إن تركيا فقدت الثقة بالولايات المتحدة بسبب أخطاء الأخيرة في ملفي التنظيم الموازي وتنظيم وحدات حماية الشعب الكردية السورية. العلاقات الثنائية وصلت إلى نقطة حرجة جدًا ولا نحتاج منهم المزيد من الوعود، نحتاج خطوات جادة وفعلية على الأرض، هذه العلاقات إما أن تعود إلى سابق عهدها أو ستصل إلى القطيعة تمامًا.





وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو

تبدو تركيا اليوم دولةً فتيّة، وقد تبلورت مصالحها الوطنية في عدد من القضايا. فتحت تركيا نافذةً على الجنوب بعدما أغلق الشمال الباب في وجهها، فعمّقت علاقاتها العربية والأفريقية. وبعد أن سُحبت منها الباتريوت الأمريكية طلبت من روسيا الـS-400. وفوق ذلك عمدت إلى دعم الصناعات العسكرية الوطنية. تمايزت المصالح التركية والأمريكية في سوريا، فأنفذت تركيا وعيدها بحرب الأكراد، حلفاء أمريكا.

هذه الخطوات رسمت تركيا من خلالها طريقًا إلى الاستقلال السياسي. تركيا الدولة في حلف الناتو لها مصالحها التي يجب على الحلفاء أن يُراعوها، وأن يصطفوا لأجلها. هذا ما تريد تركيا قوله، بلغة الفعل بعد سنوات من الكلام.

منذ أن أضحت تركيا جزءًا من حلف الناتو عام 1952، وهي في علاقة تحالف استراتيجي مع الغرب. كانت ثاني أكبر جيوش الحلف. وتم الاعتماد عليها لمواجهة الخطر السوفيتي أثناء الحرب الباردة، ومع ذلك ظلت تشعر بأنها في المرتبة الأقل، نظرًا لرفض الاتحاد الأوروبي عضويتها في النادي الأوروبي. لم تخلُ تلك الفترة من خلافات في وجهات النظر، وصلت في إحدى المرات إلى حد أن هددت أمريكا الحكومة التركية بمنع توريد السلاح إليها على خليفة غزوها لقبرص عام 1974.

اقرأ أيضًا:

الخلافات بين تركيا وقبرص تعود للواجهة: إليك أصل المسألة


وفي حين كان الزعماء الأتراك

السابقون يتبنون شعار مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك المنادي بـ«التقرب من الغرب»، تؤمن نخبة حزب العدالة والتنمية بأنّ على تركيا أن تصبح قوة مستقلة في الشرق الأوسط لا تتعاون مع واشنطن إلا عندما يخدم هذا التعاون مصالحها. بدأ مشوار الاستقلال التركي بفض التبعية العسكرية. هذا ما نحاول رصده خلال التقرير بعد أن صار الحديث عن صفقة الصواريخ الـS-400 مثار جدلٍ كبير في الأوساط الدولية.


الاكتفاء الذاتي من التسليح العسكري

الطائرة المقاتلة التركية الصنع «أتاك»

إذا أردت أن يكون لك كلمة مسموعة فعليك أولًا تأمين احتياجاتك العسكرية. عقيدة راسخة لدى الإمبراطوريات والدول الكبرى. وكيف يكون لك كلمة مسموعة إذا لم تكن قوتك بيدك!

استطاعت تركيا تحقيق طفرة تكنولوجية في صناعتها العسكرية.

أكد بن على يلدريم

رئيس الوزراء التركي، أن حكومة العدالة والتنمية استطاعت تعزيز دفاعاتها الوطنية بصناعات تكنولوجية متطورة محلية الصنع، من طائرات الهليكوبتر، والسفن الحربية، والدبابات، وأنظمة الدفاع، والأقمار الصناعية، والطائرات دون طيّار. بلغت استثمارات الحكومة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية ما يقرب من 35 مليار دولار؛ إذ أضحت تغطي نسبة 65 % من احتياجاتها العسكرية، بعد أن كانت النسبة لا تتجاوز 24% قبل عام 2002.

ويسعى النظام التركي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من التسليح بحلول عام 2023. هذه الرغبة الجامحة يقودها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، المؤمن بأن أهم مراحل التحرر من التبعية والضغوط الخارجية إنهاء حاجة الجيش التركي لاستيراد احتياجاته من الخارج، لذا يقدم دعمًا واسعًا لوزارة الدفاع التركية وشركات صناعة الأسلحة الخاصة لتحقيق هذه الغاية.


تعددت الشركات التركية

المهتمة بالصناعات العسكرية، وفي مقدمتها شركة «قلعة» التي تسعى على لسان نائبها إلى أن تكون أكبر الشركات المتخصصة في صناعة الطائرات المحلية، بعدما أضحت تركيا من الدول القليلة التى تصنع محركات الطائرات.

كما أن شركة «توساش» للصناعات الجوية والفضائية قد تمكنت من تدعيم الجيش التركي بالطائرة «

أتاك

» وتتمتع المروحية بقدرتها العالية على المناورة بـ 360 درجة، وبإمكانها الدوران حول نفسها، إلى جانب إمكانية قيامها بالطيران الجانبي وتمتلك منظومة تحكم بالأسلحة، مصنوعة بقدرات محلية. إضافة إلى احتوائها على صاروخ مضاد للدروع، كما تستطيع «أتاك» حمل صواريخ مضادة للدبابات، فضلًا عن منظومة صواريخ جو ـ جو موجهة وغير موجهة.

وتحقق «أتاك» إصابة الهدف بشكل دقيق ومن مسافات بعيدة باستخدامها منظومة الرؤية الحرارية، ونظام الرؤية الليلية من الجيل الجديد. كما توفر المروحية لقائدها خوذة تمتلك نظام الرؤية الحرارية ونظام تسديد، وتستطيع إصابة المروحية المعادية دون رؤيتها من قبل الطيار بالعين المجردة، ومزوده بآلة تصوير مثبتة في مقدمة رأس المروحية، تسجل الطلعات الجوية.

حولت تركيا أزمتها مع إسرائيل إلى فرصة لتعويض النقص من الطائرات دون طيار التي كانت تحصل عليها من تل أبيب، حتى أصبحت من الدول الست المصنعة للطائرات دون طيار.

في عام 2015،

وقعت وكالة المشتريات الدفاعية التركية عقدًا

مع شركة «سدف» التركية لبناء السفن من أجل بناء أول حاملة طائرات تركية. تزن الحاملة 27.436 طنًا، ويبلغ طولها 231 مترًا، وتتمكن من حمل ألف و200 شخص بالإضافة إلى الدبابات والمروحيات والطائرات دون طيار والطائرات الحربية ذات القدرة على الهبوط والإقلاع العمودي. وفي حال تزويد الحاملة بمنصة إنزال انزلاقية منحدرة يمكن في هذه الحالة استعمالها من قبل بعض الطائرات ذات القدرة على الهبوط والإقلاع الأفقي. كما ستتضمن الحاملة مستشفى كامل الأهلية. وقد شهدت الأسواق العسكرية التركية رواجًا كبيرًا في التصدير بفضل تركيز ودعم النظام السياسي لتحقيق استقلال كامل في تسليح قواتها الخشنة.


القِبلة إلى الشرق قليلًا!

أتاك، تركيا

أتاك، تركيا

لم تبالِ واشنطن كثيرًا بالفوضى التي تعم دول الجوار التركي. كما أنها لم تراع احتياجاتها العسكرية بحجة الحفاظ على التفوق النوعي لإسرائيل. تعرضت واشنطن للصدمة عندما أعلنت موسكو وأنقرة عن مفاوضاتهما لأول مرة لحصول الأخيرة على صفقة منظومة الصواريخ

إس 400.

بدأت القصة عام 2013، عندما قررت نخبة حزب العدالة والتنمية شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعدةً بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة حلف شمال الأطلسي، وهو

ما انتقده الأخير

وأعرب عن رفضه وجود منظومتين مختلفتين على أرض تركيا. إلا أن فشل هذه الصفقة لم يضعف همة الإدارة التركية، فقررت شراء المنظومة الأقوى عالميًا في الدفاع الجوي من روسيا؛ منظومة الصواريخ الحديثة المضادة للجو إس 400. لاسيما أن تركيا تعاني من غياب وضعف منظومة الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، وتحديدًا بعد قيام الناتو بسحب منظومة الباتريوت منها عام 2015.

اقرأ أيضًا:

انقلاب على الناتو: المنظومة الروسية S-400 في تركيا


وتعتبر منظومة إس 400

الأكثرَ تطورًا في العالم، وهي قادرة على التصدي لجميع أنواع الطائرات الحربية، بما فيها طائرة الشبح الشهيرة. تتصف المنظومة خلافًا لسابقتها «إس 300 بي إم» بقدرتها على تدمير كافة أنواع الأهداف الجوية، بما في ذلك الصواريخ المجنحة التي تحلق بمحاذاة سطح الأرض، والطائرات صغيرة الحجم من دون طيار وحتى الرءوس المدمرة للصواريخ الباليستية التي تصل سرعتها إلى 5000 متر في الثانية. وليس بمقدور أي منظومة أخرى متابعة مثل هذا المسار.

ويمكن أن تزود منظومة إس 400 بـ 5 أنواع من الصواريخ مختلفة المهام والأغراض. وجاء صاروخ «40Н6Е» نموذجًا أخيرًا استكملت به تشكيلة المنظومة. ويستخدم هذا الصاروخ لتدمير أهداف مهمة ومعقدة، بينها طائرات الكشف الراداري البعيد وطائرات الشبح، وذلك عن بعد 400 كيلومتر.

من جانبه، حاول حلف شمال الأطلسي التأكيد على فشل الصفقة، ووجود شكوك عديدة حول تنفيذها، إلا أن التأكيدات التركية الروسية، تشير إلى أن الدفعة الأولى من الصفقة قد تمت، كما أن المشاورات التي تدور خاصة برغبة تركيا في المشاركة في الإنتاج لنقل التكنولوجيا إلى أراضيها.

اقرأ أيضًا:

الأسلحة الروسية الجديدة: بين أحلام بوتين وواقع تركيا

حققت صفقة منظومة الصواريخ مجموعة مهمة من الأهداف السياسية والعسكرية لصالح تركيا وروسيا. تواصل موسكو الضغط على المحور الغربي، بانتزاع أهم عنصر في حلف الناتو، كما أن تركيا أخذت تهدد وتضغط بقوة على الاتحاد الأوروبي بورقة روسيا، رغم الاختلافات الكبيرة بينهما. ستتمكن تركيا من الضغط على واشنطن وأوروبا حتى تتسلم صفقة الصواريخ عام 2019، أو ترضخ هذه الدول لاحتياجات الجيش التركي من مضادات الجو المتطورة. علاوة على إجبار أمريكا على التخلي عن دعمها للأكراد في سوريا والعودة مجددًا إلى حليفها التقليدي في ظل دخول العالم مرحلة تعددية قطبية ستتضاعف معها أهمية أنقرة.

تعيش تركيا في هذه المرحلة لحظاتٍ مترددة. تبدو واثقةً في الداخل لكنها لم تحسم انحيازاتها الخارجية بعد. لا تزال مرتبطة بالولايات المتحدة وأوروبا، بينما تعقد تفاهمات على درجة عالية مع موسكو. تخلق لنفسها حيزًا خاصًا، تُعلي من قيمة مصالحها الاستراتيجية وتضع قواعد لتحالفاتها. وعلى كلا المعسكرين الاختيار إن كان بإمكانهما تفهّم مصالح الأتراك أم لا، وفي عالم متعدد الأقطاب آخذٌ في التشكل تتبدى أهمية تركيا أكثر وأكثر.