هذا المقال هو محاولة لتنبيه المشتغلين في مواجهة ظاهرة الإلحاد المعاصرة إلى حقيقة أولية ينبغي الانطلاق منها والتشبّع بها قبل أي مواجهة فكرية مع الإلحاد. هذه الحقيقة هي أنّ القرآن الكريم قد حوى بين دفتيه ما يحتاجه الإنسان في كل عصر من أسباب الهداية، وأنّ فيه من الخطاب العقلي البرهاني ما يكفي للانطلاق منه والبناء عليه في محاججة الكفار بجميع أصنافهم.

والسبب منطقي واضح؛ فهو رسالة الله الأخيرة للبشرية، ومن ثمّ فهو يحتوي بالضرورة على كل ما يلزم لإقامة الحجّة على الكافرين وعلى أسباب هداية البشر جميعًا.

ولقد شاعت منذ قرون طويلة مقولة مغلوطة لا تزال –مع الأسف– تهيمن على قناعة بعض المسلمين اليوم، مفادها أنّه لا يمكن الاحتجاج بالقرآن على غير المؤمنين؛ لأنّه حجّة على المؤمنين به فقط، وليس فيه حجّة على من لا يؤمن به، وأنّه ينبغي أولا إثبات وجود الله وأنّ القرآن وحي من عنده بأدلة عقلية وعلمية خارجية، ثم بعد إيمانهم بالقرآن يمكن الاستدلال بآياته ومحاججتهم بها! وهي مقولة خاطئة ينبغي مراجعتها ممّا ينبغي مراجعته من تراثنا الكلامي والعقائدي، فالقرآن فيه هدى وبيّنات لكل الناس، وليس للمسلمين فحسب، قال تعالى:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185). وقد كان الرسول يواجه بالقرآن قومًا لا يؤمنون به ولا بالبعث ولا بالتوحيد، قال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 52) أي بالقرآن.

وفي هذا المقال سنوضّح من خلال سياق من الآيات في سورة الإسراء، إلى جانب آيات أخرى، كيف يمكن للقرآن أن يواجه بعض أبرز شبهات الإلحاد المعاصر، التي يظنّ الملاحدة بأنّه لم يسبقهم إليها أحد. والشبهة التي سنناقشها من خلال آيات الكتاب هي قولهم:

لماذا لا يَظهر الله للناس أو يُظهر لهم أدلّة حسّية خارقة واضحة ليؤمنوا؟ ولماذا خلق الله كلّ هذه «العقبات» في طريق الوصول للهداية والإيمان؛ كالشيطان والهوى والشهوات؟

يعتقد كاتب هذه السطور أنّ القرآن يجيب أفضل إجابة على هذه الأسئلة، وفيه ما هو أوسع بكثير مما عرضته هنا، ولكنّي اقتصرت على نموذج واحد من سورة الإسراء، مع بعض الآيات الأخرى، كي لا يطول المقال، راجيا من الله أن أتمكّن من إنجاز دراسة أوسع تحاول استيفاء نماذج الحجاج في القرآن الكريم.


مع هدايات سورة الإسراء

في سورة الإسراء نموذج رائع يوضّح منهجية القرآن في التعامل مع من يكفر بالله، وهو نموذج ينطبق على الإنسان في كل عصر، ويصلح لتفنيد بعض الشبهات المعاصرة التي يطرحها الملحدون اليوم، ولتوضيح حقائق إيمانية ينبغي أن ينتبه إليها الدعاة، وتحديدًا أولئك الذين تولّوا مهمة مناقشة ظاهرة الإلحاد.

يبدأ النموذج بهذه الآية من سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} (الإسراء: 89).



سورة الإسراء نموذج رائع يوضح منهجية القرآن في التعامل مع من يكفر بالله ويصلح لتفنيد بعض الشبهات المعاصرة التي يطرحها الملحدون اليوم.

تؤسس هذه الآية لحقيقة أساسية يجب الانتباه إليها، وهي أنّ هذا القرآن يحوي من البراهين ما يكفي لمخاطبة الجاحدين بالله عز وجل ومن يرفضون اتباع دينه.

ومهما طرحنا من أمثلة معاصرة للملحدين أو الرافضين للإسلام، فهي تعود بجذورها إلى «نماذج الحجاج» القرآنية، إذ كل ما يمكن أن نذكره بخصوص حقيقة الإنسان ودلالتها على الخالق ورعايته موجَّهٌ إليه في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21) وما يشبهه.

وكل ما يمكن أن نذكره بخصوص الآيات الكونية ودلالتها على الخالق موجَّهٌ إليه في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ} (آل عمران: 190) وما يشبهه. فالقرآن مليء بتوجيه النظر إلى ما يستثير العقول والقلوب للإقرار بالخالق والخضوع له بالعبادة.

بعد أن يؤكّد السياق اكتفاء القرآن بـ «نماذج الحجاج»، يتطرّق إلى شبهة الجاحدين بالله التي ربّما تكون الأكثر شهرة، والتي لا زال الملاحدة يجترّونها حتى يومنا هذا، وهي شبهة طلب الدليل الحسّي الخارق الواضح على الخالق وعلى صحة الرسالة:

{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (الإسراء: 90-93).

لو نظرنا إلى المشترك بين كل «طلبات» الكفّار هذه لوجدنا أنّه الخوارق الحسّية الواضحة، فكيف علّم الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يجيب؟ كانت الإجابة سهلة، ولكنّها في الواقع عميقة وتؤسّس لفكرة غاية في العمق في أساس التكليف بهذا الدين، قال سبحانه:

{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً}. وهي آية تؤكّد على أنّ الوصول للحقّ لا يكون إلا بالأدوات البشرية، بل يزيد السياق بعد ذلك: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً} (الإسراء: 94-95).

تؤكّد هذه الآيات مفهوما أساسيّا في التكليف بهذا الدين، وهو مفهوم «الابتلاء»، أي الاختبار، والذي لا يتم إلا بأدوات النوع المكلَّف: فالبشر يُختبرون بأدوات البشر، والملائكة -لو شاء الله أن يختبرهم- بأدوات الملائكة.

لقد منح الله البشر العقل والوعي والإرادة وحرية الاختيار، وغرس في نفوسهم منذ لحظة خلقهم فطرة التوحيد:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30). وأرسل لهم رسلا مبشّرين ومنذرين كي لا تكون لهم حجّة بعد الرسل، ثمّ وضع لهم في الطريق ما يمكن أن نسمّيه «منغصّات الوصول»؛ كالشيطان والأهواء والشهوات واختلاف العقول وغيرها.


سنّة الابتلاء

وهنا يتساءل الملحد: ولماذا وضع الله هذا كله؟ ألم يكن قادرا (سبحانه) على تمهيد الطريق لهم دون تكليفهم عناء البحث عن الحقيقة بأدواتهم البشرية ومقاومة الأهواء والشيطان؟

بلى هو القادر على كلّ شيء، ولكنْ شاء سبحانه أن يكون خلقه على هذه الهيئة، وهو القائل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23). شاء سبحانه أن يكون الابتلاء (أي الاختبار) جزءا من خلق الإنسان. ومن يُراجع القرآن من أوله إلى آخره سيجد التأكيد الدائم على حقيقة الابتلاء هذه؛ سيجدها في اختبار آدم وحواء الأول مع الشجرة، ثمّ سيجدها في ابتلاء إبراهيم، ثمّ في ابتلاء جند طالوت، ثم في ابتلاء تحويل القبلة، ثم في ابتلاء معركة أُحد.. وغيرها وغيرها من نماذج الابتلاء..

وسنجد تأكيد حقيقة الابتلاء هذه مطلقا في قوله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2). تبتليه: أي نختبره، ولعلّ في قوله تعالى {فجعلناه سميعًا بصيرًا} إشارة إلى بعض أدوات التعامل مع الابتلاء، فهذا الإنسان سميع؛ يستمع إلى رسالات ربّه على لسان رسله.

وهو بصير؛ يرى آيات الله في الأنفس والآفاق. فهو مزوّد بأدوات اجتياز الاختبار، ولكنّه اجتياز يحتاج إلى جهد، يحتاج إلى إرادة ليكون الاختيار هو اختيار الحقّ، ويحتاج إلى مقاومة غواية الشيطان وضبط شهوات الدنيا، وإلى التعبّد لله ليثبت الإيمان في القلب؛ ليكون الوصول إلى جنّات النعيم ثمرةَ جهد هذا الكائن الذي كرّمه الله ومنحه ما لم يمنح أحدًا من خلقه.. وهل يتوقّع الإنسان أن يُكرَّم هذا التكريم ويُمنح الإرادة وحرية الاختيار دون أن يكون لها ضريبة من الجهد؟!

لا قيمة للاختبار في الحقيقة لو شطبنا كلّ هذه الصعوبات و«العقبات»، يقول تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38).

ما قيمة {فمن تبعَ هدايَ} لو كان الوضع على النحو التالي: لا شيطان ولا شرور ولا أهواء.. لا اختلاف بين البشر والجميع يفكّرون بنفس الطريقة.. كل شيء واضح ولا يحتاج إلى بذل جهد؟!

في هذه الحالة سيسير الجميع نحو مصير واحد.. سيكون الجميع حينها مقهورًا على طريق الهداية، ولن تكون هناك قيمة للعقل وحرية الاختيار التي تميّز بها الإنسان عن بقية المخلوقات؛ لأنّ حرية الاختيار تعني أنّ هناك عدة اختيارات ينبغي «الاجتهاد» للاختيار من بينها، أما إذا كان الجميع سيختارون الشيء ذاته فهم مقهورون وليسوا مختارين!

الحياة الدنيا «اختبار» كما أخبرنا الله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك: 2). ولا قيمة لـ {أيّكم أحسنُ عملا} لو كنّا جميعًا سنقوم بنفس العمل!

إنّ تكريم الله لنا وتشريفنا بالعقل والحرية والإرادة هو الذي جعل وجود هذه الأمور التي تبدو لنا شرورا وصعوبات أمرًا ضروريّا، ولولاها لم تكن هناك قيمة للحساب والجزاء والجنة والنار.

هل سمعتم عن معلّم يُجري لطلبة الرياضيات المتفوّقين اختبارا في حلّ 1+1؟ هل سيكون حينذاك اختبارا حقيقيّا؟!

ولله المثل الأعلى، فإنّ ما يطلبه هؤلاء الكفّار في نموذج آيات الإسراء (90-93) أمور لو تحققت لهم لبَطُل معنى الاختبار الذي كان غاية في خلق الإنسان!

ثم تأتي الآية المرهم.. الآية المطَمئِنة للرسول ولنا جميعًا، إذ يقول له ربنا جلّ جلاله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 96).

وكأنّ الله جلّ جلاله يخبره بألا يقلق، فالقضية عنده سبحانه، وهو بعباده خبير بصير. يعلم سبحانه أنّه إنما وضع فيهم وسائل الهداية بأدواتهم البشرية، وأنّ كل ما يطلبونه في هذه الدعاوى إنما هو باطل لا حجّة فيه. وهي رسالة مناسبة لكلّ مسلم غيّور على دينه يتكلّف فوق ما ينبغي أحيانًا في مناقشة الملاحدة، ويحاول أن يُظهر لهم بأنّ الإيمان بوجود الله هو شيء عقلي بحت وسهل جدّا مثل 1+1 وأنّه يلزمهم الإيمان بذلك حتمًا!

والأمر ليس كذلك، فحقائق الإيمان ليست معادلات رياضية حتمية النتائج، وهؤلاء البشر ليسوا حواسيب تُدخَل إليهم تلك البيانات فيصبحوا مؤمنين بالضرورة: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272).

يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 6-7).

فلأيّ سبب كان هذا الختم؟


الكفر موقف نفسي لا عقلي

القرآن يؤكّد أنّ أساس الضلال هو التكبّر في الأرض بغير الحقّ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 146).

فالقرآن يؤكّد: {وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا}. وفي آية سابقة من سورة الإسراء يتّضح السبب وراء عدم إنزال مثل تلك الآيات الواضحة التي يطالب بها هؤلاء الكفار: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59).

وهذه الآيات على أيّة حال كانت للتخويف كما يوضّح بجلاء {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}، أما أسباب الهداية الكافية فهي متوفّرة للإنسان حتى بدون تلك الأدلة الحسّية الواضحة؛ فالإنسان مزوّد بالهدى الربّاني الذي جاءت به الرسالات، وبكونه مفطورًا على التوحيد، وبالعقل والوعي وحرية الاختيار.

في سياق آخر في سورة النمل، في قصة موسى تحديدًا، يأتي نموذج آخر يؤكّد على أنّ أسباب الضلال هي أسباب نفسية، ففساد القلوب هو المانع الأول للهداية، حتى مع وجود الأدلة الحسّية الواضحة، بل حتى مع اقتناع أولئك الكفار بصحّة دعوة موسى عليه السلام:

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 12-14).


ولكنْ أنفسهم يظلمون!

ثم ينتهي السياق في سورة الإسراء بهذه الآيات:

{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا} (الإسراء: 97-99).

ولعلّ متشكّكا يقول: إذا كان أمر الهداية بيد الله فهي إذن جبريّة ولا خيار للإنسان فيها!

ولكنّ القرآن مليء بما يدحض هذا الوهم، وهداية الله أو إضلاله إنّما هي بسبب ما في تلك النفوس من إرادة الحقّ والسعي إليه، أو إرادة الباطل والاستكبار في الأرض. أي إنّ الإضلال من الله هنا يكون بما كسبتْ قلوب البشر باختيارها الحرّ، والقرآن يؤكّد على هذا المعنى في آيات عديدة:

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّـهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 86).

والله عادل لا يظلِم: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّـهُ وَلَـٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (آل عمران: 117).

والقرآن يؤكّد على مسؤولية الإنسان عن مصيره في الآخرة: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (آل عمران: 182).

وهكذا، يقدّم لنا سياق الآيات في سورة الإسراء (89-99) تفنيدًا راسخًا لإحدى أبرز دعاوى الإلحاد، بدءًا بالمطالبة بالأدلة الحسّية السهلة، وصولا إلى التشكيك بالهدف من وجود تلك «الحواجز» التي تقف بين الإنسان والإيمان بالله.


حتى يكتمل المشهد



حرية الاختيار تعني أن هناك عدة اختيارات ينبغي «الاجتهاد» للاختيار من بينها أما إذا كان الجميع سيختارون الشيء ذاته فهم مقهورون وليسوا مختارين.



هداية الله أو إضلاله إنما هي بسبب ما في تلك النفوس من إرادة الحق والسعي إليه أو إرادة الباطل والاستكبار في الأرض.

غير أنّ المشهد لا يكتمل إلا إذا علمنا أنّ الله رؤوف رحيم بنا.. يعلم ضعفنا كبشر، فيسّر لنا وسائل الهداية بعد أن أرشد إليها:

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 26-28).

قضى سبحانه أنّ مُضيّ الإنسان في درب الهداية يمهّد له السير والارتقاء فيها: «وإن اقترب إليَّ شِبرًا، تقرَّبتُ إليه ذراعًا. وإن اقترب إليَّ ذراعًا، اقتربت إليه باعًا. وإن أتاني يمشي، أتيتُه هرْولةً» (صحيح مسلم).

ومتى ألقى الكافر عن عقله وقلبه أغلال الاستكبار، وخفقتْ حقيقة الإيمان في قلبه وخضع لله العزيز القهّار، متذلّلا على أعتابه راجيا منه الهداية؛ إلا وقد أخذ الله بيده إلى النور، قال سبحانه:

{اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 257).

فليس الإيمان معادلة رياضية تقتنع بها العقول فتلتزمها، وإنما هو حقيقة نفسية يوفّق الله إليها من استجاب لنداء العقل والفطرة ولم يطمسْه باتّباع الهوى والشهوات.. وهل يردُّ اللهُ إنسانًا سار على درب إبراهيم عليه السلام ومضى يبحث عن الله؟

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186).

وإذا لم يؤمن الملحد بعد الإتيان بكل الأدلة والبراهين؟

القرآن يخبرك بأنّه ليس من وظيفتك قهرهم على الهداية، ويحرّرك من شعور الحسرة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8).

فلمْ تُكلَّف بإجبار البشر على الهداية، وإنما كُلّفتَ بالبلاغ المبين، وبجدالهم بالتي هي أحسن.