كان لمصطلح «السيولة»، الذي استخدمه الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان، دلالة مزدوجة، فيزيقية وميتافيزيقية، مشتبكة بصورة فلسفية مع المنهج النقدي للحداثة الذي تغيّاه باومان في كتاباته. ولعل من المفيد في وصف تحولات الحالة السلفية المصرية، سياسيًا واجتماعيًا، استخدام هذه الدلالة المزدوجة التي وظفها باومان، وذلك لوصف محطات التحول السياسي ومنعطفاته، خاصة فيما يتعلق ببنية وأسس التغيرات الفكرية التي تتحكم في الفعل السياسي السلفي، مقارنة بين مواقفهم المختلفة قبل ثورة يناير وبعدها، ثم مواقفهم من انقلاب الثالث من يوليو وما تلاه من أحداث.

لقد كان للسلفيين في مصر مواقف متقاربة في الناتج النهائي تجاه العمل السياسي، لكنه من حيث بنيته ومضمونه مختلف وأحيانًا يكون متناقضًا، بين مختلف التيارات. بينما أحدثت ثورة يناير ارتباكًا في موقف بعض التيارات السلفية من السياسة بشكل عام، والثورة بشكل خاص، وحدث بالفعل تحولًا في مواقف التيارات السلفية تجاه الثورة وما تلاها من انفتاح في العمل السياسي وتأسيس الأحزاب والمنافسة على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فضلًا عن تشبع الخطاب السياسي السلفي بحالة من العداء لكل ما هو غير إسلامي، سياسيًا، وازدياد توظيف المساجد والفضائيات والمنابر في الحشد والتعبئة السياسية والاجتماعية، وهو تغير في مضمون عمل هذه الأدوات من المنطق الدعوي والشرعي التوعوي إلى المنطق السياسي والاجتماعي بتجلياته وتطوراته الحاصلة بعد الثورة.


الشرخ التصنيفي السلفي

مثلت مرحلة الثلاثين من يونيو 2013م، وإرهاصاتها السابقة وأحداثها التالية؛ شرخًا عميقًا في خريطة السلفية المصرية، حيث تمايزت عدد من التيارات السلفية عن الأخرى في صورة الصراع الوجودي السلفي أو ثنائية الحق والباطل، واعتبر كل طرف الآخر عدوًا للإسلام وأهله، خاصة مع تفعيل آليات التأويل الشرعي في أحداث رابعة والنهضة وفضهما العنيف، ورأى سلفيو الإسكندرية ضرورة ابتعادهم عن معركة الإخوان ومن حالفهم من السلفيين مع النظام، كما استمر موقف السلفية التقليدية متقلبًا بين القرب من الإخوان ومرسي وحلفائهم بصورة غير مندفعة، بينما تركوا مسافة للتراجع استغلوها مع تزايد دلالات سقوط الإخوان، وإن لم يكونوا جميعًا يسيرون وفق نفس الاستراتيجية، لكن أبرزهم محمد حسان، وهو صاحب الشعبية والحضور الأكبر داخل هذا التيار.

بقيت باقي التيارات السلفية، حتى الجهادية، في اصطفاف بمنطق المعركة الصفرية مع النظام، بيد أن الجماعة الإسلامية تعاملت مع الموقف بشيء من الحذر لتجاربها السابقة مع بطش النظام، وتفرق موقف كل من طارق الزمر وعبود الزمر، اللذين كانا يحسبان على معسكر واحد داخل الجماعة في السابق، حيث أخذ طارق موقفًا مناصرًا للإخوان، بينما اتخذ عبود موقفًا بعيدًا عن الإخوان وقريب نسبيًا من النظام، لكنه ليس كموقف ناجح إبراهيم المتماهي تمامًا معه.

كما أن محمد يسري إبراهيم، كأحد ممثلي سلفية القاهرة والأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، آثر الابتعاد عن المشهد بعد سلسلة من المحاولات الخارجية لحشد معارضة وممانعة شرعية ضد الانقلاب، حيث أقام عددًا من المؤتمرات في تركيا، واستصدر عددًا من البيانات عن كيانات دينية خارجية؛ بغية تأليب الرأي العام الإسلامي ضد السيسي ونظامه، لكنه اختار الكمون السياسي بعد فشل هذه المحاولات في تغيير المسار، وبقي في قطر حتى اليوم من دون نشاط إعلامي وسياسي.

وجدت السلفية الثورية نفسها أمام تحد شرس من نظام قرر البطش بكل معارض خاصة المعارضين الإسلاميين، واعتقل الكثير من رموز وقواعد هذا التيار، وعلى رأسهم حازم صلاح أبو إسماعيل، بينما اختار بعضهم التوجه صوب الاتجاه الجهادي، فسافر البعض إلى ليبيا وسوريا، يبدو أن البعض الآخر اختار العمل الجهادي من داخل مصر، فاندمجوا مع بعض شباب الإخوان المنشق عن الخط الرئيسي = تيار محمد كمال ومحمد منتصر، وعمدوا لتأسيس بواكير حركات مقاومة عنيفة داخل مصر، لكنها كلها باءت بالفشل حتى الآن.

كما طال الأمر سلفية الإسكندرية، وفي بنية مجلسها التأسيسي، حيث انحاز سعيد عبد العظيم رسميًا لمعسكر الإخوان، وسكت محمد إسماعيل المقدم، بينما اختار كلا من ياسر برهامي وأحمد فريد مواقفهم المعارضة للإخوان بصورة مباشرة، وهذا التشقق الذي حدث لأكبر كيان سلفي تنظيمي في مصر تسبب في نشوء حالة السيولة الفكرية والفردية لأبناء التيار.

لم تكن باقي السلفيات في مصر في معزل عن حالة السيولة التي ضربت جنبات السلفية جمعاء، فقد حصلت تحولات وتقلبات عنيفة داخل الحالة السلفية من جراء مواقف السلفيين المختلفة من أحداث الثالث من يوليو ثم فض اعتصامي رابعة والنهضة، فانقلب بعض سلفيي الإسكندرية على مدرستهم، وتحول بعض سلفيي القاهرة نحو السلفية الجهادية، بينما مثلت شريحة السلفية المستقلة والسلفية الجديدة أكبر شريحة متلقية للسلفيين المتحولين، خاصة وأن التحول الجديد ناشئ عن مواقف أخلاقية سياسية عقدية مركبة، ولم يجد الكثير من هؤلاء المتحولين إجابات شافية من تياراتهم المتحولين عنها، بينما وجدوا بارقة أمل في عدد من السلفيين المستقلين والجدد من خلال تجديد الخطاب الفقهي والفكري، فضلًا عن تطور مهارات التناول المعرفي لعدد من القضايا السياسية والفكرية التي شغلت عقول الكثيرين.


موسم الهجرة من وإلى السلفية



حصلت تحولات وتقلبات عنيفة داخل الحالة السلفية من جراء مواقف السلفيين المختلفة من أحداث الثالث من يوليو ثم فض اعتصامي رابعة والنهضة.

لاشك أن السلفية الجهادية بمختلف تنوعاتها كانت أيضًا من المستفيدين من حركة الهجرة السلفية التي حصلت، حيث رأى قطاع من الشباب السلفي الذي عايش فض اعتصامي رابعة والنهضة ضرورة اللجوء للحل العنيف، بل وطرأت هذه القناعات على بعض شباب الإخوان أيضًا، وهو ما جعل من هؤلاء بضاعة تسويقية رائجة لإعلام داعش والقاعدة وغيرهم.

هذه الحالة من التحولات والتنقلات الداخلية بين السلفيات المختلفة، واتساع مساحة المتحولين للحالة السلفية الجديدة المستقلة؛ جعلت من السلفية المصرية بشكل عام «سائلة» بنفس المعنى الذي قصده باومان، فلم يعد ثمة حدود فاصلة حادة بين السلفيات إلا من الحد الأخلاقي السياسي العقدي المركب، ولم تعد التراتبية المرجعية للسلفية مقدسة كما السابق، بل وترسخت قناعات قوية لدى الكثير من الشباب السلفي أن القيادات والمشايخ الكبار كانوا سذجًا وقليلي الخبرة والحنكة السياسية، وتضاءلت كثيرًا ميتافيزيقا المنهج والفرقة الناجية والطائفة المنصورة من أذهان هذا التيار الجديد، وفرضت أطروحة «مابعد السلفية» نفسها بقوة كجدل وسجال سلفي – سلفي حاد، خاصة وأن السلفية السعودية باتت تمر بمرحلة أشد مما تمر به السلفية المصرية، ولم يعد التمدد السلفي الإقليمي المدعوم سعوديًا موجودًا أو مسموحًا به.

أكثر ما يشاهد في زمن التيه السلفي أو السلفية السائلة الراهنة؛ هو افتقاد السلفيات الراهنة حالة الثبات التصنيفي المستقر لفترات، أو بصورة أخرى؛ لم يعد السلفيون كأفراد يسكنون تصنيفات السلفية المختلفة لفترات طويلة، أو يتحولون بين السلفيات بتفسيرات معقلنة، وهو ما يجعل المراقب للحالة السلفية مشوش بصورة مستمرة إن لم يمسك بمفاتيح الحالة السلفية ومعاقد تحولاتها المستمرة.

أحد أبرز سمات التيه السلفي الحادث؛ هو موقف السلفيين من الدولة والدستور والممارسة الحداثية برمتها والتي باتت ذات قداسة فاقت في بعض المواقف القداسة التي يبديها الديموقراطيون والحداثيون الأقحاح، حيث خاض سلفيو الإسكندرية صراعات وسجالات عنيفة من أجل تبرير تخليهم عن اتخاذ موقف الحليف مع الإخوان والسلفيين المتحالفين معهم، بينما انخرط سلفيو القاهرة وحلفاء الإخوان في جدل الشرعية الدينية والدستورية لرئاسة محمد مرسي، ومدى حرمة وجرم الانقلاب عليه وعزله، تارة بالتأويل الشرعي المتكلف، وتارة بالتبرير السياسي السطحي. بينما لم يسلم سلفيو الإسكندرية من الانتقادات والسجالات المتكررة حول موقفهم البراجماتي المصلحي من الإخوان، واستمرار ممارستهم للحداثة السياسية كهوامش إسلامية موجودة في نظام يوليو الجديد، إلا أن تبريراتهم الفكرية والشرعية انهالت على قواعدهم بعد تسرب أعداد منها بعيدًا عن الأنساق التنظيمية الفكرية المغلقة، واختبار البعض الموقف الأخلاقي الواجب تجاه أبناء الحركة الإسلامية حتى وإن كانوا مختلفين معهم.

لقد أصبح سؤال السياسة والسياسي مركزيًا بصورة كبيرة في الفضاء السلفي، خاصة وأن لون الصراع الذي صبغه السلفيون بعد رابعة هو الصراع العقدي الصفري، سواء في رؤية السلفيين المتحالفين مع الإخوان لنظام السياسي ومن حالفه من الإسلاميين، أو من سلفية الإسكندرية وتحميل الإخوان وحلفاؤهم جزءًا من جرم ما حصل، أو من الجهاديين تجاه النظام والإخوان وكل مخالفيهم.