قبل نحو عامين، كان «هيرفي رينارد»، المدير الفني آنذاك لمنتخب ساحل العاج، قد أطلق أحد أكثر التصريحات جرأة ببطولة كأس أمم إفريقيا 2015 حينما تعرض بالإشادة الصريحة لخصمه الذي فاز عليه بربع نهائي البطولة منتخب «الجزائر»، حين قال: «الجزائر قدمت أقوى أداء فني، يملكون القدرة على الاستحواذ والبناء من الخلف لكني اتبعت الإستراتيجية الأفضل!».

لم يمر الكثير حتى أشار الفرنسي لنقطة الضعف التي منحت الأفيال بطاقة العبور، وهي أن «الجزائر» منتخب متناقضة مكوناته، يمتلك خط هجوم بأعلى مستوى، يحظى بأسماء يمكن أن تقوم بأغلب مهام وسط الملعب، لكنه يمتلك خط دفاع ثقيل الحركة وضعيفا بالتعامل مع المرتدات والمساحات، مر عامان ولا يبدو أن أحدًا استمع بعناية لكلمات «رينارد»!

بالتوقيت نفسه كان «جورج ليكينز»، مدرب تونس آنذاك، يستعد لفسخ عقده بالتراضي مع اتحاد الكرة لاختلاف حول قيمة المكافآة المالية لخوض البطولة الأفريقية، التونسيون لم يتشبثوا بالبلجيكي صاحب المسيرة التدريبية غير القوية، إذ سبق له فقط قيادة منتخب بلده بكأس العالم 98، ورأى الكثيرون أنهم قد أحسنوا التصرف.

دارت الأيام سريعًا وتحوّل «ليكينز» ليقود دفّة ثعالب الصحراء، وهو القرار الذي اتهم بسببه كثيرون «محمد روراوة» بالتهوّر، أما نسور قرطاج فاستعانوا بأحد عرّابي القارة الأفريقية: العجوز البولندي «هنري كاسبرزاك»، اصطدم منتخبا شمال القارة، ليس فقط بمجموعة واحدة، ولكنها المجموعة الأصعب بالبطولة، وكان قدر مباراتهما أن تنال ترقبا مضاعفا بسبب تعقيد حسابات الجولة الفائتة.


الشوط الأول – المرحلة الأولى: هبّت رياح الخضر

لم يكن مفاجئًا انقضاض منتخب «الجزائر» ودخول لاعبيه المباراة من اللحظة الأولى، ليس لأنه أحد مرشحي البطولة، ويمتلك أسماء تتفوق بالجانب الفردي على نظرائهم، لكن لأن تكرار سيناريو مباراة السنغال هو أبعد ما يتمناه فريق «أيمن عبدالنور»، هدف مبكر يتزايد معه توتر مغادرة البطولة ويفتح الباب لمباراة استعراضية تتلاقى فيها المهارات والمساحات. ماذا يمكن لـ«محرز» أن يتمنى أكثر من ذلك؟

انطلق الثنائي «سليماني، غزال» بهدف تحقيق الضغط على قلبي دفاع تونس، خلفهما يقوم بالدور نفسه «محرز، براهيمي» علي الأطراف، «قديورة، بن طالب» بعمق وسط الملعب لذلك خرجت الربع ساعة الأولى جزائرية بامتياز، استحواذ يتجاوز الـ 60%، وثلاث فرص محققة كادت أن تعصف بمنتخب باب سويقة، لولا تألق الحارس والقائد «أيمن المثلوثي».

شيء واحد لم يلتفت له «ليكينز»، الجزائر ظهرت بنفس الشكل وأسلوب لعب مباراة «زيمبابوي»، بدون إضافة فنية تذكر، نقطة سلبية يمكن لـ«كاسبرزاك» الاستفادة منها، وهو ما تم!


http://gty.im/632105102

«كاسبرزاك» لم يحارب طواحين الهواء، بل أدرك قبل بدء المباراة أن تكرار أخطاء مباراة «السنغال» ستكون كارثية، البولندي لم يترك «فرجاني ساسي» وحيدًا بوسط الملعب، بل أضاف بجانبه على الدائرة اللاعب «محمد أمين بن عُمر» وأعطى حرية الحركة «وهبي الخزري» بين الأطراف «يوسف المساكني والسليتي»، ثنائية «ساسي وعُمر» كُلِفت بأدوار دفاعية بحتة، صحيح أنها لم تحرز تفوقًا في الثُلث ساعة الأولى للمباراة، لكنها قللت من دون شك من خطورة الجزائريين.

«كاسبرزاك» لم يتوقف عند ذلك، بل شدد على الأطراف الدفاعية «معلول والنجّاز» عدم التقدم بدون حسابات لتفادي مواجهة غير متكافئة بين «صيام بن يوسف، عبدالنور» من جهة والرباعي الهجومي للخضر من جهة أخرى.


الشوط الأول-المرحلة الثانية: التغوّل بوسط ملعب الخضر

جورج ليكنز، مدرب الجزائر.

كان البولندي يتأكد أن خصمه لا يمتلك حلولًا فنية أكثر من تلك التي يعرفها عن الخضر ليحقق توازنًا علي الملعب يمكن خلاله مباغتة الخصم، بعد 20 دقيقة استطاع ثنائي الوسط الأحمر من استخلاص الكرات ،وبدا أن «تونس» منتشرة بوسط ملعب الجزائر.

فبعد ركلة ثابتة من مكان مميز استطاع «الخزري» الحصول على ركنية كادت أن تمنح فريقه هدف المباراة الأول. بعد 5 دقائق فقط يستطيع ثنائي الوسط قيادة هجمة جديدة، قبل التمرير لـ«نجاز» الذي حولها عرضية خطيرة لم تجد من ينتظرها.

والخلاصة أن «تونس» استطاعت إنهاء الشوط بالشكل الذي كانت تريده، امتصاص هبّة الخصم وتحقيق الخطورة عن طريق الكرات الثابتة، انتشار جيد بالمرحلة الثانية من الشوط بفضل تشكيل لم يكلف لاعبيه أدوارًا تفوق استطاعتهم، حتى «الخزري» أكثر لاعبي «تونس» بذلًا للجهد والركض كان يكافح للظفر بالكرات العالية بوسط ملعب خصمه دون أدوار دفاعية بوسط ملعبه.


http://gty.im/632096374

الغريب أن «ليكينز» لم يتفاعل مع المتغيرات التونسية، بل إن الرجل لم يشدد على «بن طالب، قديورة» بضرورة التمركز وعدم فقد الكرات، وكذلك تحقيق مساندة دفاعية للأطراف التي تعاني دفاعيًا كـ«مفتاح، غُلام».


الشوط الثاني: قليل من التوفيق، كثير من المباغتة

المنتخب التونسي هو الفريق العربي الوحيد الذي امتلك مرونة تكتيكية بين شوطي المباراة الأول والثاني





محمد أبوتريكة

بدأ التونسيون الشوط الثاني وأعينهم على نقاط المباراة، كان من الواضح أن معركة وسط الملعب بالدقائق الأولى للشوط الثاني تتجه نحوهم، الخطوط التونسية بدت مترابطة للغاية، بل أحيانًا لا يفصلها مساحات، وهو ما سمح بالنقل العرضي الذي أسهم فيه التحرك السلس للثنائي «الخزري والمساكني».

الدقيقة 49 كانت شاهدة على عدد وافر من أخطاء الدفاع الجزائري، كرة التماس التي تحولت بثوانٍ لقدم «المساكني» متجاوزة 3 لاعبين جزائريين بتمريرة واحدة، «يوسف» ينظر داخل منطقة الجزاء ليجد أن الخصم يمتلك 5 مدافعين يعجزون عن رقابة ثنائي تونس بسبب سوء التمركز الغريب، أما صاحب الرصيد الأكبر من الخطأ كان «عيسي ماندي» الذي تأخر كثيرًا في الضغط على «المساكني» وانتهى به الحال مشاركًا بهدف النسور الأول؛ مباغتة الخصم مستغلًا لهفواته كما يجب أن تكون.

تونس تاريخيًا تمتلك تفوقًا فنيًا بعد تسجيل الهدف الأول، يصعب حينها التسجيل بمرمانا.





طارق دياب، المحلل الفني

أصاب «طارق دياب»، فعلى مدى ربع ساعة عقب تسجيل الأول غابت الفاعلية الجزائرية وانهارت توقعات ردة الفعل الهجومية، نجح مرة أخرى وسط ملعب التونسي في ترويض المحاربين والفوز بعرضيات الكرات الثابتة، مباراة كبرى على مستوى التمركز للثنائي الدفاعي.

بالدقيقة 63 يمارس «وهبي الخزري» هوايته بمطاردة الكرات العالية والمشتتة خصوصًا بوسط ملعب «الجزائر»، ينجح في إرباك «فوزي غُلام» الذي يعيد الكرة لحارسه «مليك عسلة» بخطأ فادح من بعد 31 مترًا، يصعب تصوّر أن صاحب اللقطة هو الظهير الأساسي لفريق «نابولي» الذي ينافس بالدوري الإيطالي ويمتاز أسلوب فريقه بترويض الكرات واللعب علي الأرض، كان أمام «غُلام» أكثر من خيار آمن للخروج بالكرة وإنهاء الخطورة، لكنه أبى أن يمنح المنطلق السريع «الخزري» الكرة على طبق من ذهب لمواجهة سريعة مع المرمى قبل أن يتمكن الأخير من الحصول على ضربة جزاء أثارت التساؤلات حول صحتها؛ 2- صفر تنهي المباراة وتقتل الأمل الجزائري.


http://gty.im/631823616

كان من المفهوم أن تنكمش «تونس» للحفاظ على النتيجة وهو ما تم، غير المفهوم بالمرة هو عدم التدخل الفني من «ليكينز» لتعديل حسابات المباراة، تبديلات البلجيكي جاءت متأخرة أو غير مؤثرة، لم يفلح دخول «بغداد بونجاح» لأن «كاسبرزاك» استعد بنزول «اليعقوبي» كمدافع آخر، وأضاف كثافة عددية بوسط الملعب واعتمد على المرتدات التي كادت أن تسفر عن الثالث لولا مصيدة التسلل.


هوامش: تونسي من ذهب وشخصية فريق الخضر

لست سعيدًا، بدأنا بشكل جيد لكن شيئًا فشيئًا قللت تونس من نسقنا، كان يجب تفادي ذلك

لا يوجد أدنى شك أن التوفيق إنجاز لمنتخب «تونس»، لكن بالوقت نفسه لا يمكن بحال من الأحوال إنكار الشكل الذي أدار به «كاسبرزاك» المباراة مستغلًا كل أوراقه، وقادرًا على تجاوز هزيمة «السنغال»، اعتمد البولندي على أسلوب لعب متحفظ لكنه لعب على نقاط ضعف الدفاع الجزائري، وبدلًا من انتظار الكرة استطاع الحصول عليها من قلب منتصف ملعب الخصم، قدم «كاسبرزاك» درسًا لكل من يبرر سوء الأداء وأسلوب اللعب الغارق بالتحفظ والخوف، لعل آخرين يتعلمون باليومين القادمين.


https://www.youtube.com/watch?v=tVEYTk-l9SA

لا يتأتى تناول الانتصار التونسي دون الإشارة والإشادة بالحارس والقائد «أيمن المثلوثي»، صاحب الـ 32 عامًا لعب دورًا فعالًا بجانب «الخزري والمساكني» بتحقيق الفوز، ليس فقط لأنه حصل على العلامة الكاملة من تصديات الشوط الأول بواقع 4 تصديات من 4 تصويبات، وليس فقط لأنه استطاع ترويض الخصم والتحكم بريتم المباراة قبل الدقائق الأخيرة بسبب دقائق إصابته، لكن لأن «المثلوثي» كان قائدًا بحق يمتلك القدرة على توجيه فريقه وتنظيم خطوطه وبث الروح، يمكنك التأكد من ذلك بلقطة خروجه من الملعب.

علي الجانب الآخر، لا يمكن تخيل أن منتخب بحجم «الجزائر» يمتلك أسماء فازت لتوها بأقيم الجوائز، وحازت على أرفع التقييمات لا تمتلك شخصية واضحة بالملعب، ليس بسبب عقم هجومي أصابهم على مدى المباراة، وليس لأن شباكهم اهتزت 4 مرات بمباراتين فقط، ولكن لم أتمكن من رؤية قائد بالملعب يستطيع انتشال فريقه من حالته وتوجيههم بحالات الدفاع والهجوم، «عيسى ماندي» لا يرقى لحمل شارة منتخب الخضر.