كنا جميعًا على علم بأن مفارقته للحياة مجرد وقت كما أخبر الأطباء أسرته منذ أيام، ولكن دائمًا ما يورطنا الأمل وأردد لنفسي كل يوم أنه سيكون بخير، استيقظت فزعًا وهلعًا على خبر وفاته، ومنذ معرفتي هذا الخبر الذي طالما سأتذكره بمشاعري طوال حياتي تترد أمامي كلمات سبارتكوس الأخيرة في قصيدة الشاعر أمل دنقل:

معلق أنا على مشانق الصباح ..

وجبهتي –بالموت–

محنية ..

لأنني لم أحنها ..

حية.

مات «مهند إيهاب»، ذلك الشاب الذي لم يتجاوز العشرين بعد، صاحب الصور المملوءة بالبهجة والابتسام حتى في أشد لحظات مرضه، لطالما حلم بأن يكون مصورًا كبيرًا يمتلك كاميرا حديثة في يوم من الأيام، برغم صغر سنه ومروره بكثير من التجارب المؤلمة كان حتى اللحظة الأخيرة محبًا للحياة ومتشبثًا بها بكل ما أوتي من قوة بجسده النحيل الذي أكله المرض شيئًا فشيئًا حتى لم يتبقى منه سوى روح طاهرة جميلة وقوية، ولكنه سيظل دائمًا أيقونة إلهام للملايين في جميع أنحاء العالم بصوره المبهجة وكلماته المملوءة بالأمل والحياة والحب والسلام.


بدايات النهاية

جسد ضعيف على إحدى الأسرّة موصول بالعديد من الأجهزة الطبية في مستشفى لعلاج الأورام السرطانية في مدينة نيويورك الأمريكية، لكن الكثير منا لا يعلم لماذا وصل مهند إلى هذه الحالة وهذا المكان. دعونا نعود بالأحداث حيث البداية، وتحديدًا في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2013م حيث كان عمره وقتها سبعة عشر عامًا، حيث تم القبض عليه وهو يصور إحدى المظاهرات في شوارع مدينة الإسكندرية ليتم إيداعه في إصلاحية الأحداث بكوم الدكة.

صدر بعدها حكم قضائي عليه بالسجن خمس سنوات ليتم تخفيفه إلى ثلاثة أشهر، خرج بعدها من السجن، لكن لم يحالفه الحظ كأي مواطن مصري لديه عقل ورأي في أن ينعم كثيرا بالحرية؛ ففي الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني 2015م، حيث كان عمره آنذاك تسعة عشر عامًا، تم القبض على مهند مرة أخرى ولنفس السبب؛ تصوير إحدى المظاهرات الاحتجاجية في الشارع، ليدخل من جديد في دوامات الحبس الاحتياطي والسجون المصرية سيئة السمعة، فمن حبس مديرية الأمن بالإسكندرية إلى سجن برج العرب في شهر مارس/آذار.

بدأت الأزمة في شهر مايو/أيار 2015م:

إنه في شهر خمسة بدأت أرجّع وأنزل دم من مناخيري وماقدرش أتكلم ومش عارف أمسك حاجة، ومش عارف أدخل الحمام لوحدي، رحت مستشفى السجن قالولي عندك أنيميا، وبعد كدة تايفود، ثم قيل لي فيروس في الكبد، ودوني مستشفى الحميات، ماعرفوش يشخصوا المرض، مرة جه والدي وعرف ياخد التحليل ووداه معمل، قالوله سرطان دم.

هكذا حكى مهند عن بداية رحلته من السجن إلى المرض في إحدى تدويناته عبر صفحته الشخصية على فيسبوك.

في شهر يونيو/حزيران من نفس العام ومع بدء تدهور حالته وافقت وزارة الداخلية على نقله إلى إحدى المستشفيات الميري في الإسكندرية، وفي التاسع والعشرين من نفس الشهر بدأ مهند بعد إجراء التحاليل الخاصة به رحلة العلاج الكيماوي المرهق وفي يديه القيود الحديدية، فهو لا يزال في نظرهم مسجون يحتمل هروبه حتى في حالته هذه. بدأت حالته الصحية في التدهور تدريجيًا بسبب ضعف الإمكانيات الطبية داخل المستشفى، ومع زيادة الضغوط والشكاوى من أهله وأصدقائه أخلي سبيله على ذمة القضية في أواخر يوليو/تموز 2015م ليطير إلى أمريكا ليبدأ رحلة العلاج شديدة الصعوبة.

برغم كبر وحجم الإمكانيات والكفاءة الطبية الموجودة هناك، ظلت حالة مهند في التدهور شيئًا فشيئًا. كنا جميعًا نتابع حالة مهند عن طريق صفحته الشخصية بكل عجز وألم، فلم يعد بمقدور أي منا إلا الدعاء وتمني الشفاء. تطورت حالة مهند مرورًا بضعف جسده ثم المرحلة التي وصفت بالأخيرة حيث تساقط شعره كما نشر صورة له في الرابع عشر من أغسطس لكوب ماء فيه بعض من شعره بعد أن تساقط نتيجة العلاج الكيماوي وكتب معلقًا عليها:


قُتل ولم يمُت

إنه شعري وذلك ليس اختياري، آمل أن أقصه المرة القادمة. السرطان مؤلم.

في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2016م فارقتنا هذه الروح الطيبة المسالمة التي لم تؤذِ أحدًا، تاركًا خلفه كثيرا من الآلام والأحزان. ستظل روحه تحيطنا وكلماته ومعاناته تتردد في آذاننا، سيظل دائمًا ملهمًا لنا جميعًا.

كان السبب الرئيسي في وفاة مهند، وربما إن صح التعبير «قتله»، هو الإهمال الطبي الذي عاناه في فترة احتجازه داخل السجون المصرية، تلك الزنازين الشبيهة بالمقابر والتي لا يمكن أن يخرج منها أي إنسان سليمًا معافى، إما أن يموت داخل أربعة جدران دون أي محاولة لإنجاده، أو يصاب بمرض مزمن كما حدث لمهند ويموت بمرضه خارج السجن بعد أن يمضي وقت الأمل في الشفاء، أو يظل يعاني من مرض بالعضلات والعظام بقية حياته نتيجة للنوم على الأرض والتكدس والمنع من الحقوق القانونية والإنسانية وذلك أضعف ما يمكن أن يصيب من يخرج من هذه الأماكن.

ولا يفوتنا كم الأمراض النفسية وربما العقلية في بعض الأحيان نتيجة للظروف غير الآدمية والضغوط غير الطبيعية والتي تحول الإنسان من حالته الطبيعية ليخرج شخصًا آخر ربما هو نفسه لا يعلمه.