في العام 1983م، اجتمع الرئيس العراقي «صدام حسين» بالباحثة الأمريكية كريستين هيلمز، كان الرجل قد نجح في الإطاحة بالرئيس الأسبق لعراق أحمد البكر قبل هذا الاجتماع بـ3 سنوات أصبح فيها حاكمًا مطلقًا لبلاد الرافدين وحزب البعث بالحديد والنار، فجّر واحدة من أطول حروب المنطقة مع الجارة الفارسية إيران بسبب الخلاف على مياه نهر «شط العرب»، فكان التوجه المبكر إليه اختيارًا مثاليًا لمعرفة حقيقة ما يدور في عقل خليفة بغداد.


أجرت كريستين معه حوارًا

مطولاً في شتّى مواضيع السياسة والاقتصاد والوضع الداخلي العراقي وغيرها، وفجأة باغتته بقولها:

هناك عالم اجتماع عراقي اسمه «علي الوردي» يقول إن الشخصية العراقية لا تعطي ولاءها للحاكم بسهولة، وإن أعطت الولاء فيجب على الحاكم أن يعي أن الشخصية مزدوجة، فقد تكون الظروف الحالية هي ما أوجب عليهم إعطاء الولاء للحاكم وهو ليس ولاءً حقيقيًّا.

تكهربت الأجواء فجأة، وبدأ الشرر يلعب في عيني صدام وداعب طرف شاربه بأنامه، وتخيَّل مرافقوه أنه سيأمر فورًا بقتل كريستين، أو على الأقل بإرساله فرقة إعدام للوردي، لكنه لم يفعل أيٍّا من ذلك، وبدلاً من ذلك أخبرها الرجل بمخالفته لرأي الوردي، وأنه يعتقد تمامًا أن هذا الرأي خاطئ، وربما كانت أول مرة يُخالف فيها صدام أحدًا دون أن يقتله!

في هذه الأجواء كان عالم الاجتماع الشهير علي محسن الوردي قد بلغ من الكبر عتيًّا وتجاوز 70 عامًا، دون أن يمنعه هذا من استمرار اسمه في التردد على ألسنة كل غربي يسعى لفهم الشخصية العراقية كما يجب، وهو ما أكده سابقًا مسؤول أمني رفيع في عهد الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف، حين أخبر الوردي أن أي سفير بريطاني أو أمريكي يُعيَّن في العراق يُلزم بقراءة الترجمة الإنجليزية لكتبه عن طبيعة المجتمع العراقي قبل أن يبدأ في عمله.

فالرجل الذي نالت عائلته لقب «آل الورد»، بسبب امتهان الأجداد لمهنة تقطير الورد، تمرّد قليلاً على عملهم وإن لم يبتعد عنهم كثيرًا فبرع أيما براعة في «تقطير البشر» واستخراج عصارتهم وكتابتها صادقة صارمة على الورق، فبات أحد أساطير/ أساطين علم الاجتماع في العراق حتى الآن.

عندما حملت الباحثة الأمريكية تعليق الرئيس صدام على رأي الوردي، منحها الأخير إجابة فرار دبلوماسية قال فيها:

العراق الآن في حالة حرب، والقصد مختلف، فالرئيس ينظر إلى الأمر من وجهة نظر القائد السياسي، بينما هو (الوردي يقصد نفسه) فينظر إلى الأمر من وجهة نظر علمية محضة.

مع صدام

صدام حسين هو نموذج لشخصية «النهّاب الوهّاب»، وهي أحد أنماط الشخصية العراقية التي تحدث عنها الدكتور علي الوردي، وهي شخصية تختلط فيها سمات البداوة والفوضى والبربرية والقسوة مع سمات المغامرة والمقامرة والإسراف والسخاء.





الكاتب المصري سعد الدين إبراهيم، «الخروج من زقاق التاريخ»

سُجن لمرة وحيدة في عهد العراق الملكي، وأعلن ذات مرة أن الشعب لن يسكت عنهم «حتى يراهم ممرغين في التراب»، وهي المقولة التي بدت كالنبوءة عقب وقوع انقلاب 1958م العسكري بقيادة عبد الكريم قاسم.

ومن داخل قوقعته العلمية تابع أتون الانقلابات الذي تمزق داخله العراق من بعدها، أطيح بعبد الكريم قاسم وأتى عبد السلام عارف بدلاً منه، مات عبد السلام في حادث طائرة غامض وتولّى أخوه عبد الرحمن السُلطة من بعده، والذي سرعان ما أطاح به البكر ونائبه صدام حسين في انقلاب 1968م الذي أعاد البعثيين للسُلطة، ولم يأتِ العام 1979م إلا وانقلب النائب صدام على رئيسه البكر وتولّى الحُكم بدلاً منه.

وخلال هذه
الانقلابات المتتالية سالت الدماء أنهارًا ومُلئت السجون من كل صنفٍ سياسي، ما دفع
الوردي للتعبير عن دمه عن رغبته في زوال الحكم الملكي وتمنى لو استمر للأبد.

وفي المقابل، كان العراق على موعدٍ مع رئيسها الجديد صدام حسين الذي

بدأ

جمهوريته الجديدة بفيديو شهير أطلَّ فيه على كافة أعضاء حزبه، وبمنتهى الهدوء أخرج من جيبه قائمة قرأ منها أسماء 68 شخصًا من الحضور اتهمهم بالتآمر عليه ثم طالبهم بالخروج من القاعة حيثت استقبلهم رجال الأمن، عرّضوهم لمحاكمة عاجلة قضت بإعدام نحو ثلثهم، لترسم دماؤهم طبيعة الحقبة الصدامية التي ستعيشها العراق منذ هذه اللحظات وحتى عشرات السنين التالية، فكيف يُمكن أن يستقيم العيش لعالم اجتماع شهير أساس عمله هو تفكيك المجتمع وتحليل أخطائه في مثل هذه الأجواء؟

قياسًا بالأهوال التي لاقاها معارضو صدام حسين في سجونه السرية أو حتى في شوارع بغداد، يُمكننا اعتبار أن قرارات تضييق كالمنع من السفر أو حجب بعض الكتب عن الطباعة مجرد «قرصات أذن» لا يُمكن اعتبارها عقابًا أبدًا.

شاء القدر أن
يكون في أرذل العمر حين جاء إلى السُلطة وإلا لماتت تجربته قبل أن تُولد، وكما يقول الباحث العراقي وليد نويهض، أنه
من حسن حظ الوردي، أنه أنجز معظم نظرياته الاجتماعية وكتاباته التاريخية والسياسية
قبل صعود نظام صدام حسين إلى السلطة وإلا كان سيطحن عظامه بجنازير الدبابات.

كما شاء حظ أن يُودع الله
محبّته واحترامه في قلب صدام حسين، فكان يحرص على قراءة كتبه، حتى أنه لما نفدت كتبه من المكتبات وعجز عن
العثور على بعض النسخ أرسل مندوبًا إلى منزله يطلب منه بعضًا منها، واستغلَّ هذه
الفرصة وطلب منه التوسط عند صدام للسماح له بالسفر إلى بولندا، ووقتها كان سفر أي
مواطن إلى الخارج لا يتم إلا بتصريح رسمي من السُلطات.

يقول عالم النفسي العراقي الدكتور قاسم حسين: الحاكم العراقي لا يحب علماء النفس والاجتماع إلا أولئك الذين يقولون له ما يحب أن يسمعه، والوردي كان يقول الحقيقة، وطبيعي أن لا تكون هنالك علاقة مودة بينه وصدام حسين، لذا فقد تم إبلاغه أن «السيد الرئيس غير مرتاح لما يكتبه». وهو ما يمكننا فهم أسبابه في أن اسمه علي حسين الوردي وكظماوي وصاحب كتاب «وعاظ السلاطين»، ولم يكتب ما يمجّد صدام كما فعل أكاديميون كثر».

وإن علمنا أن الوردي ينتمي إلى أصول شيعية، فإننا يمكن استيعاب منطق أن ظاهرته يجب ألا تمتدّ أكثر مما ينبغي في العراق الذي يحكمه السُنة، ويسمحون لرفاقهم الشيعة في مشاركتهم السُلطة لكن في نطاقٍ محدود لا يحولهم إلى نجومٍ يجعلهم يتطلعون يومًا إلى الحكم بمساعدة الجارة الشيعية صعبة المراس إيران.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الوردي مثّل نسقًا معرفيًا خارجًا عن المساقات الحكومية التي دجَّنت فيها كل مثقفي وصحفيي الدولة العراقية وهيمنت على أقلامهم وعقولهم، وهو أمر لم يمكن السماح به في هذه الأوقات.

وبالرغم من هذا التفهُّم الصدامي لمكانة الوردي إلا أن أمير بغداد لم يكن يرتاح كثيرًا إلى أطروحاته حول «البداوة والحضارة»، والتي يرى فيها أن فهم طبيعة المجتمعات العربية يجب أن ترتكز من فهم دقيق لحياة البدو التي تركت آثارها في طبيعتنا جميعًا كعرب نرتكز على ثقافات العصبيات القَبَلية والغزو، ربما لأن فترة حكم صدام، تحديدًا، كانت أكثر الأدلة الكونية على مدة صحة ما ذهب إليه الوردي.

إنه يتطاول على الرشيد

الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر. باستثناء لبنان. وليس هناك طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!





علي الوردي، كتاب «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»

لم توثق لنا المرويات التاريخية إلا لقاءً واحدًا جمع بين الرجلين خلال حفلة تكريم بعض الأساتذة في «ثانوية الكرخ المركزية»، وكان الوردي أحد هؤلاء الأساتذة، فالتقاه صدام وجهًا لوجه وقلّده شارة التكريم صامتًا وبعدها قلّد الأستاذ الواقف جواره، فأولاه عناية أكبر وأشاد به أمامهم قائلاً: «يا جماعة إن هذا هو الأستاذ الذي درّسني»، هنا اختلب الوردي فرصة للتدخل في الحوار، فقال: «إني أنا الذي درّست هذا الأستاذ الذي درّسك»، فابتسم صدام ولوّح له بيديه رافضًا وهو يقول ساخرًا: «إن هذا لن ينفعك أبدًا».

حاول صدام الاستفادة من مكانة الرجل،
وتقديم نفسه كراعٍ للمثقفين، فبعث له عرضًا بطباعة كُل كتبه على نفقته بشرط أن
يُوضع اسم صدام بجوار الوردي باعتباره راعيًا له، لكن الأخير رفض.

أتى الرد سريعًا، إن لم تكن معنا فأنت ضدنا، يحكي الوردي أنه بعدما انتهى من كتابة الجزء السابع من موسوعته الخالدة «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق»، وبطبيعة حال النشر المحلي في هذه الأوقات قدَّم المسوَّدة إلى وزارة الثقافة، ففوجئ باعتراضها على الكتاب وطالبت بحذف كثيرٍ من نصوصه وتنفيذ تعديلات جذرية على طريقة البحث وهو ما رفضه بطبيعة الحال وأصرَّ على نشر الكتاب كما هو، هنا تلقّى حلاّ وحيدًا للخروج من هذه الأزمة، وهو تلبية استدعاء للمثول أمام أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي حكم العراق منذ ثورة 1968م التي أعادت حزب البعث بقيادة أحمد البكر وصدام حسين إلى الحُكم.

رفض الوردي هذا الاستدعاء فورًا، بدعوى «أنه لم يسبق له أن قابل أي مسؤول عراقي كبير لا في العهد الملكي ولا الجمهوري لأن موقفه من السلاطين معروف».

وهذه المرة أيضًا أتاه الرد سريعًا، ليس بمنع الجزء السابع من كتاب «اللمحات»، وإنما بمنع كتبه كلها من التواجد بأي مكتبة داخل العراق.

سحبت جامعة بغداد من الوردي لقب «أستاذ متمرّس»، ومنعت كتبه من التداول في الأسواق بيعًا أو شراء، بل إنه صدرت الأوامر لقسم الاجتماع في كلية الآداب بإزالة المنضدة التي كان يجلس عليها خلال التدريس، وكأنهم يريدون محو اسمه من التاريخ.

ولما ذهب إلى العزاء في وفاة أحد مسؤولي الدولة، وجلس في قاعة «كبار الزوار» مع رموز الحُكم وقادته، ساد الصمت فور دخوله ولم ينقطعوا عن النظر إليه شذرًا حتى غادر القاعة، وخارجها عرف من شرطي تنظيم العزاء سُئل عن سبب سماحه له بالدخول.

بعد الحرب العراقية الإيرانية، ترأس صدام اجتماعًا لمجلس قيادة الثورة لمناقشة عددٍ من الشواغل الاجتماعية والسياسية، وفجأة تحمّس أحد الحاضرين وحرّض على الوردي بقوله إن «أبو علم الاجتماع العراقي» يتّهم الخليفة هارون الرشيد بعشقه المفرط للنساء، حتى أنه كان يمتلك ما يزيد عن ألفي جارية.

لعب هذا العضو الثوري المتحمس على وترٍ
لا يفشل، وهو غرام صدام حسين المعروف بشخصية هارون الرشيد، إلى حد دفعه الصحفيين
الموالين لتشبييه به في سياق سعيه في زمرة حكام العراق العظام مثل نبوخذ نصر
الثاني وحمورابي وغيرهم.

وعندما رغب صدام في استغلال كرة القدم العراقية لتعظيم شعبيته، أمر بتأسيس نادٍ حُمل إليه كافة نجوم العراق عنوة وأسند الإشراف عليه إلى وليده عُدي، وحمل اسم «

نادي الرشيد

».

بل وربما، كان يُمكن للهواجس الأمنية
التقليدية في ذلك الزمن لعبت دورها في استنطاق ما وراء السطور، وأقنعوا صدام أن
الوردي يقصده هو وليس هارون، لولا ما عُرف عن صدام عدم شغفه الكبير بالنساء
وتفضيله قتل معارضه متعةً بديلة عن ذلك.

بالرغم من هذه المكانة الرشيدية في نفس
صدام حسين، فإنه لم يستجب للتحريض على الوردي، ولم يأمر بسجنه كما اعتاد أن يفعل
مع آخرين في تُهم أقل بأسًا.

وعندما بلغت هذه القصة الوردي أيقن أنه «ليس في كل مرة تسلم الجرة»، فقلّل من أحاديثه في مجالسه الأدبية إلى أدنى حدٍّ ممكن خوفًا من آذان أجهزة الأمن العراقية التي أحصت على الناس أنفاسهم، وهو ما جعله يؤثر الحذر في الكلام حتى مع خاصة أصدقائه سلام الشماع، الذي روى أن الوردي أخبره أن كثيرين حذّروه من الحديث معه (أي سلام) بدعوى أنه جاسوس للأمن!

وفي أجواء القتال الساخنة مع إيان، اتهّمه أحدهم يومًا أن أصوله فارسية، وهي تهمة كانت كفيلة بملاحقته وإعدامه إن ثبتت، لكنه ردَّ على ذلك بأنه من «عائلة حجازية عربية»، وعندما استخفَّ به أحد الضباط يومًا مدعيًا أن أصله فارسي أجابه: «والله نحن من الحجاز، ولكن تورطنا وجئنا إلى العراق»!

ويروي الوردي نفسه، أنه لطالما سمع الناس
تستعجب من حكومة البعث التي طحنت الجميع من القوميين إلى الإسلاميين وحتى الإسلاميين
والبهائيين، لكن الوردي بقي ولم يجدوا له تهمة، فتطوع فريق آخر بالإجابة على ذلك التساؤل
بقولهم: هو أخطر منهم كلهم، لذلك لم يمسكوه إلى اليوم.

لم لا نكسر الجرة قبل أن نموت؟

سري للغاية

يُرجى توجيه الدكتور علي حسين محسن الوردي إلى ضرورة الحذر في إلقاء محاضراته، وتجنب ذكر ما يمكن أن يستفيد منه الآخرون، ويُشكل تهديدًا لأمننا الداخلي.





إحدى وثائق الأمن العام العراقي بتاريخ 30/4/1979؛ محمد عيسى الخاقاني: «مئة عام مع الوردي»

في العام 1991م، كان الاشتباك ما
قبل الأخير بين الوردي وصدام، بعدما ألقى محاضرة في قلب العاصمة بغداد، وأمام
جمهورٍ غفير لم يملأ القاعة وحدها وإنما غصّت الشوارع بالعراقيين المفوجعين من
هزيمتهم المدوية في حرب الخليج الثانية، وللمفارقة أن صدام حسين كان أحد مستمعي
هذه المحاضرة، ليس بواسطة مخبريه الأمنيين لكن بواسطة جهاز تسجيل ثبّته خالد عبد
المنعم رشيد الجنابي أمين بغداد، فوق المنصة

فتح فيها النار على النظام الحاكم، وانتقد فيه تجربة إقامة شرطة أخلاق في بغداد تمنع النساء من ارتداء الثياب القصيرة، وهي واحدة من إرهاصات تأثر صدام حسين بنصيحة خاله خير الله طلفاح بأن يعتمد على التجربة السعودية في الحكم القائمة على العشائرية بدلاً من الإيمان الحزبي، وكانت أولى نتائجها شرطة أمنية شبيهة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان آخرها اعتماده المطلق على أقاربه وعشيرته في تولي المناصب الأمنية والحزبية ورغبته قبل وفاته في توريث الحكم لولده قصي، وهو ما دفع الوردي للتمييز بينه وبين البكر، في أن حقبة البكر هي «حُكم القبيلة (حزب البعث)»، بينما حقبة صدام حسين هي «حكم القرية (عشرة صدام)».

واعتبر الوردي، في مجالسه الخاصة، أن حكم صدام حسين «فترة عصيبة»، خاصة بعد أن أنهى دور القبيلة في الحكم وقلص العراق إلى القرية، بعدما جمع أهله وأقاربه ومن ينتسب له من قرية العوجة وسلمهم مقاليد الحكم في العراق.

أما في محاضرته النارية، فلقد قال
فيها الوردي: نحن لسنا فئران تجارب لتدخلونا كل يوم في تجربة جديدة، فما معنى أن
تستحدثوا مثلاً شرطة أخلاق، بالله عليكم هل لدى الشرطة أخلاق أصلاً؟ فإذا كنتم قد
ضللتم الطريق فتعالوا إلينا لندلكم على الطريق الصحيح لحكم الشعب.

وأضاف الوردي مقطعًا بذيئًا قال فيه: لا تليق بهذا الشعب الـ(…) إلاّ مثل هذه الحكومة الـ(…)، ولم يكتفِ بذلك وإنما استشهد بالمثل العراقي الشهير «تلوك هيجي رقعة على هيج بابوج»، والذي يعني «يليق هذا الرتق بهذا الحذاء»، مشبهًا العراق بالحذاء والحكومة بالرتق الملائم له.

لم يعلم أحد أن الوردي استخدم المثل ذاته أمام تلميذه محمد الخاقاني، وهما يتابعان في التليفزيون الرسمي وفود التأييد التي تكالبت على قصر صدام حسين عقب هزيمته المفزعة في حرب الخليج الأولى.

منح حضور المحاضرة هذه الخطبة اسم «قنبلة الوردي الانتحارية»، وخرجوا متيقنين أن الرجل لن يبيت اليوم في منزله، بل وربما يُصلب على بوابة أحد قصور صدام الرئاسية عبرةً لم يُعتبر، لكن في النهاية لم يُمس الرجل وبقي في منزله يتلقى راتبه الشهري الذي خصصته الدولة لدعم المثقفين، كما لم تتوقف مقالاته التي كان ينشرها في جريدة «الجمهورية» المملوكة للدولة، ولم يعانِ إلا من سكرات سرطان المرارة الذي لم يتوقف عن نهش جسده، وربما كان هو مَن منحه دافع التلفظ بـ«الكلمات الانتحارية» قبل أن يقابل ربه.

يصل المرض في جسد الوردي إلى مراحله
الأخيرة، ولا تقدم له المستشفيات العراقية الرعاية اللازمة، وهنا تختلف المرويات
بين أن هذا الإهمال كان مقصودًا بسبب عدم رضى صدام عليه أو أن القطاع الطبي
العراقي كله كان يعيش في أزمة كبرى بسبب قرارات الحصار الاقتصادي المفروضة عليه.

في النهاية، سافر الرجل إلى الأردن حيث تكفّل الملك حسين بعلاجه في إحدى مستشفيات عمّان، وهي الخطوة التي تأخرت أكثر مما ينبغي، فلم يستطع الأطباء الأردنيون اللحاق به، ولفظ في الأردن أنفاسه الأخيرة.

في 13 يوليو/تموز من العام 1995، أُريد أن يكون العراق له مخزيًا، بعدما خشي الكثيرون أن يخرجوا في جنازته خوفًا من أن يكون ضمن «المغضوب عليهم»، فصحب جثمانه موكب هزيل لم يشارك فيه زملاؤه ولا قراؤه ولا روّاد مجالسه الأدبية ولا أي مسؤول حكومي رفيع المستوى، فقط حفنة من الأهل والمقرّبين.

لم يدم هذا الصمت طويلاً، فسرعان ما اجتذب هؤلاء المقربون الآلاف من أهالي الكاظمية الذين ودّعوا الرجل في صمتٍ أربك رجال الأمن، من هذه المظاهرة الحاشدة التي لم تكتفِ بعدم الحصول على ترخيص، وإنما أخذ أفرادها يرددون عبارات تندد بالسُلطة، وكأنها آخر رسالة معارضة قرّر الوردي أن يبعثها إلى صدام من قبره، مطمئنًا أن جلادي «خليفة بغداد» لن يستطيعون أن يلاحقوه هذه المرة.