في فبراير/شباط الماضي، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا في 48 صفحة بعنوان: «عمليات الاغتصاب الجماعي في دارفور: هجمات الجيش السوداني على المدنيين في تابت». يوثّق التقرير حوادث اغتصاب جماعي ضمن تعديات أخرى على حقوق الإنسان ضد سكان شمالي دارفور؛ الاتهامات التي نفتها حكومة السودان جملة وتفصيلا مانعة القوة المشتركة المشكّلة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (اليوناميد) من إجراء تحقيقات بشأنها. اتهامات مماثلة بالاغتصاب والقتل والإبادة الجماعية تضمنتها مذكرة الاتهام الشهيرة التي أصدرها لويس أوكامبو، المدعي العام لدى محكمة العدل الدولية، ضد البشير، متهمًا إياه بالتطهير العرقي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور.

البشير الذي جاوز السبعين عامًا ما زال يحكم السودان منذ ما يزيد على ربع قرن بعد أن نفّذ انقلاب 1989 العسكري الذي رتّبه وخطط له حسن الترابي على الحكومة المدنية في ذلك الوقت برئاسة الصادق المهدي، صهر الترابي.


تاريخ من الانقلابات

للسودان مع الانقلابات تاريخ طويل لا يكاد يخلو من المفارقات العجيبة. أول محاولة انقلاب جرت كانت عام 1957، بعد أقل من عامين فقط من الاستقلال والانفصال عن مصر. ثم تلا ذلك «انقلاب شرعي» عام 1958 نجم عن اتفاق «حزب الأمة» بقيادة آل المهدي ورئيس الحكومة عبد الله خليل على تسليم السلطات للفريق إبراهيم عبّود، قائد الجيش في ذلك الوقت، لقطع الطريق على حدوث انقلاب ضد النظام القائم وإعادة الوحدة مع مصر.

إلا أن الفريق عبود استمرأ البقاء في السلطة بعد أن كان وصوله إليها مجرد ظرف مؤقت، وشرع هو نفسه في التقارب مع نظام جمال عبد الناصر في مصر ومع الكتلة الشرقية، ضد الحركات الإسلامية (المهدية والختمية والإخوان) التي أخذت تطالبه بتسليم السلطة. شهد حكم الفريق عبود عدة محاولات للانقلاب عليه خلال عهده القصير الذي استمرّ 6 سنوات قبل أن تسقطه «

ثورة 1964

» التي كان أحد أعلامها ومحركيها الأساسيين أستاذ الحقوق بجامعة الخرطوم الذي كان قد عاد لتوه من فرنسا بعد أن حصل على الدكتوراه من السوربون؛ ذلك الشخص لم يكن إلا حسن الترابي.

المفكر والسياسي السوداني حسن الترابي

كان حسن الترابي أحد مؤسسي جبهة الميثاق الإسلامية، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، ثم أصبح أمينها العام والشخصية الأهم بين إخوان السودان، وربما في تاريخ السودان السياسي كله.

لم تدم التجربة الديموقراطية السودانية طويلا. ففي 1969، قام جعفر نميري الذي كان ضابطًا صغيرًا في الجيش لم يتجاوز بعد الأربعين من عمره، بانقلاب بالتحالف مع قيادات الحزب الشيوعي. رحّب جمال عبد الناصر «بالثورة السودانية» و«نظام مايو» الاشتراكي الساعي للتحرر من «الرجعية والاستعمار»، وهو الذي جظر جميع الأحزاب مقيمًا «الاتحاد الاشتراكي السوداني» كحزب وحيد في البلاد.

إلا أن الوضع الاقتصادي والأمني في البلاد تردى إلى مستوى بالغ السوء. تراجع الإنتاج الزراعي، وفقد الجنيه السوداني معظم قيمته؛ الأمر الذي أدى إلى موجات من الاحتجاجات الشعبية ومحاولات الانقلاب. عمد النميري إلى ممارسة لعبة تبديل الأدوار مع الأحزاب المختلفة من يساريين وقوميين وإسلاميين، آخذًا كل بضعة سنوات صف أحدهم، ملقيًا بقيادات الأحزاب الأخرى في السجون، انتهاء بإصداره «قوانين الشريعة الإسلامية» في سبتمبر/أيلول 1983، محاولا بذلك استرضاء الأحزاب الإسلامية التي أصبحت بالغة القوة، إلا أن الأوان كان قد فات.

ففي 1985، وبينما كان النميري في رحلة إلى الخارج، قاد الإسلاميون بمختلف أحزابهم، وبالتعاون مع اليساريين، حركة احتجاجات واسعة وإضرابات لمختلف النقابات، أدت في النهاية للإطاحة بنظام النميري وتسليم السلطة لقائد الجيش عبد الرحمن سوار الذهب ليقود البلاد خلال فترة انتقالية لا تزيد عن عام واحد تجري خلاله الانتخابات البرلمانية، ويسلم سوار الذهب السلطة على إثرها للحزب الذي يختاره الشعب؛ الأمر الذي التزم به سوار الذهب بالفعل في الميعاد المحدد معلنًا اعتزاله العمل السياسي والعسكري كذلك!

قرر حسن الترابي الانفصال عن الإخوان المسلمين وتأسيس «الجبهة القومية الإسلامية» التي حازت على المركز الثالث في الانتخابات النيابية عام 1986. شارك الترابي على إثر ذلك في حكومة ائتلافية برئاسة صهره الصادق المهدي، رئيس «حزب الأمة» الذي تصدر الانتخابات، متولّيًا فيها منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، إلا أن جراب الحاوي كان يحوي ألاعيب أخرى.


ثورة «الإنقاذ» 1989

خطّط الترابي للانقلاب على الحكومة المدنية التي يشارك هو فيها، بدقة متناهية. تم استدعاء العميد عمر البشير الذي كان أحد رجال «الجبهة القومية الإسلامية» داخل الجيش، من جبهة القتال مع المتمردين بحجة الترتيب لإرساله إلى بعثة تدريبية في مصر، وتم تسجيل بيان الانقلاب سرًا في استوديو مملوك «للجبهة القومية الإسلامية»، ثم بُثّ البيان وصدرت الأوامر العسكرية باعتقال جميع القيادات السياسية في السودان، وعلى رأسهم صادق المهدي والترابي نفسه!

لاحقًا، وبعد أن اعترفت دول العالم بالانقلاب، وعلى رأسها مصر التي رحبت بنظام عسكري جديد لم تتضح من ملامحه إلا اعتقاله للقيادات الإسلامية، خرج الترابي على الجميع مبتسمًا ليلعب دور خميني السودان الأسمر. اكتفى الترابي في البداية بإدارة سياسة الدولة من خلف الستار من خلال تلاميذه، ثم قرر الظهور إلى الواجهة بتأسيس «حزب المؤتمر الوطني» ثم رئاسة البرلمان («المجلس الوطني») عام 1996.

استمرّ التحالف بين حسن الترابي الذي كان هو الحاكم الفعلي للسودان حقيقة، وعمر البشير إلى مساء 12 ديسمبر/كانون الأول 1999، حيث خرج البشير ليعلن استكمال انقلابه بالإطاحة بالترابي نفسه وحل المجلس الوطني وإعلان حالة الطوارئ.

استعان البشير في تنفيذ انقلابه هذا على «الأستاذ» بجناحين: الأول عسكري، يتمثل في زملائه الضباط الذين شاركوا معه في انقلاب 1989، وعلى رأسهم بكري حسن صالح، وزير شئون رئاسة الجمهورية، وإبراهيم شمس الدين، وزير الدولة للدفاع. أما الجناح الثاني فتكوّن من تلاميذ الترابي: علي عثمان طه، نائب رئيس الجمهورية، ونافع علي نافع وغازي صلاح الدين الذين كانوا قد شبّوا عن الطوق ورأوا مصلحتهم في التحالف مع البشير لإزاحة أستاذهم ذي القبضة الحديدية.

في كل مرة من هذه الانقلابات، كان الضباط يخرجون على شاشات التلفاز الوطني ليرددوا نفس عبارات البيان المعتاد: «فشل الأحزاب السياسية والحكومات المنتخبة المنبثقة عنها عن تلبية تطلعات الشعب العظيم. إن هذه «الحركة المباركة» ليست إلا انحيازا من القوات المسلحة لرغبة الشعب وآماله.. الوقوف دون تمزق البلاد ومنع انفصال أقاليمها المختلفة».


البشير في السلطة: إنقاذ السودان أم تمزيقه؟

على الرغم من أن الوقوف دون انفصال الجنوب كان من أهم المبررات التي ساقها البشير في انقلابه، إلا أن سياساته هي التي فرشت الطريق الحريري ودقت المسمار الأخير في نعش وحدة السودان. فشلت الحلول العسكرية -التي اعتبرها نظام الخرطوم العسكري الأداة الوحيدة للتعامل مع قضايا التهميش والنزاعت العرقية بالغة القدم والتعقيد- في تحقيق النصر للنظام وإخضاع المتمردين و«سحقهم» رغم خروج البشير كل بضعة أشهر ملوحا بعصاه واعدا جماهير حزبه بأن «الحسم صار على بعد أيام قليلة».

رغم توقيع اتفاقية 2005 مع جون قرنق التي أعطت الحكومة فرصة أخيرة لتدارك انفصال الجنوب قبل الاستفتاء الذي تم إقراره، إلا أن البشير نفسه كان يبدو سعيدًا بالتخلص من الأمر برمته تاركًا الجنوب لينفصل ثم ليتمزق هو ذاته بالحروب القبلية والعرقية. لم يقف سرطان التمزق عند الجنوب، فقد أدت سياسات التهميش والمحاباة إلى انتشار العشرات من حركات التمرد والانفصال بطول البلاد وعرضها من قبائل الشرق إلى دارفور، ومن جبال النوبة إلى كردفان. وبدلا من أن «ينقذ» البشير السودان، حوّله إلى أتون حرب دائمة الاشتعال.

تحول النزاع القبلي التقليدي على الأرض والمرعى في دارفور بين المزارعين (الفور والمساليت) والرعاة (العرب والمتعرّبة) إلى حرب شعواء بفضل تدخل الحكومة المركزية في 2003 ودعمها لميليشيات الجنجويد (معظمها مكوّن من قبائل إفريقية تعرّبت) في مواجهة حركات التمرد مثل «حركة تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة»؛ الأمر الذي حوّل الإقليم إلى صورة كاملة للمأساة مع مئات الآلاف من ضحايا القتل والمجاعة والاغتصاب – بما في ذلك الفتيات القُصّر – وملايين النازحين، منهم ما يربو على المليون بحاجة دائمة للإغاثات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.

على إثر انفصال الجنوب فقدت السودان الجزء الأكبر من مواردها، القادم من النفط، لتسقط الميزانية في هوة عجز سحيقة في ظل خضوعها لدين تجاوز الـ 45 مليار دولار. اضطرت الحكومة في 2013 -سعيا منها لتقليص ذلك العجز- إلى رفع الدعم عن أسعار المحروقات لترتفع أسعار جميع السلع الأساسية ولتصل نسبة التضخم إلى عنان السماء؛ الأمر الذي أشعل موجة غضب واحتجاجات في أرجاء البلاد تصدت لها الحكومة بالطريقة الوحيدة التي تعرفها الأنظمة العسكرية، العنف والقمع.


هل يمكن أن يقود الجنرال البشير الإصلاح؟

حسن الترابي

حسن الترابي

في ديسمبر/كانون الأول 2013، وفي ظل الوضع الاقتصادي المتدهور والاحتجاجات الشعبية المتزايدة ومطالبات المحكمة الجنائية الدولية بتسليمه، قام البشير بإجراء تعديل واسع في الوزارات ومراكز السلطة أطاح فيه بالبقية الباقية من الجناح المدني الذي شاركه في الانقلاب على أستاذهم الترابي. فبجانب غازي صلاح الدين الذي كان قد انشق عن النظام معلنًا انحيازه للاحتجاجات الشعبية وتأسيسه حركة «الإصلاح الآن»، أزاح البشير حليفيه العتيدين علي عثمان طه ونافع علي نافع من منصبيهما لصالح زملائه القدامى من الجناح العسكري الذين يبدو أن البشير ينظر إليهم بصورة أكثر ثقة واطمئنانًا.

مع مطلع العام التالي، أعلن البشير في خطاب حضره قادة المعارضة صادق المهدي وحسن الترابي وغازي صلاح الدين، عن «وثبة وطنية» تتجلى في حوار وطني شامل لتحقيق سلام مجتمعي في السودان «دون عزل أو استثناء لأحد، بما في ذلك المجموعات التي تحمل السلاح». إلا أن هذه الدعوة ذهبت كسابقاتها أدراج الرياح بعدما قام نظام البشير الأمني باعتقال عدد من قيادات المعارضة بمن فيهم الصادق المهدي.

في ظل نظام لا يجد حلا لأزمات السودان المزمنة سوى الحل الأمني والعسكري، ومعارضة ممزقة تقاطع الانتخابات بينما تهاجم بعضها البعض بقدر ما تهاجم النظام، يذهب المواطن السوداني ليشارك في انتخابات يخوضها البشير ونظامه أمام شخصيات وأحزاب كرتونية تحدثه عن الأمل الزاهر الذي ينتظره.