في سلسلة التدوينات هذه حاولت أن ألقي الضوء على جانب من أزمة الدولة العربية الحديثة المتعلقة بملابسات لحظة الميلاد، وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لبعض الأحداث التأسيسية لهذه اللحظة مثل: مراسلات الشريف حسين – السير هنري ماكمهون، واتفاقية سايكس – بيكو، واندلاع الثورة العربية الكبرى، وفي هذه التدوينة الختامية أود أن أوجز بعض الأفكار الأساسية التي تم تناولها خلال هذه التدوينات.

والبداية كانت من أزمة الدولة العربية الحديثة، فهذا النسق من التنظيم السياسي بالمنطقة العربية قد امتاز بشكل عام خلال القرن الماضي باعتلال واضح في فاعليته تمثل في: غياب الاستقرار السياسي وانتشار السلطوية والديكتاتورية علامة على أزمة الشرعية السياسية المزمنة التي يعاني منها، تردي مشاريع التنمية الاقتصادية وتفشي المظالم الاجتماعية، عدم القدرة على تحقيق الاستقلال الوطني والدفاع عن الأمن القومي بشكل فعال إلا بالاستناد إلى قوى إقليمية ودولية.

ومع بداية الألفية الجديدة أصبحت مظاهر الضعف أكثر وضوحًا وأفدح خطورة، فقد سقطت عدة دول في دوامة الفوضى وأصبحت دولًا فاشلة، واندلعت الثورات العربية لتكشف إحباطات متراكمة وعميقة داخل الشعوب العربية، وعادت الولاءات الأولية الدينية والمذهبية والقبلية والجهوية لتطغى على شعور وقيم المواطنة، وضعفت سيطرة الدولة لصالح ميليشيات مسلحة كونت ما يشبه دويلات صغيرة أو مناطق نفوذ.

ومن خلال استعراض السياق التاريخي والسياسي وملابسات لحظة الميلاد تكشّف لنا عدة عوامل أسهمت في اعتلال الدولة العربية الحديثة وأضعفت فاعليتها واستقرارها، وهذه العوامل تشمل:


أولا:

أن التنظيمات السياسية ما قبل الحديثة في المنطقة العربية كانت هشة وضعيفة إلى حد كبير (باستثناء بعض الحالات مثل مصر وتونس)، فهي إما كانت ولايات تابعة للدولة العثمانية بحيث لم تنضج مؤسساتها لتكون نواة لمؤسسات دولة (مثل ولايات العراق والشام)، أو كانت خاضعة بشكل كامل للتنظيمات التقليدية القبلية والطائفية (مثل الحجاز واليمن وساحل الخليج العربي)، علاوة على ذلك فإن منطق هذه التنظيمات ومشروعيتها كان خليطا غير متجانس ما بين مشروعيات دينية مثل حكم الأئمة باليمن أوالهاشميين بالحجاز أو العلويين بالمغرب، ومشروعيات تقليدية قبلية مثل إمارات الساحل الغربي للخليج، أو حكم “عصبية مؤسسية” من عسكريين وبيروقراط مثل دولة محمد علي بمصر.


ثانيا:

أن عملية التحديث كانت متعثرة من جهة ومتعسفة من جهة أخرى، فمن جهة لم يكتب النجاح لمشروع التحديث الذاتي، إذ لم تتمكن الأمة من إيجاد حلولها الخاصة لمشكلة التأخر الحضاري والتخلف التي بدأت تستشعرها منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولم يمهلها المستعمر حتى بدأ في الانقضاض عليها خلال النصف الثاني من ذلك القرن، ليبدأ مع الاستعمار مشروع تحديث آخر متعسف، لا يحترم الطبيعة والموروث الحضاري لهذه المنطقة (إن لم يتعمد هدم هذا الموروث)، ولا يراعي مصالح شعوب هذه المنطقة، بل أقام مشروعًا تحديثيًا وفق قالبه هو، وبما يخدم مصالحه.


ثالثا:

نتج عن ذلك الأمر أن الترتيبات السياسية التي أسفرت عن ميلاد الدولة العربية الحديثة لم تكن بأي حال من الأحوال معبرة عن إرادة الشعوب في هذه المنطقة ولا عن مصالحهم، ومن ثم رأينا أن هذه الترتيبات تمثلت في تفاهمات استعمارية من قبيل اتفاقية سايكس – بيكو وتفاهمات الحركة الصهيونية مع الحكومة البريطانية، وكانت عملية بناء مؤسسات الدولة الحديثة ذاتها تتم وفق أجندة المستعمر وعلى منهجه (الأنجلوساكسوني أو الفرانكفوني)، ولذلك ظلت الدول القطرية – حتى بعد الاستقلال – تعاني من أزمة شرعية في عيون مواطنيها الذين رأوها مجرد مشروع استعماري للتجزئة والهيمنة وليست وليدًا شرعيًا لهم، وهو الأمر الذي استثمرته الأيديولوجيات العروبية والإسلاموية في طعنها بشرعية هذه الدولة.


رابعا:

أن دولة الاستقلال العربية عندما ورثت تشوهات الميلاد تلك من طعن في المشروعية وانقسامات سياسية وتوترات اجتماعية وضعف مؤسسي وتدهور في الأوضاع الاقتصادية كانت استجابتها سلطوية عنيفة، فاستطاعت أن تتغلب على تلك المشكلات مؤقتًا لكنها – في المقابل – أوهنت أبنية المجتمع التقليدية (مثل القبيلة والطائفة والمجموعات الصوفية..)، والحداثية (كالأحزب السياسية والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية ..)، وتغولت عليها، حتى أن البعض يرى أن دولة الاستقلال العربية ورثت من دولة الاستعمار منطقه وآلياته في إخضاع المجتمع وإحكام السيطرة عليه واعتصار موارده، ولذا حين اعترى الضعف هذه الدولة لاحقًا لم تقوَ مجتمعاتنا على الاحتفاظ بالحد الأدنى من تماسكها وفاعليتها وضربت الفوضى العنيفة مجتمعاتنا السياسية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.