شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 62 ألم يأن لسيزيف أن يكُف عن دفع الصخرة؟ لا أفتأ أذكرها وهي تبكي وليدها الذي لم يبلغ العشرين بعد، لم يبلغ العشرين ميتًا الآن، هي وابنتها يبكيان ويذكران الله، ويحتسبان مرارة الفقد ولوعة الموت بما ينتظرهم الثلاثة من النعيم الإلهي، كما يعتقدون. كان لابد للإله أن يتجلى لهم في هذه المحنة، وإلا فما قيمة الحياة وهي لا تساوي بضعة قروش، هي ثمن الرصاصة، وبضعة جنيهات هي راتب الجندي قاتلِ طفلهم، ومقعدٍ وزاريٍّ أو مقعدين، لم يدوما طويلًا لمن كان القتل والتنكيل بأمره! الهروب مشهد النهاية في قصة بلا أبطال، خير ما يفصل ويجمل إذ تتوه التفاصيل بين كل من شاركوا فيها، كلٌّ يحمل من الأسى ما كان له. آلافٌ من البشر يخرجون من منفذٍ ضيقٍ مطأطئين رءوسهم بين صفين واقفين من القاتلين، يلملمون ما بقي من جراحهم الحية ويحملون ما استطاعوا من جثث الأصدقاء، وليس الصديق في هذا المشهد هو الرفيق أو الحبيب، فللمأساة قوانينها.على بعد أمتار، ينظر أحدهم فيجد المكان الذي كان يحميه (المستشفى الميداني) صار حريقًا هائلًا، لا يذكر الموتى هناك، ولا المرضى، فالقيامة انتصبت، لا قاتلٌ يُصغي إلى قتلى ولا يتلو وصيته شهيد.اليوم، ونحن على بعد أربع سنوات، نتذكر القتلى وقاتليهم، ونبحر في المأساة علّنا نجد الإجابات التي لم تكن يومًا جاهزة. في هذه الذكرى، هل كان الفض ضروريًا؟ وهل كان الاعتصام ناجحًا؟ هل …. ؟ التيه بين العنف الثوري والضياع السياسي مما لا شك فيه، أن الهزيمة لها مرارة في الحلق لا تذوب مع الوقت، كزيت الصبار المعتَّق، وكان الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز هزيمةً للثورة، وأحلام يناير/كانون الثاني، وجيل يناير/كانون الثاني، لكننا لابد أن نفرق اليوم بين سبيلين؛ العنف الثوري كما يجعله «فرانز فانون»، خيارا نفسيا – اجتماعيا يبعث الحياة في الروح المستعمَرة الفقيرة، ويحرم مستعمرها من الظفر بالتمكين، والتفكير فيما بعد الاستعمار كمرحلة انتقالية جديدة، وبين الراديكالية الزائفة كما صورها «عامر محسن» في مقالته بجريدة الأخبار اللبنانية ، وهذا التمايز الذي هو محور النقاش هنا، هو ما أوقع جماعات المعارضة المصرية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، في التيه الآني. إذ لم يكن لاعتصام رابعة العدوية والنهضة، رسالةً واضحة ولا أهدافًا ممكنة، كان أشبه ما يكون برقصة ذبيح على مشارف المقصلة، والمقصلة آتيةٌ لا ريب، كان بحثًا عن المعنى، عن المحنة المتولدة ذاتيًا من رحم الهزيمة. العنف عند فانون دليل صارخ على الحياة، أو البقاء، وهو الشيء الذي لا ينفك الاستعمار يُعمل أداته الوحشية للقضاء عليه، لقتل الشعوب وتدمير ثقافتها لنقف ابتداءً مع العنف الثوري في نظر فرانز فانون، أحد أهم منظري الثورة ومقاومة الاستعمار؛ كان فانون عبقريًا في أنه لم يرَ في العنف الثوري رد فعل على عنف الاستعمار، ولم يوظفه أو يحاول عقلنته للرد على أدعياء اللاعنف من السياسيين أو الثقافويين الغربيين، لكنه عند فانون دليل صارخ على الحياة، أو لنكن أكثر تحديدًا على العيش/البقاء (surviving)، وهو الشيء الذي لا ينفك الاستعمار يُعمل أداته الوحشية للقضاء عليه، لقتل الشعوب، وتدمير ثقافتها، وإيصالها للحد الذي تتمنى فيه مجرد العيش، لا التحرر.ويرى فانون في العنف الثوري طريقًا لازمًا للتحرر والثورة، وربما لا نبالغ إذ نقول إنه كفيلٌ -دون سواه- عند فانون بهذا الإنجاز (التحرر والثورة)، لكن هذا الذي يسوقه فانون في نظرياته لا ينطبق بدرجة كبيرة على الحالة المصرية، إذ لا مستعمِر يستفز الشعور الوطني لدى الجماهير العريضة، وأُمعن في التقريع أنه لم يتشكل بعدُ شعور جمعي سلبي تجاه الدولة، متمثلةً في الجيش المنقلب على شرعية الرئيس. إذ تستحوذ الدولة -مهما بلغت من السوء- على هذا الشعور الجمعي من خلال ما لديها من أدوات، وتحتكر في سبيل ذلك العنف والقانون، دون غيرها، كدليل بقائها وتعاضدها.وعليه كان طريق العنف خيارًا غير مُجدٍ لردع الجيش، لاسيما وأن الجماعة المعارضة لتوها أفلتت من يدها شرعية القانون واستعمال القوة، ولو استعملتها وقتما لزمها، لتجنبت الكثير من مصارع السوء التي وردتها.أما الراديكالية الزائفة التي ينقضها الأستاذ عامر محسن، في مقالته، فهي ما تجعلك على الهامش بإرادتك، لأنك لا تريد أن تزرع بلا أفق معلوم، لوقت حصاد مجهول، لكنه قادمٌ على وجه التأكيد، وأنت حين تحدد اختياراتك الراديكالية بأن تبقى على الهامش أو تمارس راديكاليتك في مواجهة النظام، فأنت بذلك تخدمه، إما بإفراغ الساحة له، وإما باختيارك أن تكون الصيد السهل، المعزول من تلقاء نفسه.وتُشكل بهذا المعنى، المعارضة «الجذرية» التي يفضّلها النّظام، على شاكلة النخب «الراديكالية» الأميركية، التي تجدها في نيويورك وسان فرانسيسكو وفي المدن الجامعيّة، وهي كلّها تحاول أن تعيش وفقًا لأفكارها لتحترم ذواتها كما تدعي، لكنها في الحقيقة لا تقدم لأفكارها على الأرض من تقدم أو تمكين. فالنّظام يفضّل أن تكون جذريًا، تتكلّم لغةً نظرية لا يفهمها أحد خارج الفقاعة، تربطك علاقة نفورٍ متبادل مع غالبية المجتمع. المقصد هنا أنّ الجذرية، من دون «تكتيك»، تتحوّل بسهولة إلى غاية في ذاتها، ومن ثمّ إلى كاريكاتير، لا يهدّد النظام بل يشكّل معارضةً مريحةً له، لها موقعها ودورها الذي لن يتوسّع. كمثال؛ يروي أحد الأساتذة أنّ قسم العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، قد انقسم أيّام حرب فيتنام بين الأساتذة اليساريين، الرافضين للحرب، وآخرين مؤيّدين لها بشدّة. خطة اليساريين حين اشتدّ الخلاف كانت، على ما يبدو، أنْ يستقيلوا جماعيًا في حركة احتجاج، ويتركوا القسم، بمؤسسته، وميزانيته، وتأثيره على آلاف التلاميذ وتخطيط مستقبل التدريس والبحث في يد اليمينيين. بينما انصرف أكثرهم إلى مراكز أبحاث مستقلة هامشية، ولكنها أكثر اتّساقًا مع أفكارهم.بالعودة إذن، إلى ميدان رابعة العدوية، هل كان الميدان سليمًا تمامًا؟ (لا). ولم يكن مسلحًا كذلك ليصد هجوم الجيش ولا حتى ليؤخر تقدمه، ولم يعرض خطابًا سياسيًا يمكن التفاوض بشأنه والخروج به بأقل الخسائر، بل كان انتحارًا سياسيًا، وهذا النقد الذي أسوقه، إنما هو لمن كان في قمرة القيادة، لا للحشود، التي -وبحق- كانت تدافع عن ديمقراطيتها ومكتسباتها في الـ 25 من يناير، وكان أغلبهم لا يرون في الحياة من أفقٍ ممكنٍ للعيش بعد الانقلاب، والعودة لما قبل يناير. ماذا لو كان الاعتصام سلميًا تمامًا؟ للحقيقة، لم تجد الدولة المصرية (وأقصد بالدولة مؤسساتها العريقة)، فرصةً أفضل من يوم الرابع عشر من أغسطس/آب لتُعيد الأمور لنصابها الصحيح، المستبدون في السلطة والمعارضون بمختلف أطيافهم إلى المقصلة، ولم يكن متخيلًا أن تضيعها.يجادل البعض أن قوات الجيش والشرطة لم تكن قادمة لمثل هذه المجزرة، وأن طلقات خرجت من فوهة بندقية بائسةٍ أو اثنتين أو حتى عشرة من وسط الميدان هي التي قادت الجميع لهذه النهاية، لكن هذه الحجة تحتاج لتفنيد من عايشها، لا من يريد خلق مبرر لاصطفافه المجرم. أولًا، الميدان كان مخترقًا أمنيًا من قبل الاستخبارات المدنية والعسكرية، ولم يكن بداخله ما يخفى على أجهزة الأمن المصرية، وثانيًا، أن القناصة التابعين للجيش والشرطة اعتلوا الأبنية حول الميدان في الليل، وكان بإمكانهم اصطياد الأفراد الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وكان معهم أسلحة خفيفة، وثالثا، أن هذه المقاومة لم تستمر وقضي عليها في ساعات الصباح المبكر، واشتدت وطأة القتل من قبل الجيش والشرطة طوال اليوم، حتى السادسة مساءً، فيما بدا كقرار أعلى بسحق المعارضة والتنكيل بها، لإعادتها إلى حظيرتها إلى الأبد.وعليه تبطل الحجة «الدولتية» القائلة بأن العنف الزائد من الشرطة كان رد فعلٍ مبالغ، ولم يكن فعلًا مجردًا بُني على قرار سياسي أعلى، لإنفاذ ما أنتجه جنرالات البنتاغون وسموه، تكتيك الصدمة والرعب، وهو لا يهدف فقط إلى القتل، بقدر ما يهدف لكسر الروح وتدمير الإرادة وإيصال المهزوم إلى الحد الذي يطلب فيه مجرد العيش/البقاء.كان الاعتصام اعتراضًا غاضبًا، لكنه لم يُستثمر سياسيًا. لم يطالب المعتصمون بقدر ما في يدهم من الضغط الجماهيري الواسع نسبيًا حينها، حتى كان يوم الرابع عشر من أغسطس/آب، شاهدًا على أبشع مجازر الجيوش الوطنية بحق مواطنيها، فمن لا يدرك موطئ قدميه الآن، لا يدري إلى أي الطرق تقودانه، وليس من نفل الكلام أن نفرق دائمًا بين الجلاد والضحية، وبين المقتول وقاتله، وبين من بيده مفاتح القوة ومن ليس لديه إلا حنجرة وحجارة. في الوقت الضائع تكتيك الصدمة والرعب، كما أسماه جنرالات البنتاغون، ﻻ يهدف فقط إلي القتل، بقدر ما يهدف لكسر الروح وتدمير الإرادة لدى المهزوم في الوقت الذي أُنهكت فيه المعارضة بجُل أطيافها، يبدو النظام واهنًا أمام شعبه، لكن استثمارًا خاطئًا كلفنا اليوم الغياب التام، وإهدار الطاقة والموارد جعلنا اليوم نشاهد نظامًا تافهًا يستأسد بغير أنياب، ويفترس من الضحايا الميتة والمتردية.تبقى الفرصة الوحيدة -برأيي- الممكنة، أن تلتحم المعارضة بهذا الشعب، وأن تعاني ما يعانيه. بعضُ هؤلاء الذين يتبنّون «خطاب التشفي» تخلوا ضمنيًا عن رسالتهم، فكيف تتشفى فيمن ترغب بقيادته؟ مصر ليست إيران، ولن تخرج الجماهير وراء الخميني لتطيح بالشاه، ولن يقف المدني أمام شقيقه العسكري ليُوقفه، أو ليقتله أو ليجبره على قتله، لكن نموذجًا اقتصاديًا واعيًا كالذي تبناه حزب العدالة والتنمية التركي، خاليًا من الانقسامات الأيديولوجية التي تنفر أكثر ما تجمع، وتعيق أكثر ما تمهد، هو الخيار المتاح، والأفضل لترسيخ الديمقراطية. وإلى أن تحين الفرصة، على المعارضين الحفاظ على أنفسهم وأموالهم ومكاناتهم الاجتماعية، وألا يختاروا عزلةً وتهميشًا إراديًا، أو يتبنوا في سبيل أفكارهم مواقف راديكالية، لا تشتبك مع قضايا المواطنين بحال، وهو ما يأمله هذا النظام ويتمناه، ويا بؤس مسعاك إن حاربت إلى جانب عدوك! مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً جي ستريت: معارض حقيقي أم نسخة مخففة من «آيباك»؟ أفغانستان: فقراء يعيشون فوق «الكنز المدفون» النظام العالمي على شرط كيسنجر: جدلية القوة والمشروعية (1/ 2) هل انضمت «الميركافا 4» إلى ترسانة المقاومة الفلسطينية؟ شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram خليل علي Follow Author المقالة السابقة في ذكرى تأسيسه: 16 عامًا من تجربة العدالة والتنمية المقالة التالية تصدير الثورة: إيران وصناعة الجهاد الشيعي في الشرق الأوسط قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك ألكساندر ليتفينينكو: العميل المزدوج الذي فضح ألاعيب بوتين 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل ما زالت دولة البغدادي «باقية وتتمدد»؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التحالفات العسكرية لقطر ما بعد الحصار: استدعاء لا مفر منه 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك بايدن يحكم: هل تكون ولاية ثالثة لأوباما؟ 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تشريح الاقتصاد اللبناني: هل حقًا أفلست البلاد؟ 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الإخوان في مهب الرياح الدولية (2-2) 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك درس في السياسة: لماذا نجحت ألمانيا وفشلت أمريكا أمام كورونا؟ 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك بعد 6 سنوات من هروب بن علي: تونس بعيون أبنائها 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك حرب 1812: تفقّد بريدك قبل الذهاب إلى الحرب 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك البيان الرباعي: إذ لا شيء جديد في جعبة المحاصرين 01/03/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.