اتهمت لجنة الحقيقة والكرامة «الباجي قايد السبسي» بانتهاك حقوق الإنسان، والمسئولية عن جرائم إبان توليه لوزارة الداخلية في عهد بورقيبة 1965 وحتى عام 1969. طالبت اللجنة السبسي بالاعتذار العلني عن تلك الجرائم في التقرير الختامي الصادر عن اللجنة الناشئة عام 2013، في عهد المنصف المرزوقي.

حتى صدور التقرير في مارس/ آذار 2019

سُجلت 62 ألف

حالة انتهاك. أحيل منها إلى القضاء فقط 170 حالة، لكن السبسي كان قد استبق تحركات اللجنة بقانون المصالحة الوطنية 49/2015، الذي جرى إقراره في البرلمان سبتمبر/ أيلول 2017، ليعطي فرصًا للموظفين الذي ارتكبوا جرائم أو قضايا فساد بالتصالح مع الدولة، والإفلات من العقوبة.

مع وفاة السبسي وإجراء الانتخابات، المقرر لها سلفًا أن تقام هذا العام، عاد مرة أخرى إلى الواجهة الاستقطاب الهوياتي والسياسي، في شبه غياب للبرامج الاقتصادية للمترشحين. كل ذلك يلقي بظلاله على مشكلات التحولات التي تمر بها الدولة التونسية، ومن أهم تلك المشكلات أزمة الديمقراطية في تونس والعالم العربي بشكل عام، وغياب الخيال السياسي عن القوى والنخب السياسية.

غياهب الهوية

أُقر دستور 2014، بعد حالة من الاحتقان الهوياتي في تونس، خلصت إلى قبول حركة النهضة تأجيل سؤال الهوية، والالتفات حول الدولة ومؤسساتها، وفعَّلت في سبيل ذلك فصل العمل السياسي عن الدعوي، وأصبحت المادة التي تتحدث عن مدنية الدولة مادة جامعة لعموم التيارات السياسية.

مع منتصف 2017 تصاعدت مشكلة حركة نداء تونس الداخلية، التي أدت لانشقاق داخل الكتلة الحزبية في البرلمان، وفي منتصف 2018 تصادم رأسي النظام التنفيذيين بالدولة، السبسي الرئيس ويوسف الشاهد رئيس الوزراء، الذي بحسب الدستور لا يمكن إقالته من منصبه إلا من خلال البرلمان الذي عينه.

أصبح الشاهد في هذه اللحظة خيارًا لحركة النهضة، في محاولة منها لتقويض مساعي السبسي في توسعة صلاحياته، والاستئثار بالحكم والتحكم في المجال السياسي.

تحالف ضمنيًا رجال حرس بورقيبة القديم مع التيار المدني، وعبر لجنة الحريات الفردية والمساواة التي أُقرت حديثًا في دستور 2014، أصدرت اللجنة تقريرًا وتوصيات للمساواة في الإرث، وإلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء تجريم الشذوذ الجنسي،

أثار القانون

الذي أُقر العام الماضي موجة من المظاهرات مستقطبًا المجتمع.

أعادت تلك التوصيات المشهد الهوياتي مرة أخرى، واستقطاب المجتمع بين عدة تيارات، المحافظ الإسلامي والآخر العلماني، كانت استراتيجية السبسي تلك ذات أكثر من مغزى:

  1. ملء الفراغ الهوياتي للدولة وحشد جهودها في تحقيقه.
  2. استبدال التحالف مع القوى الإسلامية بآخر مع القوى المدنية، وقد سبق إعلان التوصيات، إلغاء اتفاقية قرطاج الثانية المبرمة مع حركة النهضة.
  3. استخدامها في الاستحقاق الانتخابي 2019.
  4. التغطية على مشكلة الانقسام الحزبي الذي تعاني منه كتلة نداء تونس، معطية شكلًا لتماسك النظام من خلال صراع الهوية الذي يجيده.
  5. استخدم السبسي تلك القضية المدعومة مدنيًا، في مواجهة دستور 2014، الذي أحدث شكلًا من التوزن حال دون توسعة صلاحياته، حيث يشير الدستور بمدنية الدولة مع احترام التعاليم الإسلامية.

وخلال تلك الفترة أثبتت الوقائع أن المجتمع السياسي التونسي الذي سجل سابقة في تجاوزه لسؤال الهوية عام 2014، هو نفسه أسير التصورات الهوياتية، وعندما فقدت القوى السياسية القدرة على حسم المعارك السياسية ذهبت مباشرة لاستدعاء المشكلة الهوياتية، كون تلك القوى أصبحت لا تجيد إلا هذا النوع من الحروب السياسية، وهي كذلك مصممة بشكل لا يسمح لها بالعمل خارج إطارها كثيرًا.

في تلك الأثناء كانت النهضة تتحدث عن الدفع بالغنوشي في الانتخابات المقبلة، حيث استمرار الحالة التوافقية مع السبسي أصبح أمرًا مستحيلًا.

أثبتت التجربة السياسية الأولى بعد دستور 2014، أن المكونات الأولية التي تميز الحياة السياسية العربية لم تغب عن المشهد التونسي، فأحد المشكلات داخل نداء تونس تتعلق بحافظ السبسي، النظام العائلي أعاد للأذهان مرة أخرى مشكلات الفساد في الأنظمة العربية، واضمحلال مؤسسة الدولة في مواجهة المؤسسات الأولية كالعائلة والقبيلة … إلخ.

نحن نحتاج إلى حكومة تكنوقراط، تعتزل العمل السياسي، ويتمتع أصحابها بروح من إنكار الذات، ويعملون من أجل تونس.





«حمادي الجبالي» رئيس الوزراء الأسبق

يشير حمادي الجبالي إلى أن الأزمة الرئيسية التي تواجهها الدولة التونسية هي أزمة دستورية بامتياز. ما تحتاجه تونس هو ثبات مؤسسات الدولة، والتزام كل واحدة بدورها واختصاصها، ما يقتضي تحييد السياسي عن الحكومة التنفيذية للبلاد، واستبدالها بحكومة تكنوقراط، بدلًا من حكومة الشاهد.

تصر الحكومة على الممارسة السياسية سواء في شخص الشاهد أو وزير دفاعه عبدالكريم الزبيدي، اللذين ترشحا لرئاسة الجمهورية، في حين اتسمت منافسة الشاهد بالطابع الدولاتي، واستخدام الأداة التنفيذية كقوة لتأثير في الانتخابات.

يرى الجبالي أيضًا، أن ثمة مشكلة في التحالف الهش بين نداء تونس والنهضة، الذي تنازلت بموجبه النهضة عن حقوقها في تقاسم السلطة. مكنها فوزها بثلث البرلمان من حق تقاسم التحالف مع نداء تونس، إلا أنها آثرت أن تترك المجال التنفيذي كله للسبسي، في حين كانت هي أحد المتضررين ومن خلفها الشعب التونسي، إذ سيطر نداء تونس على الدولة، ثم تأثرت البلاد بانقساماته الداخلية.

غياب النهضة عن التحالف أدى لخلل في الثقل والتوازن السياسي، وأثر بالتالي على مؤسسات الدولة التي تعتمد نظامًا برلمانيًا رئاسيًا، قائمًا على التشاركية والتوزنات بين البرلمان والسلطة التنفيذية، وتنقسم فيه الأخيرة إلى مؤسستي الرئاسة ورئاسة الوزراء.

وبجانب مشكلة هشاشة المؤسسات التي لم تترسخ بعد بسبب حداثتها، تبرز مشكلة الهوية التي انخرطت فيها جميع القوى تقريبًا، وكذلك غالبية المرشحين. وحتى المنصف المرزوقي الذي أكد أهمية تجاوز أزمة الهوية، اتسم عهده بصراع هوياتي قوي في أعقاب ثورة الياسمين، ولم يؤجل الصراع الهوياتي إلا بعد اتفاق النهضة ونداء تونس.


موقف المرزوقي من مشروع قانون مساواة الإرث

من الممكن اعتبار أحد مشكلات الديمقراطية الكبرى في البلاد تلك التي تتعلق بانعكاس الاستقطاب السياسي على مؤسسات الدولة، فعلى سبيل المثال لجنة الحقيقة والكرامة تم عرقلتها عبر الجهاز البيروقراطي للدولة.

كذلك مشكلة اعتماد القضاء القديم حكمًا لحل تلك المشكلات، في حين لم تنشئ محاكم خاصة أو حتى تتم مراجعة وإصلاح القضاء ونظامه وقوانينه، وهذا ما يشير إليه المرزوقي باعتباره أهم القضايا التي سيهتم بها.

كذلك مشكلة

المحكمة الدستورية

التي لم ترَ النور حتى الآن، والتي تعتبر علاجًا فعالًا لمشكلة هشاشة مؤسسات الدولة، والحفاظ على المؤسسة الدستورية التي يؤدي رسوخها إلى عقلانية الدولة، وتمكن أدوات الحوكمة الرشيدة من العمل في ظل نظام دستوري من ثم ديمقراطي.

الالتفات بعيدًا عن الاقتصاد

يشير أحمد تهامي

[1]

إلى أن الحركات الاجتماعية والسياسية في فترات التحول الديمقراطي تسعى للتجديد والتغيير الثقافي السياسي. تحمل تلك الحركات التناقض، وذلك نتيجة للثقافة الاستبدادية السائدة التي نشأت فيها.

لذا سنجد مركزية الهوية في البرامج الانتخابية للمترشحين، لكن الأهم أن تلك القوى توزع الملفات على حسب التصورات السابقة، وهي تلك الثقافة السياسية التي يحملها السياسي، ويتعارف عليه الشعب كشرعية لهذه النظم.

هنا تتراجع أهمية الملف الاقتصادي، كما كانت تثيره الدولة قبل ثورة 14 يناير/ كانون الأول 2011. فالملف الاقتصادي هامشي في أيديولوجياتها، لكنه في صلب اهتمام النظام والشعب أيضًا، من خلال سياسات النيوليبرالية والدولة والتي كانت تعتمد على تلك التحولات بنظام أمني قمعي، ولا يمتاز بالطابع العسكري.

وبالرغم من قيام الثورة ووجود مؤسسات مثل لجنة الحقيقة والكرامة، والتي كشفت آلاف قضايا الفساد، ومن قبلها قانون العدالة الانتقالية، وعمليات الشفافية التي جرت في خطوات سريعة إبان عهد المرزوقي، لم تستطع القوى السياسية إنهاء ملفات الفساد البيروقراطي للدولة، ولا منعه أيضًا والحيلولة دون استمراره، خصوصًا أن النموذج التي سارت عليه الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، اتسم بطابع نيوليبرالي أيضًا.

الخصخصة التي تحدث عنها الشاهد في برنامجه الانتخابي، كما طرحت من قبل لتفويت «خصخصة»

15 مؤسسة عمومية

حتى 2020، تحيلنا إلى سؤال ماذا لو فشلت محاولات الانفتاح الاقتصادي أو أدت إلى اضطراب في الشارع؟

يوضح لاري دايموند

[2]

أن هناك علاقة بين شرعية الديمقراطية وفعالية أدائها في خبرات مختلفة، وأن تعثر الديمقراطية في أداء وظائف النظم السياسية الأساسية ومنها الاقتصادي، يُضعف من شرعيتها ويفقدها ثقة المجتمع فيها، ما يخلق حالة من الشك والدعوة لعودة النظم السلطوية.

كانت سياسات البنك الدولي هي الملاذ الوحيد لدول الربيع العربي. تمتاز البرامج العلاجية للبنك بفتح الأسواق لرءوس الأموال، مما يوجد شبح التبعية وخضوع القرار السياسي، بالإضافة للتسبب في مشكلات مجتمعية، يحدث جراءها اضطراب سياسي داخلي، قد يؤدي إلى لجوء القوة السياسية الموجودة حينها لاستخدام العنف، سامحةً بعودة النظام السلطوي والاستبدادي من جديد، لتنزلق بعدها التجربة الديمقراطية إلى الهاوية.

تشير

تقارير النقد الدولي

إلى أن مؤشرات الاقتصاد التونسي تتراجع، وتنخفض قيمة الدينار التونسي بشكل متسارع. كل تلك التحديات ستفرض المزيد من النيوليبرالية، التي قد تتصاحب مع عنف وتعلي المؤسسات الأمنية من جديد، أو تفشل مما يؤدي إلى حالة ضبابية وارتباك يؤثر في شرعية النظام الحالي، ومؤسساته الوليدة التي ستكون لقمة سهلة في حلق النظام السابق ومؤسساته البيروقراطية والأمنية.

غياب نوستراداموس

كان الصيدلاني والشاعر نوستراداموس يعيش في فرنسا منتصف القرن السادس عشر. ألف الشاعر كتاب النبوءات، الذي حوى العديد من الخيال والأحلام والتوقعات عن المستقبل لأمته، وقد جرى توظيف تلك النبؤات في مجال السياسة حتى الحرب العالمية الثانية.

وبعيدًا عن الخرافة والأسطورة، فإن ما تحتاج إليه تونس والعالم العربي هو القدرة على التوقع وتخيل المستقبل، في حالة استمرار هذا الواقع، واستخدام الأداوات الممكنة التي تُحدث تغييرًا في المدخلات، في حالة الرغبة في تغييره، فمن يملك ملكة التخيل يمكنه التأثير في المستقبل بل صناعته.

التوقع كما في اللغة العربية مشتق من الواقع. يحتاج السياسيون العرب لفهم الواقع بدقة

[3]

، وتحليل الماضي، فهذا الحاضر مفتاح للمستقبل. ولا يمكن فهم واقع تونس إلا من خلال قراءة دولة بورقيبة وبن علي، ومعرفة مكامن قوتها، وطبيعة المجتمع الذي تفاعل معها، ثم قراءة المشهد الحالي وتوزيع القوى الاجتماعية والسياسية فيه. فعلى سبيل المثال قانون المساواة في الإرث مع احتفاء التيار المدني به، أدى إلى انقسام الشعب التونسي على نفسه. فلو كان السياسي يدرك واقعه جيدًا لما لجأ لتلك الحيل في هذه المرحلة.

تحتاج تونس والعالم العربي إلى منظرين، يحاولون إيجاد حلٍ للتحول الديمقراطي. فمنطقتنا ذات منطق خاص. والديمقراطية في الغرب نشأت من خلال عاملين أساسيين؛ أولًا مع ظهور رغبة الأغنياء والإقطاعيين في منافسة الملك في أوروبا، صاحب ذلك حراكًا اجتماعيًا أفضى لظهور فكرة استجابة الدولة للأشخاص من خارج مؤسسات الدولة، والذي أفضت فيما بعد بشكل عملي إلى الديمقراطية وآلياتها في التفاعل بين الحركات والدولة، ثانيًا أنه جرى بعد ذلك بناء الدولة الحديثة التي تضطلع بالعديد من المهام والوظائف وتوسع دورها.

ونخلص من تلك المحددات إلى أن الدولة في أوروبا كانت مؤسساتها مستقرة، وجرت التحولات على مدى قرون وبشكل تدريجي. كما أن التحولات الديمقراطية كانت تُفرض بطابع اقتصادي، وكان الاقتصاد محركًا لها، ثم توسعت الدولة في دورها على إثر ذلك. أما الدولة التونسية فلا تمتلك رسوخًا في مؤسساتها كما وضحنا، وعليها أعباء والتزامات كبيرة تعيق التحول الديمقراطي في ظل عدم وجود مسار ديمقراطي غير استخدام التحول النيوليبرالي، الذي عادةً ما يتسم بطابع احتكاري وقمعي.

ويظل السؤال في تونس، هل ستفشل تلك التجربة بسبب تراجع الوضع الاقتصادي وتؤدي إلى عودة النظام الأمني أم ستنجح مع قمع القوى المضادة لتعيد للأذهان نظامًا سلطويًا واستبداديًا أم أنها ستفرز حلًا ناجعًا للتجربة العربية في أزمة تحولها الديمقراطي؟

من يستطيع الإجابة على كل تلك الأسئلة وما يتفرع منها بقراءة تاريخية وأخرى واقعية، محاولًا تخيل المستقبل، سيمتلك القدرة على صناعته، فهل سيكون ذلك من خلال القوى السياسية أم المؤسسات التقليدية القديمة؟


المراجع



  1. أحمد تهامي، السياسة المقارنة، دار النشر للجامعات 2018.ص81.
  2. Larry Diamond, Developing Democracy: Toward Consolidation, The John Hopkins University Press, Baltimore and London,1999.p167.
  3. عمار حسين، الخيال السياسي، عالم المعرفة 2017.ص43-46.