ناقشنا في

الجزء الأول

كيف ساهم الانفجار الكبير في تخليق الكميات الأولى من العناصر الخفيفة. اليوم نستعرض دور النجوم في هذا المضمار والتي ستُثبِت أنها قادرة على إعطائنا خيارات أكثر بكثير من الهيدروجين والهيليوم. مع ملاحظة أنه على عكس الحالة السابقة فإننا الآن في مرحلة ” تلي” تكوين الذرات بالفعل. ولكن بما أن قلب النجم هو مكان عالي الطاقة بشكل رهيب، فإننا ما زلنا نتعامل مع العناصر على أنها أنوية لأن حرارة قلب النجم تؤدي لتأين الذرات وانفصال الإلكترونات عن ذراتها. لذا سنستخدم كلمتي “عنصر” و “نواة” و”ذرة” كمترادفات خلال حديثنا اليوم.


وضع الاستعداد: السماء تضيء


http://gty.im/90758041

يمكننا تخيل بداية حياة النجم بتخيل سحابة غازية كبيرة الحجم –مكونة من عناصر نشأت من ارتباط أنوية الانفجار الكبير و الإلكترونات- تحتوي على منطقة –أو أكثر- ذات كثافة أعلى من باقي أرجاء السحابة. إذا أصبحت هذه المنطقة ذات كثافة أعلى مما يجب، تصبح منطقة غير مستقرة و تضطرها الجاذبية إلى الانهيار على نفسها وهو ما سيتسبب في زيادة الكثافة والضغط مما يزيد من درجة حرارة الغاز. ستواصل درجة الحرارة الازدياد مع تواصل الانهيار بسبب تحويل طاقة الوضع الجاذبية Gravitational Potential Energy إلى طاقة حرارية. بسبب استمرار هذه العملية، ينكمش قلب هذه المنطقة مكونًا “نجمًا أوّليًّا Protostar ” في قلب السحابة. الآن لدينا نجم وليد محاط بسحابة من الغاز، تدور السحابة حول النجم – يعود ذلك لقانون حفظ الزخم الزاوي- مما يوفر للنجم المزيد والمزيد من الغاز المسحوب للداخل بالدوران. كل هذه الأمور تزيد من درجة حرارة النجم أكثر فأكثر ويصبح شديد الإضاءة، في هذه المرحلة تنتج الإضاءة عن إشعاع طاقة وضع جاذبية مثل الطاقة الحرارية الآنف ذكرها ولكن سرعان ما سيتغير مصدر الإضاءة؛ وذلك لأن التفاعلات النووية ستبدأ في هذه المرحلة وستكون هي المسئولة عن تلك الفوتونات التي سيتم إشعاعها من الآن فصاعدًا. سيبدأ الآن حرق الهيدروجين.


حرق الهيدروجين

في البداية لدينا نجم يحاول الوصول لحالة الاستقرار و قد ارتفعت حرارته إلى مليون درجة كلفينية. لديه قوة جاذبية تؤدي لانكماشه وعليه أن يجد طريقة ما لموازنة هذه القوة حتى يتمكن من إبطاء هذا الانكماش والوصول لحالة التوازن الهيدروستاتيكي التي تتوازن فيها قوة الجاذبية المؤدية للانكماش مع قوة الضغط الحراري المؤدية للتمدد، فيستقر النجم. يلجأ النجم أولًا لاستنزاف الكمية القليلة التي يملكها من الديوتريوم، حيث يتم تفاعل بروتون (نواة هيدروجين) مع ذرة الديوتريوم لتكوين نظير الهيليوم

3

He وإطلاق فوتون جاما. بالطبع لن يكون هذا الحل كافيًا لمنح النجم الاستقرار و سرعان ما ستنتهي الكمية المتاحة منه.

وصلت درجة الحرارة الآن لعدة ملايين مما يكفي لبدء المرحلة الثانية. سيبدأ توًّا تفاعل بروتونيْن لتكوين نواة ديوتريوم و بوزيترون (الجسيم المضاد للإلكترون – إلكترون موجب الشحنة) و نيوترينو. يتلو ذلك تفاعل هذا الديوتريوم مع بروتون إضافي لتكوين نظير الهيليوم

3

He أيضًا كما في المرحلة الأولى. أما البوزيترون فيتم تدميره بواسطة إلكترون ليُنتج فوتونين من أشعة جاما. بإمكاننا تلخيص هذه العملية بالمعادلات الآتية:

1

بعد ذلك يبدأ الأمر في التشعب قليلًا حيث نصل لعملية تسمى «سلسلة البروتون- بروتون». هنا يصبح أمام الأنوية الموجودة عدة اختيارات، هذه الاختيارات هي المسئولة عن تكوين أنوية عناصر البريليوم و الليثيوم والبورون. بإمكاننا تلخيص الأمر هكذا:

1. بإمكان نواتي الهيليوم

3

He الاندماج لتكوين نواة

4

He.

2. بإمكان نواة الهيليوم

3

He الاندماج مع نواة

4

He لتكوين نواة البيريليوم

7

Be.

ثم تتعدد الاختيارات أمام نواة البيريليوم الناشئة؛ إما أن تتفاعل مع إلكترون مكونة نواة الليثيوم و نيوترينو، أو أن تتفاعل مع بروتون مكونة نواة البورون.

2

تعرف النجوم التي تقوم بعملية سلسلة البروتون بروتون بأنها نجوم الجيل الأول، وهي نجوم حديثة السن بالمعايير الفلكية كما نرى، فإن كميات كبيرة من الهيليوم يتم إنتاجها من هذه العملية. سيكون الهيليوم هو الوقود البديل عند انتهاء مخزون الهيدروجين لدى النجم.

بنهاية مرحلة حرق الهيدروجين تلك، تعرفنا على خطوات الطبيعة نحو تكوين الهيليوم و الليثيوم والبريليوم والبورون. نواصل المسير الآن نحو حرق الهيليوم.


حرق الهيليوم

يقوم النجم الآن بحرق بقايا الهيدروجين الأخيرة التي يملكها في غلاف خارجي بعيدًا عن قلب النجم. أما القلب فبانتهاء الهيدروجين الذي يملكه يفقد فجأة مصدر القوة التي تكافح قوة الجاذبية – اضطراب التوازن الهيدروستاتيكي – فينكمش بغتة وترتفع درجة حرارته ليصل إلى مئة مليون درجة كلفن.

في البداية ستندمج ذرتا هيليوم لصناعة ذرة من نظير البريليوم غير المستقر. تندمج تلك الأخيرة مع ذرة هيليوم أيضًا ليتم تكوين الكربون (العنصر الذي سيصبح أساس الحياة بعد بضعة بلايين من السنين على كوكبنا).

3

هنا ستبدأ السلاسل النهائية، سيتفاعل هذا الكربون مع الهيليوم ويؤدي اندماجهما إلى تكوين الأكسجين. ثم يندمج هذا الأكسجين مع جسيم ألفا (نواة هيليوم) مكونًا النيون الذي سيندمج أيضًا مع جسيم ألفا مكونًا نظير التيتانيوم. يقوم التيتانيوم بالتقاط إلكترون والتحول إلى نظير عنصر السكانديوم. ينحل السكانديوم إلى عنصر الكالسيوم بالإضافة لبوزيترون. أخيرًا يندمج الكالسيوم مع جسيم ألفا مكونًا عنصر الحديد.

4


حرق الكربون

وصلت درجة حرارة النجم الآن إلى ما يقارب 500 مليون درجة كلفينية و سيتمكن من حرق الكربون بعد حرقه للهيليوم. في هذه الخطوة سيتفاعل الكربون مع بعضه لتكوين عنصر الماغنيسيوم (مع إطلاق فوتون جاما أو نيوترون)، عنصر الصوديوم (مع إطلاق بروتون)، وأيضًا المزيد من الهيليوم والنيون والأكسجين.

5

بعد حرق الكربون تبدأ سلسلة من حرق الأكسجين الذي يندمج مع نفسه لتكوين السيليكون (مع إطلاق ذرة هيليوم) و الفوسفور (مع إطلاق بروتون) والكبريت (مع إطلاق فوتون جاما) و نظائر الأرجون و الكلور والبوتاسيوم والمزيد من الكالسيوم والسكانديوم. كذلك يبدأ حرق النيون (بتفاعل النيون مع فوتونات جاما و نيوترونات،..إلخ) الذي تنتج عنه نظائر مختلفة للماغنسيوم والنيون أيضًا. في النجوم كبيرة السن تحدث أيضًا عملية إنتاج للهيليوم تسمى CNO لاعتمادها على كميات من الكربون والنيتروجين والأكسجين لتحفيز تحويل الهيدروجين إلى هيليوم وتحويل هذه العوامل الحفازة المختلفة إلى نيتروجين.

في هذا العمق من رحلتنا نحو تكوين العناصر نكون قد وصلنا للنجوم الضخمة. فحرق الكربون، الأكسجين والنيون عمليات تتطلب كتلًا ضخمة لكي تحدث ولا يمكنك أن تجدها مثلًا في نجوم بكتلة الشمس (التي لن تقوم بإنتاج أي عناصر بعد الهيليوم في صورتها الحالية). في هذه النجوم الضخمة نصل لآخر ما بوسع نجم ما حرقه؛ السيليكون.


حرق السيليكون

تحمل هذه المرحلة نهاية التخليق النجمي، حيث يتفاعل السيليكون مع الهيليوم لتكوين المزيد من الكبريت الذي يندمج بدوره مع عدة جسيمات ألفا لتكوين نظير عنصر النيكل. ينحلّ هذا النظير مكونًا نظير عنصر الكوبالت وهو ما ينحل أيضًا مكونًا عنصر الحديد المستقر كما حدث في نهاية مرحلة حرق الهيليوم. سيكون الحديد هو العنصر النهائي في عمليات التخليق النجمي حيث ستتطلب باقي العناصر ظروفًا متطرفة ليتم صناعتها، مستعرات و عمالقة.


ماذا عن باقي العناصر؟

6

يتم تكوين كل العناصر الطبيعية الأكبر من الحديد عن طريقة عملية اصطياد النيوترونات أو البروتونات. وتُصنف عمليات اصطياد النيوترونات إلى عمليات بطيئة s-processes و عمليات سريعة r-processes، بينما يتم اصطياد البروتونات من خلال عملية يطلق عليها rp-process . تحدث عملية اصطياد النيوترونات السريعة و عملية اصطياد البروتونات في المستعرات العظمى supernovae الناشئة عن النجوم الضخمة، أما عملية اصطياد النيوترونات البطيئة فيمكننا رصدها في النجوم ذات الكتل المتوسطة والمنخفضة ولكن بعد تحولها لعمالقة حمر. تتمحور هذه العمليات حول تفاعل نواة عنصر من عناصر ما قبل الحديد مع نيوترون أو أكثر لتكوين نواة عنصر أكبر (إذا كانت النواة الناتجة نواة مستقرة)، والذي يقوم أيضًا بالتفاعل مع نيوترون أو أكثر لتكوين نواة العنصر التالي و هكذا، و بالمثل في اصطياد البروتونات. بهذه الطريقة تم تكوين كل العناصر ما بين الحديد واليورانيوم.

علاوة على ذلك، نجد في أنواع أخرى من الظروف المتطرفة – مثل انفجارات النجوم – تخليقًا للعناصر ينتج من تأثير الموجة الصادمة الناشئة عن الانفجار. يتم هذا التخليق بطريقة مشابهة للميكانيكية النجمية من حرق للهيدروجين والهيليوم والكربون والأكسجين،..إلخ، حسب ما يمتلكه النجم المنفجر من طبقات مليئة بغاز معين يتم حرقه.

يتبقى أن نذكر أن بعض العناصر قد نشأت عن الاضمحلال الإشعاعي radioactive decay لأنوية نظائر لم تكن مستقرة أو لعناصر مشعة مثل اليورانيوم، تضمحل هذه العناصر تبعًا لسلاسل تسمى بسلاسل الاضمحلال ولكن تلك الميكانيكية لها ظروفها الخاصة.

بهذا نكون قد وصلنا لنهاية رحلتنا نحو تكوين العناصر. لعلك الآن تدرك أن كل ما هو حولك، ما ترتديه، ما تأكله بل و كل ما هو أنت قد جاء من رحلة طويلة منذ أن كانت كل ذرة من ذراتك مجرد بروتون ينتظر ثلاث دقائق بعد ظهور الكون للوجود ليقوم بأول نشاط له، لتتكون أول نواة، فأول ذرة، فأول سحابة، فأول نجم، فكل شيء.

*بوزيترون: الجسيم المضاد للإلكترون – إلكترون موجب.

**فوتون: جسيم أولي عديم الكتلة وهو مكون الضوء.

***ديوتريوم: نظير مستقر للهيدروجين – يمتلك بروتون و نيوترون.

****نظائر: صور مختلفة لنفس العنصر متساوية في العدد الذري ومختلفة في العدد الكتلي.

*****جسيم ألفا: نواة ذرة الهيليوم – يمتلك 2 بروتون و 2 نيوترون.

ملحوظة هامة: بجانب التفاعلات المذكورة أعلاه، توجد العديد من التفاعلات الجانبية التي تحدث في النجوم خلال فترات حياتها المختلفة وتبعًا لظروفها الفردية من حيث الكتلة والكثافة والحرارة والعمر. ما تم ذكره هو التفاعلات المرتبطة بتكوين عناصر جديدة.


المراجع



  1. Dieter Rehder-Chemistry in Space- From Interstellar Matter to the Origin of Life -Wiley-VCH (2010)
  2. Dieter Rehder-Chemistry in Space- From Interstellar Matter to the Origin of Life -Wiley-VCH (2010)
  3. الصورة من ناسا