شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 56 عشرة أعوامٍ مرّت على صدور الطبعة الأولى الإنجليزية من رواية «رحلات في حجرة الكتابة» للروائي الأمريكي ذائع الصيت «بول أوستر»، والتي صدرت مؤخرًا عن دار المتوسط في ترجمة رشيقة للمترجم والشاعر «سامر أبو هوّاش». أوستر الذي يعده الكثيرون أحد أكثر الروائيين الأمريكيين المعاصرين تميزًا وفرادة، عُرف برواياته التي تحمل طابعًا بوليسيًا مميزّا، ولعل هذا أحد أسباب ذيوع صيته لاسيما في العالم العربي. بدءًا بعنوان هذه الرواية يكون القارئ على وعدٍ مع حالة خاصة من استكشاف العالم الروائي الذي سينسجه «بول» حول «الكتابة»، ذلك العالم السحري الذي يستثير فضول الناس دومًا للتعرّف عليه، أو ما يمكن أن يعبّر عنه أحيانًا «بمطبخ الكتابة». يستغل «أوستر» ذلك الفضول وهذا الشغف فقط ليقود القارئ إلى حكاية مختلفة وتفاصيل لا يمكن توقعها أبدًا، ولعل البداية التي وضعها مع بطل الرواية العجوز «السيد بلانك» الذي نجده في غرفة لا نعرف ماهيتها، ولا إن كانت تنتمي لسجن أو بيتٍ أو مستشفى أو خلاف ذلك، وبين يديه مخطوط رواية مجهولة المؤلف وألبوم صور وعدد من الشخصيات يظهرون ويدلون بمعلومات إلى هذا العجوز ثم ينسحبون بهدوء. من هو؟ ما الذي يفعله هنا؟ متى وصل إلى هنا؟ وكم سيبقى؟ نأمل بأن الوقت سيخبرنا بذلك. أما في الوقت الراهن، فإنّ مهمتنا الوحيدة تنحصر في دراسة الصور، بقدر ما أمكننا من التيقظ، والامتناع عن استخلاص أي نتائج متعجلة.. أشياء عدّة تتوزع في أرجاء الغرفة، وفوق كلّ منها شريط أبيض، كُتبت عليه كلمة واحدة، بأحرف منفصلة. على منضدة السرير، مثلاً، كُتبت «منضدة»، وعلى المصباح «مصباح»، وحتى على الجدار، وهو لا يُعدّ «شيئا» بكلّ معنى الكلمة، كُتب على الشريط اللاصق كلمة «جدار». يرفع الشيخ رأسه لبرهة، يرى الجدار، ويرى الشريط الملصق عليه، ويلفظ، همسا، كلمة «جدار». ما لا يستطيع معرفته في هذه المرحلة هو ما إذا كان يقرأ الكلمة على الشريط، أو أنه يشير ببساطة إلى الجدار نفسه! هكذا يضع الراوي القارئ وجهًا لوجهٍ أمام تلك الشخصية الاستثنائية، وبتلك الأحداث الغريبة التي ستتشكل له شيئًا فشيئًا، وكأنه إزاء شخصيةٍ روائية يجري خلقها بين يديه، شخصية لم يكن من العبث تسميتها «بلانك»، والتي تعني «فارغا»، ثم يتم تعريف بعض الشخصيات والأحداث من حوله، لنستكشف أن وراء تلك الشخصية تكمن الرواية وتختبئ الحكايات. تحضر الشخصيات واحدة تلو الأخرى، وفيما القارئ منهمك في التعرف عليها، إذ ترد إشارات بين الحين والآخر لكون ذلك العجوز على علاقة بهذه الشخصيات، كل واحدٍ منهم يروي طرفًا من الحكاية، ليبدو أنهم على علاقةٍ من نوع خاص به، وهي علاقة تمتد في الزمان والمكان، كما سنكتشف مع شخصيات «آنا بلوم»، و«صوفي»، و«سيغموند جراف»، والمحامي الخاص به، وغيرها، ولدى كل شخصيةٍ منهم أطراف من حكاية ما. لا يصرّح «أوستر» في أي من صفحات روايته بهويّة «السيد بلانك»، ولا يشير إلى كونه ذلك الكاتب/الروائي بالأساس، حتى وإن بدا أن بعض الشخصيات التي تمر عليه شخصياتٌ روائية بامتياز، (بل إن بعضها هي شخصيات لروايات أخرى لبول أوستر)، ولكنه يفضّل أن يترك للقارئ مساحة التأويل، وهو يتحدث عن الكاتب الإنسان في هذا العالم الذي يواجه بالكثير من التحديات والصعوبات ويظل متهمًا على الدوام! أنا إنسانٌ ولست ملاكًا، وإذا كان الأسى الذي استولى عليَّ قد شوّش رؤيتي، وأدى إلى بعض السقطات، فإن هذا لا يجدر به أن يُلقي أيّ شكٍ على صدق حكايتي، قبل أن يحاول أحدٌ أن يجردني من الصدقيّة من خلال الإشارة إلى تلك العلامات السود في سجلّي، فإنني سوف أعترف بذنبي، وبكل انفتاح العالم، هذه أزمنةٌ خؤونة وأعرف مدى سهولة تشويه الحقائق بكلمةٍ واحدة تُهمس للأذن الخطأ. اطعن في شخصية رجلٍ، وكل شيء يفعل، هذا الرجل يبدو خفيًا مشكوكًا به، مزيفًا، وله دوافع مزودجة في حالتي فإن العيوب المطروحة نبعت من الألم لا الحقد، من الارتباك لا المكر! هكذا يبدو «أوستر» على الدوام مهتمًا بالمتلقي، بالقارئ القادر على صنع العالم والتعرّف على شخصيات روايته بعد قراءةٍ واعية، بل هو يراهن على بقاء القصص والحكايات رغم كل مغريات العالم الافتراضي الذي نعيش فيه، يقول في أحد حواراته : أؤمن بأن القصص المكتوبة ستواصل النهوض والمقاومة، لأنها تُجيب على كل ما يحتاجه العقل البشري. من جانبي أعتقد أن الأفلام قد تختفي قبل الرواية، لأن الرواية هي المكان الوحيد الذي يجمع بين غريبين بمحض الصدفة، بحيث إن القارئ والكاتب هما من يصنع الرواية سويةً، لأنك كقارئ ستقتحم الوعي الباطن لشخص آخر ستعوم في أغوار دواخله وستقوم باكتشاف أشياء قد تكون وجدت داخلك أنت، وهذا بدوره سيمدك بالحياة أكثر. تنتهي سطور رواية «رحلات في حجرة الكتابة» التي يفاجئ القارئ بأنه ليس فيها ثمّة رحلات بالمعنى الذي يعرفه، بل لا حتى حجرة الكتابة التي اعتادها، ولكنها رواية خاصة على طريقة «بول أوستر» تجعل القارئ يشعر بالدوران بين شخصياتها، وهو الدوران الذي يجعله يستعيد قراءتها مرة أخرى، بل ربما التعرف على عالم ذلك الروائي الثري من جديد من خلال رواياته الأخرى. تجدر الإشارة في النهاية إلى أن ترجمة «سامر أبو هواش» جاءت شديدة الدقة والتميّز، إذ استطاع أن يعبّر عن النص الإنجليزي بلغةٍ عربية رائقة ومتقنة، وربما يعود لكونه شاعرا بالأساس، نقل الكثير من نصوص الأدب الأمريكي إلى العربية، فقد سبق أن ترجم أعمال «تشارلز بوكوفسكي» و«مارلين روبنسون» وغيرهما، وقدّم مؤخرًا للمكتبة العربية عددًا من أعمال «بول أوستر»، كان آخرها تلك الرواية التي بين أيدينا. قد يعجبك أيضاً الحصان في قلب الصخرة: السيريالية في 5 أفلام فيلم «كازابلانكا»: ميمي وكرارة بين المعالجة والاقتباس لهذه الأسباب كان «جراند أوتيل» مبهرًا بصريًا فيلم البحر بيضحك ليه: فن العيش كـ«بني آدم» شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram إبراهيم عادل Follow Author المقالة السابقة «عائد لأبحث عنك»: ميسو يقع في فخ التكرار وإعادة التدوير المقالة التالية قصص لا تكتمل – الحلقة الرابعة قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «The House That Jack Built»: بورتريه شخصي لفون ترير 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «Raging Bull»: ﻻموتا وسكورسيزي في كادر واحد 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عبد العزيز بركة ساكن: صوت الثورة السودانية الهادر 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قبل نهاية اللعبة: كيف غيرت مارفيل المشهد السينمائي؟ 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «ستموت في العشرين»: حتى لا يمرض أسد السودان 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تطورت الدراما المصرية في العقد الأخير 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «برلين 68»: المنافسة الأقوى على جائزة أفضل ممثلة 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «على خط جرينتش»: مواجهة المأساة بالرصد والتأمل 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «Three billboards»: ملحمة الانتقام والعدالة 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «يوم الدين»: الكثير من الدخان بلا نار حقيقية 03/03/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.