وظيفة الباحث في الشئون الإسرائيلية أن يُراكم المعرفة، فيشحذ النضال ضد الصهيونية ويهذبه، إلا أن هذه المعرفة لا يمكنها أن تكون هدفاً بحد ذاتها، أو تمتلك قيمة بمعزل عن دورها في خدمة أهداف التحرر والعدالة والحق. لذلك، فإن دراسة الشأن الإسرائيلي لابد أن يلازمها سؤال أساسي ومُلح: من أين نفكر بإسرائيل؟ وحينما يتعلق الأمر بالإعلام، يصبح السؤال: ما هي وظيفة الإعلام الإسرائيلي في منظومته القمعية؟ وكيف يعكس التغيير فيه تحّول أشكال قمع النظام الصهيوني؟

من

مقدمة دراسة

بعنوان «كيف يتغير النظام الصهيوني؟ «نتنياهو والإعلام الإسرائيلي نموذجاً»، للباحث الفلسطيني «مجد كيَّال»


الإعلام المؤسِس

يجب على هذه الصحيفة أن تكون درعًا للشعب اليهودي، وسلاحًا ضد أعداء الشعب.

تيودور هرتزل في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية «دي وولت»، عام 1897

لا عجب أن الشخصية الأبرز في تاريخ الحركة الصهيونية، والذي يُنسب إليه في العادة تأسيسها، كان صحافيًا، منحته دعوة تأسيس وطن قومي لليهود المزيد من الشهرة له ولكتاباته. وعليه فإن الأداة الإعلامية كانت إحدى ركائن المشروع الصهيوني منذ أول أيامه، حيث الترويج للصهيونية والهجرة إلى فلسطين؛ ثم كان إحدى أدوات «الدولة» في مراحل التأسيس والتثبيت.

وليس سراً أنه قبل عام 1948

أنشأت الحركة الصهيونية إذاعة

موجهة للشعب اليهودي، وأخذت تطبع 14 صحيفة بينها 4 ناطقة بالعربية، ومن بين هذه الصحف اثنتان على الأقل تُعد اليوم مرجعاً للأخبار التي تخص إسرائيل في العالم، وهما صحيفتا «هآرتس» و«يديعوت أحرونوت».

وقد صدرت صحيفة هآرتس عام 1919، بينما صدرت صحيفة يديعوت أحرونوت عام 1939، وصحيفة معاريف عام 1948، ومع ذلك لا يمكن حصر الصحف التي صدرت وتوقفت منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.

وقد تأسس الإعلام الإسرائيلي على رموز سُميت بـ «المقومات الشرعية للدولة الإسرائيلية»، وكذلك على «الاعتذاريات والحجج» التي صاغتها الأيديولوجية الصهيونية لتلك الشرعية التي حملت ثلاثة أسس:

  1. شرعية الهجرة والاستيطان، وممارسة السلطة السياسية على فلسطين الأرض والإنسان.
  2. شرعية قيام الدولة الاستيطانية الصهيونية.
  3. شرعية النظام السياسي «المزدوج»، القائم على الديموقراطية، وفي نفس الوقت، قمع وقهر الفلسطينيين.

وقد تبنى الإعلام الإسرائيلي هذه التوجهات وأضفى عليها التحسينات الدعائية، مثل:

  • أن العودة إلى أرض الميعاد هي مبدأ وحق تاريخي.
  • أن اليهود يحملون الرسالة الحضارية وقيم الريادة والإنجاز.
  • أن حق تقرير المصير لليهود هو مبدأ ثابت.
  • أن الأمن القومي هو الآخر مبدأ ثابت.
  • أن إسرائيل هي الوحيدة التي تُمثل الديموقراطية في الشرق الأوسط.[1]

ولا شك أن الإعلام الإسرائيلي كان المسئول الأول عن ترويج العديد من الأساطير والمفاهيم المتناقضة التي اخترقت خطابنا السياسي، وراجت في كافة أنحاء العالم. فهو من أزال الحدود بين الصهيونية واليهودية، وذهب إلى أن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية، بل وللإنسانية جمعاء. كما أن تمّكن من التغطية على حالة الأزمة التي مرّت – ومازالت تمر بها – بها الصهيونية.[2]


الإعلام المُوجَه

كان بن جوريون يعتقد أن

وظيفة الإعلام الإسرائيلي

هو الدفاع عن المشروع الصهيوني؛ فقد قال في فترة الانتداب البريطاني:

في هذه الساعة نحن بحاجة إلى رقابة حرة ومخلصة؛ ولكن علينا الحذر؛ يجب علينا أن نزن أقوالنا وعدم إعطاء العدو معلومات أو زرع الفتنه والفوضى في شعبنا، وعدم الاستسلام.

ومن ثَمَّ أسس، عند إعلان تأسيس إسرائيل، ما يُسمى بـ «هيئة رؤساء تحرير الصحف» التي ضمت كافة رؤساء الصحف المستقلة والحزبية، آنذاك، وقد تم اعتبارها إحدى أذرع الموساد الإسرائيلي، حيث قامت بمهام الرقابة المحكمة على الإعلام الإسرائيلي؛ وكانت تتلقى المعلومات من كبار المسئولين، كرئيس الحكومة والأجهزة الأمنية، حول ما يجب نشره في الإعلام.

ويرى اليوم بعض الإعلاميين والساسة أن دور «هيئة رؤساء تحرير الصحف» قد انتهى؛ لأن دورها كان تثبيت المشروع الصهيوني، وإخفاء أسرار ومعلومات عن العدو؛ واليوم إسرائيل قوية؛ ما يسمح لها بالتحرر من تلك القيود بشكل أكبر؛ ولكن حتى اليوم؛ بقي الإعلام الإسرائيلي مقيدًا بالسياسة الإسرائيلية الموحدة، وخصوصًا في حالات الحرب وشن عدوان على العرب



مع قيام إسرائيل، تم تأسيس ما يُسمى بـ «هيئة رؤساء تحرير الصحف» التي ضمت كافة رؤساء الصحف المستقلة والحزبية، وقد تم اعتبارها إحدى أذرع الموساد الإسرائيلي.

وتزخر إسرائيل بالصحفيين المرتبطين مباشرة بالأجهزة الأمنية أو رئاسة الحكومة أو الاستخبارات، كما أن الكثير ممن يعملون في الصحافة والإعلام الإسرائيلي كانوا جنوداً في السابق وأصحاب خبرة في الشأن العسكري، وهم يتعاملون بهذه الخلفية مع الشأن الإعلامي.

وتتميز

الرقابة على الإعلام

في إسرائيل بأنها نموذج لتسخير الإعلام لخدمة المعركة، الأمر يتضمن قائمة المواضيع التي يخطر التطرق إليها إلا بموافقة الرقيب العسكري. وهناك دائرة إعلامية كبيرة مختصة بالجيش تُمثل همزة الوصل مع الصحفيين الأجانب بشكل خاص أو بشكل مباشر أو من خلال التمرير من خلال الإعلام المحلي.

ومن أبرع الأساليب المستخدمة توظيف المصطلحات لخدمات التوجيهات الإعلامية الإسرائيلية. من المصطلحات: الفلسطينيون (مع إلغاء صفة الشعب بالكلية)، جيش الدفاع الإسرائيلي، منطقة الحكم الذاتي، الأراضي المتنازع عليها (الضفة الغربية وغزة). كما طمست أسماء المدن الفلسطينية بالكامل وتحويلها إلى، مثلاً تل أبيب (تل الربيع سابقاً)، مصطلح المخربين (المقاومين)، حائط المبكى (حائط البراق)، جبل الهيكل (جبل بيت المقدس).


حروب إسرائيل الإعلامية الحديثة

الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000

في كتابه «خارج الإطار: القمع الأكاديمي والفكري في إسرائيل»، خصّص المؤرخ الإسرائيلي «إيلان بابيه» فصلاً كاملاً للحديث عن عسكرة الإعلام الإسرائيلي، وأفاض في حديثه حول سلوك الإعلام في تغطية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

خارج الإطار، إيلان بابيه

خارج الإطار، إيلان بابيه

ذكر بابيه أن المادة المُذاعة في التلفزيون الإسرائيلي حول أحداث الانتفاضة لم تكن تستند إلى ما كان يَرد من الميدان، عبر المراسلين، إلى مكاتب التحرير. بل على العكس، كانت تُبذل جهود شاقة للانتقاء والتشويه لكي تتماشى المواد الجديدة مع الصورة المرغوبة للحقيقة. وأكّد أن النتيجة النهائية، فيما يخص اللهجة وانتقاء الأخبار، كانت تتعارض تعارضاً صارخاً مع ما كان ينقله المراسلون من الأراضي المحتلة. وقد أدت أساليب التضليل والتعمية التي كانت تتّبعها هيئات التحرير في وسائل الإعلام إلى تحويل صحافة وتليفزيون إسرائيل إلى واحدة من أكثر من وسائل الإعلام المحلية تحيزاً في العالم، فقد كانت تُقدم صورة مشوهة إلى قرائها ومشاهديها ومستمعيها.

وكانت وسائل الإعلام تتصرف على ذلك النحو مدفوعة بالكراهية والخوف الجهل. لكنها، في المقام الأول، كانت أيضاً تتبنى روايات وتفسيرات الحكومة والمؤسسة العسكرية دونما تمحيص. وبعد مضي بضع سنوات على اندلاع الانتفاضة الثانية، لم يكن بالإمكان العثور على أي رواية بشأن سبب اندلاع العنف مضادة للرواية التي قدمها الجيش: كان التفسير الإسرائيلي الرسمي هو التفسير الوحيد الذي تنامى إلى أسماع الإسرائيليين.

يكشف بابيه أنه خلال الانتفاضة الثانية، وتحديداً خلال عملية «الدرع الواقي»، وهي إعادة احتلال معظم أراضي الضفة الغربية في أبريل/نيسان 2002، مُنع المراسلون الأجانب من تغطية الأحداث بالصورة المناسبة، بل أصبحوا هدفاً لمضايقات الجيش وإزعاجاته.

وعلى المستوى الإعلام المحلي، كانت الرغبة في الاقتصار على نقل ما يوافق عليه الجيش تؤدي أحياناً إلى اقتراف أخطاء في مجال العلاقات العامة، وهو ما حدث في مارس/آذار 2002، في آخر عملية كبرى نُفذت قبل عملية «الدرع الواقي»، عندما اقتحم الجيش مخيماً للاجئين في مدينة طولكرم الفلسطينية.

فقد دعا الناطق باسم الجيش الإسرائيلي طواقم التلفزيون الحكومي ومراسلين عسكريين مُخضرمين لمرافقة الجيش أثناء تنفيذ العملية، بأمل إبراز ما يُدعى «الوجه الإنساني» للجيش الإسرائيلي.

لكن الصور المقربة للجنود وهم ينهالون بالمطارق على جدران المنازل للنفاذ إلى منازل أخرى، ويثيرون فزع النساء والأطفال، ويذّلون الرجال، ويُدمرون كل ما يعترض طريقهم، لم تتماش مع التعليقات التي كانت تتحدث عن عملية جراحية تهدف إلى تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين الأبرياء.

تعلم الجيش حينها درساً بليغاً؛ وفي الشهر التالي، خلال عملية «الدرع الواقي»، لم يسمح الجيش الإسرائيلي لعدسات التلفزيون، ولا حتى تلك التابعة لقنوات صديقة، بمرافقة قوات الجيش إلى مخيم جنين، لم يُسمح سوى بوجود المراسلة الحربية لمحطة إذاعة إسرائيل، كارميلا مناشي، وكانت تقرأ على الهواء مباشرة نصوصاً جاهزة يقدمها لها القادة العسكريون.

ويشير بابيه إلى أن من السخرية أن يكون لضباط الجيش من ذوي الرتب العالية – والمتشددين دينياً – حضور متنام ومستمر على شاشات التلفزيون الإسرائيلي. مع العلم أن أولئك الضباط، أثناء الانتفاضة، كانوا مسئولين مباشرة عن تنفيذ الأعمال الثأرية في الأراضي المحتلة. كما قاموا بدور أكثر مركزية في عملية «الدرع الواقي». كان أحد أولئك الضباط «رون شِخنر»، قائد القوات المُحاصِرة لمقر عرفات، في رام الله. كما كان شخنر، ولا يزال، يحظى بشعبية ويشارك في البرامج التلفزيونية والإذاعية، حيث يظهر بمظهر الخبير «المحايد الذي يتمتع بالحرفية».[3]

حرب لبنان 2006



أدت أساليب التضليل والتعمية التي كانت تتّبعها هيئات التحرير في وسائل الإعلام إلى تحويل صحافة وتليفزيون إسرائيل إلى واحدة من أكثر من وسائل الإعلام المحلية تحيزاً في العالم.

كانت «حرب لبنان الثانية» عام 2006، بحسب التسمية الإسرائيلية، نموذجًا صادقًا للإعلام العسكري في القرن الواحد والعشرين، حيث أيّد بشكل مطلق وتام الحرب ومبرراتها، ووقف موقفاً صلباً خلف صانع القرار في تل أبيب.

وفي الثلاثين من تموز عام 2007، عرض مركز «كشيف»، مركز حماية الديموقراطية في إسرائيل،

تقريراً بعنوان

: «وسائل الاعلام الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية»، كان مُعبِراً وموضوعياً في مقاربته، وجاء فيه:

باستثناء حالات نادرة وشاذة عن القاعدة العامة، غطت وسائل الإعلام المركزية الحرب بصورة شبه مجندة تماماً. وانسحب ذلك على العديد من الحالات التي جلب خلالها مراسلو الوسائل الإعلامية الميدانيون مواد إخبارية اشتملت (على حقائق) كشف النقاب عنها في التقرير النهائي للجنة فينوغراد (لتقصي حقائق الحرب وإخفاقاتها). لقد جرى تهميش هذه المواد ضمن التقارير عند تحريرها… وقد أوجدت وسائل الإعلام الإسرائيلية مناخاً عاماً من التأييد الكامل والمطلق للحرب ولعدالتها، وأقصت بصورة منهجية علامات الاستفهام التي طرحت منذ اليوم الأول لاندلاعها، من خلال تهميشها. مع هذا، فقد ظهرت مواقف نقدية إزاء حالات تكتيكية لإدارة الحرب، تعاظمت مع الاقتراب من النهاية، وبعدما اتضح بصورة جلية أن الجيش الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه.


المراجع



  1. عاطف عودة الرفوع، “الإعلام الإسرائيلي ومحددات الصراع: الصحافة نموذجاً”، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004. ص ص 55-56.
  2. عبد الوهاب المسيري، “الأكاذيب الصهيونية: من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى”، القاهرة، دار المعارف، 2002. ص 5.
  3. إيلان بابيه، “خارج الإطار: القمع الأكاديمي والفكري في إسرائيل”، بيروت، شركة قدمس للنشر والتوزيع، 2014. ص ص 63-71.