وأين يجب أن تكون على الخريطة الاجتماعية. وعندما يعاب عليها رائحتها العفنة التي لا تطاق، ويشار إلى هيئتها غير المناسبة للذوق العام، تأخذ الأمر بارتياح بالغ وترد: أعلم أنني لا أملك المظهر المناسب!

إن الفيلم يطرح إشكالية الزيف أمام الحقيقة والاصطناع أمام التلقائية، ولقد لخص هذه المسألة في مشهد يمثل فكرة بؤرية: فوق طاولة في مطعم، تقع مواجهة بين يدي مونا المتسختين، ويدي سيدة مرموقة من الذين قابلتهم أثناء ارتحالها. طلاء الأظافر لدى سيدة المجتمع بما يمثله من امتيازات اجتماعية ومادية وقبل كل شيء فهو استهلاك مظهري، لا يمكن أن تكون تجربة صاحبته في التعاطي مع الحياة أوسع من تجربة مونا. طلاء الأظافر بوصفه مادة للزينة لا يمكنه واقعيًا أن يتجاوز كونه استعراضًا، وبالتالي فإنه ينهار عند مواجهة اتساخ يدي مونا الهاربتين من التقييد العام والمنغمستين في نشاط حياتها الخاصة.

يشير «جي ديبور» في كتابه «مجتمع الاستعراض» إلى أن الفكرة القائمة وراء الاستعراض تتلخص في القول: «إن كل ما هو جيد يتبدى، وما يتبدى جيد». ويعرفه بأنه هو «الرؤية المتشيّئة للعالم، وموضع النظرة المخدوعة، والوعي الزائف».

اتساخ يدي مونا هو في نهاية الأمر اتساخ أنتجته فرديتها، ناتج عن ذاتها، ويعمق الإحساس بأنها تمتلك نفسها، وبأنها يمكنها أن تقف في مواجهة أي شيء من شأنه أن يعرقل رحلتها نحو الحرية. عندما تسحب مونا يدها من أمام يدي السيدة، فإن هذا لا يعني أنها تنهزم في هذه المواجهة/ المقارنة، بل يعني أنها تنبذ هذا الوضع الذي رفضته سابقًا، هذا الوضع الذي يكرس لفكرة التنافسية من أجل التفوق. يشير هذا الوسخ إلى انطلاق مونا هنا وهناك، تجريبها هذا واختبارها ذاك، دون أن يكون لديها خوف من عقاب، أو رغبة في شيء، سوى رغبتها في تحقيق ذاتها.

لا تترفع مونا عن المبيت في مقبرة، أو العمل في حقل كروم، أو الثرثرة مع رفاق متجولين لا تعرفهم، ولا تكف كذلك عن اكتشاف وتأمل كل ما هو جديد، وهذا ما يفسر سر تعلق هذه السيدة بها، لأنها رأت فيها التلقائية التي لم تستطع أن تعيشها.


نحن أيضًا نريد الحرية

يشار إلى أن معضلة الإنسان الحديث تكمن في تورطه بين عدة قيود، فالإنسان الذي اختار العزلة بدلًا من الانزلاق وراء روابط العالم الخارجي التي قد تسلبه حريته، قد اصطدم أيضًا بالعجز الناتج عن هذه العزلة، ومن هنا يتولد قيد جديد. والإنسان الذي اختار النقيض قد تخلى عن فرديته من أجل إحساسه بالأمان والاستقرار في الحياة. كأن يحصل على مكانة اجتماعية أو وظيفة تدر عليه دخلًا ثابتًا. ومن هنا يتساءل «إريك فروم» في كتابه «الخوف من الحرية»:

هل التحرر من كل الروابط الأولية يجعل الفرد وحيدًا ومنعزلًا لدرجة أنه لا بد وأن يهرب إلى قيد جديد؟ هل الاستقلال والحرية متطابقان مع العزلة والخوف؟ وهل هناك حالة للحرية الإيجابية فيها يعيش الفرد كنفس مستقلة ومع هذا لا يكون منعزلًا بل متحدًا مع العالم والآخرين والطبيعة؟

يطرح فروم حلًا لهذه المعضلة، هي فكرة التلقائية التي تجعل الفرد يهرب من الوحدة، ويتفاعل مع العالم عبر نشاط حر، يحقق من خلاله ذاته. ويسهب فروم في عرض فكرته قائلًا:

«Vagabond» في نهاية الأمر يطرح رؤية جديدة للحياة، رؤية تعتمد على فعل الحياة ذاته كما أشار فروم. فبالتوازي مع سرد رحلة البطلة، فإن الفيلم يسرد أيضًا وجهات نظر الناس فيها. إنهم يرونها غريبة، متمردة، طائشة، لكنهم لا يستطيعون نسيانها، ربما لأنها حركت فيهم الرغبة المدفونة في أن يصيروا أحرارًا، كما لو أن بداخلهم طائرًا أزرق محبوسًا – كالذي كتب عنه «تشارلز بيكوفسكي» – يحتاج من يفك أسره. تقول إحدى شخصيات الفيلم حاسدة مونا: «أود أنا أكون حرة، أود أن أكون حرة!»


الموت نصيب كل ثائر

إذا حقق الفرد نفسه بالنشاط التلقائي، ومن ثم تعلق بالعالم، فإنه يكف عن أن يكون ذرة منعزلة. ومن ثم يختفي شكه فيما يتعلق بنفسه ومعنى الحياة. هذا الشك ينبعث من انفصاله، ومن انجراف الحياة. وعندما يتمكن من الحياة بطريقة تلقائية، فإن هذا الشك يختفي. إنه يدرك نفسه كفرد فعال وخلاق. ويدرك أن هناك فحسب المعنى الوحيد للحياة: فعل الحياة نفسها.

يجادل «كارل بوبر» أن أي كائن حي في سعي دائم نحو ما هو أفضل، ويوجه أنظارنا إلى أن القصور الدائم هو ما يدفع الكائن إلى الاستمرار في هذا السعي، والذي يعني استمرار الحياة. لهذا يمكن النظر إلى الموت على أنه التحقق الكامل للكائن الحي. فإذا كان سعي مونا نحو الحرية هو سعي نحو الأفضل بالنسبة لها، فإن موتها في النهاية هو تتويج لهذه المسيرة، ويعتبر معادلًا لفكرة ربما غير مصاغة عن الحرية، فكرة تحتاج إلى التحرر من أي مادة، بما في ذلك الجسد.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.