محتوى مترجم
المصدر

Politics, Religion & Ideology
التاريخ
2016/05/02
الكاتب
أسامة مقدسي

تنتقدُ الأنثربولوجية صبا محمود في كتابها «الاختلاف الديني في عصر علماني: تقرير حول الأقليات»، العلمانويةَ وذلك في سبيل «الحد من آثارها التمييزية» (ص٢٢). يقدّم كتابها أطروحةً مزدوجة: أولاً، يحاجج الكتاب، واضعًا مجموعة من الحجج المطوّرة سلفًا على يد طلال أسد، بأن «العلمانوية السياسية» ليست مشروعًا محايدًا يفصلُ، بموضوعية، الديني عن العلماني والخاص عن العام. فبالنسبة إلى محمود، تشوّش سلطة العلمانوية مدى كونها تبزغ بالأساس من تاريخ أوروبي بعينه، وتحجبُ إلى أي حد كونها مشروعًا سياسيًا وثقافيًا وقانونيًا وهرمنيوطيقيًا مخضّبًا بالعنف والتمييز، وهو المشروع الذي يكرّس ويخلقُ و/أو يُحيي الاختلاف الديني في العالم الحديث.

ثانيًا، فإن هذه العلمانوية السياسية، أو ما تسميه المؤلفة على نحو متعدد تارةً «المشروع العلماني» (ص٤)، وتارةً «الدولة الليبرالية الحديثة» (ص١١)، وأخرى «الدولة الليبرالية» (ص٢٠٨)، ومرة «الحوكمة العلمانية الحديثة» (ص١)، وأخرى «العلمانوية الليبرالية» (ص٦٨)، قد أصبحت في الواقع كونية بقدر ما تقتضي «شكلاً من أشكال البَنْينة السياسية-القومية المنتظمة حول مشكلة الاختلاف الديني، وهي مشكلة يأخذ حلها أشكالاً مماثلة بصورة لافتة عبر السياقات الجغرافية» (ص١٠). فـ «هناك خطاب سياسي عالمي يمارس قوة جامحة على مخيالنا الجمْعي» (ص٢٣).

والحال أن الأجزاء الأكثر غنًى في الكتاب هي تلك الأجزاء التي تشير إلى الأبعاد التنظيمية للدول الحديثة. تُذكّر هذه الأجزاء القراء بعدم وجود الحيادية في الدول التي تشدد على حرية المعتقد الديني، وبطغيان المعايير الأكثروية، وبالقمع والتمييز اللّذيْن تواجههما الأقليات في كل من أوروبا (الأقلية المسلمة تحديدًا اليوم، والأقلية اليهودية في الماضي القريب) والشرق الأوسط (الأقباط والبهائيون في مصر الذين تركز محمود عليهم في كتابها). تُشدد محمود على أن الدليل التاريخي من الشرق الأوسط «قلما يؤدي الغرض كأرضية للتفكير النظري حول طبيعة العلماني» (ص٦٤).

مُشدّدةً على الحجة المتعلقة بالسلطة المخاتلة للعلمانوية الحديثة، تستعمل محمود الإمبراطورية العثمانية ما قبل الحديثة المتعددة دينيًا والتمييزية بوضوح كتحدٍّ للدولة الحديثة العلمانيّة. وتشدد محمود على أن الدولة العثمانية كانت «مبسوطة اليد تمامًا» في إشهار «هيمنة الإسلام الدينية والثقافية» (ص٣٧). وتلاحظُ، مقتفيةً أثر أنفر إيمون (Anver Emon)، أن التسامح المشروط للمسيحيين واليهود كان «أداة قانونية للاحتواء السياسي لغير المسلمين داخل الإمبراطورية بقدر ما كان تعبيرًا عن مكانتهم القانونية والمذهبية المتدنية» (ص٣٧). وتؤكد محمود أن «الخطاب الحديث للسيادة الشعبية والحكومة التمثيلية [خلافًا للنظام العثماني] بينما بُني على مبدأ المساواة لكافة المواطنين، إلا أنه أيضًا يمكّن لشوفينية أكثروية لا مثيل لها تاريخيًا في عنفها وفرادتها» (ص٧٣).

صعقتني هذه الأحكام بسبب اعتباطيتها (arbitrary). فمن الممكن أن يكون العثمانيون عنيفين، وكانوا بلا رحمة حيال أي مجموعةٍ تحدّت، أو ظُنّ أنها تتحدى، سلطتهم. علاوةً على ذلك، غالبًا ما كان الاستقلال الملّي يُقام على قمع التنوع والمساواة والتعددية الشرعية داخل جماعات معينة. غير أن إشارة محمود البالغة هي أن الحماية الأوروبية للمسيحيين العثمانية كانت أداةً في خلق مشكلة الأقليات في الشرق الأوسط، في الوقت نفسه الذي بترت فيه العلمنةُ العثمانيةُ الاستقلاليةَ المليةَ لشتى المجموعات غير المسلمة. تلخص محمود جزءًا رئيسًا من حجتها عندما تقول إن «الجذور الحديثة للنزاع الديني تنتمي إلى تاريخ العلمنة كما إلى إرث الحكم الإسلامي مناصفةً» (ص٦٤).

ربما يكون الأمر كذلك، بيد أن مناقشة الكتابة للقرن التاسع عشر المحوري عندما أُعلنت مساواة المسلمين وغير المسلمين في عام ١٨٧٦ ليست بمقنعة تمامًا. ويلقي الكتاب بالمسؤولية بسبب نزاعات العنف الطائفي والقومي بنسبة كبيرة جدًا على «المجموعات الوحدوية» (ص٣١) أو ما يسمى «الرعايا المسيحيين المعارضين» (ص٤١)، وبنسبةٍ أقل على الدولة الإمبراطوريّة التي رفضت، أو لم تكُ قادرةً، أن توفق بين خطابها عن الامتياز والتفوق الإسلامي مع التزامها، في الآن نفسه، باللاتمييز والمساواة الدستورية. والحال أن هذا الرفض – الواضح قبل ظهور أي حس بالسياسة الأكثروية في الشرق الأوسط- يبدو أنه لا يلقى الكثير من الاهتمام في الكتاب كما النقد القوي للعلمانوية غالب الوقت.

يتعلق هذا الكتاب، في أحسن ما يكون، بجينالوجيات معقدة – فمحمود مثلاً بارعة في إلقاء الضوء على دور قانون الحرية الدينية الأمريكي (IRFA) في التعبئات لأقباط المهجر بالولايات المتحدة. ومع ذلك، يبدو الكتاب في أحيانٍ أخرى يأخذ ما أراه أنا باعتباره خطًا أكثر استفزازيةً وإشكاليةً: أي أن يصبح العرب العلمانيون الأهليون وكلاء لمشروع علماني مطور بالأصل على يد مسيحيين غربيين. وبالتالي، فالمثقفون المصريون «يتبنون» (ص ٧٩) تصورًا غربيًا مسيحيًا للعلمانوية. تكتب محمود بأن المبشرين البروتستانت قدموا إلى الشرق الأوسط «متبنين تصورًا مُخصْخصًا للدين الذي كان الفرد، وضميره، وتجربته الشخصية هي الموضع المناسب له» (ص٤٤).

بالطبع، إلى هذا الحد، فهم قاموا بذلك بالضبط، لكن ما الذي علينا استنتاجه من حقيقة أن المبشرين الأوائل الذين وصلوا إلى بلاد الشام العثمانية كانوا ألفيين (millennialist) متحمسين ومعادين للتنوير ومهوسيين بالخلاص؟ فطبيعة تبشيرهم والآثار المترتبة عليه قد تغيرت بشكل عميق نتيجة اتصالهم وتجربتهم في الإمبراطورية العثمانية نفسها، كما تغيرت المجتمعات المحيطة بهم.

تلاحظ محمود أن «المفهوم المُفردَن للحرية الدينية أخفق في كسب جاذبية كبيرة في أوساط المسلمين العاديين ومسيحيي الشرق الأوسط لدرجة أنه أصبحَ محجوبًا في قوانين المنطقة» (ص٤٧). بيد أن كثيرًا من العرب العاديين والنخبويين قد تبنوا، في واقع الحال، تصورًا مُفردنًا للحرية الدينية وتصورًا جماعويًا، مثلما أن كثيرًا من المبشرين كانوا مهتمين بالحرية الدينية بصورة أقل من اهتمامهم بالتأسيس والسيطرة على مؤسسات للتعليم العالي التي لم يفكروا بها أصلاً.

يُستخدَم التاريخُ في الكتاب لنقد الخطاب التحرري (emancipatory) للعلمانوية، وليس للتنقيب في ميثولوجيات الهويات المِلية والدينية والعنصرية والقومية. وبإصراره على أن «العلمانوية الليبرالية» ما تزال «غير مبالية للتطلعات الملية» (ص٥١)، فإن الكتاب يشير إلى تبارٍ بين شكلين من أشكال الأصالة (authenticity)، هما: شكل غربي مسيحي عرف ماهية العلمانوية وصبغها بطابعٍ كوني؛ وشكل إسلامي عثماني مِلّوي سحقته العلمانوية. تكتبُ محمود أنه كان هناك «مواجهة حضارية بين المسيحية والإسلام تستدعي، بالنسبة إلى مصريين كثر، التاريخ الطويل للهيمنة التبشيرية والكولونيالية في المنطقة» (ص ٦٨، التشديد من عندي).

إن الاهتمام المستمر المصروف للانتماء الديني والمِلي هو معطى لا مفر منه في ضوء موضوع الكتاب، غير أن هناك لحظات معينة في السرد، عند وسْم المصريين والعرب الآخرين باستمرار باعتبارهم ينتمون إلى معتقدٍ أو آخر، تخفي كيف نظروا إلى عالمهم وهوياتهم من نواحٍ معقدة وعبر أكثر من زاوية واحدة. فعلى سبيل المثال، تكتب محمود أن سمير مرقص، القومي المصري، «يزعم أنه يتحدث لا كقبطي بل كمصري، إلا أنه يظل في نظر جمهوره المسلم قبطيًا» (ص٩٠). فمن غير الواضح أي جمهور مسلم الذي تتم الإحالة إليه، وعلى أي أساس يتم إصدار هذا الرأي. وفي هامش عند إشارة محمود إلى القوميين العرب العلمانيين المشهورين خارج مصر، فإنّهم يُوصَفون باعتبارهم «مسيحيين في سوريا».

يجب على كافة الباحثين أن يحدوا من نطاق تحليلاتهم، وقد اختارت محمود أن تشتبكَ مع جوانب حيوية من «المحلي» ومع جوانب من التاريخ الأوروبي. ولكن الكتاب، بعدم تركيزه مطلقًا على العراق وسوريا أو، ولعله الأكثر إثارةً للدهشة، لبنان – نظرًا إلى بُنى لبنان السياسية الملية الدينية المعقدة – أقول إن الكتاب يتحاشى كافة الحالات في الشرق الأوسط التي لا تتعلق بطغيان المعايير الأكثروية.

ففي أي من هذه الدول (أو في الخليج)، لا يمكن لسيرورة تفكيك الاستعمار والتحديث والعلمنة أن تُقسَّم بصورة واضحة إلى ما تعتبره محمود إحدى المشاكل الكبرى للعلمانوية: أي تظاهرها بالحيادية الدينية المصاحب لتنظيمها للاختلاف الديني الذي يمنح الامتياز للمعايير الأكثروية على حساب الأقليات. وبالفعل، نادرًا ما يعطي الكتابُ سياساتِ الدولة السلطوية أو القومية أو الاقتصاد السياسي اهتماماً مركّزًا من أجل شرح ظهور دينامية السياسة الطائفية في مصر. بدلاً من ذلك، غالبًا ما يتم إدخال مناقشة محددة لمصر في نقاشٍ لـ «بنية المواطنة الليبرالية» (ص١٠٦)، أو «الدولة العلمانية الليبرالية» (ص٨٠) كما لو كانت مصر دولةً كهذه. إن المصريين في هذه اللحظات يبدون كأقل من أناس يشكلون نقاشًا له تاريخه الخاص والمكثف، ويبدون كأكثر من مخبرين محليين دورهم الرئيس أن يشرحوا نقاشًا نظريًا للآخرين.

والحال أنه إلى وقت أن توفر محمود بديلاً لما تعتبره هي «تعاليًا علمانيًا-بروتستانتيًا» (ص٢٠٧)، فإن هذا التعالي نفسه يكمن في دعوتها إلى «مساواة بين-دينية» قد يتم إنجازها عن طريق ما تصفه هي بـ «التموضع الإيتيقي» (ص٢١٣) للاختلافات الدينية. لكن «المساواة البين دينية» هي تحديدًا ما استقر عليه معظم المحافظين من المبشرين، وكما كثيرًا ما يشرح كتاب محمود بقوة، فإنه شيء لا مشكلة لدى جماعة الإخوان المحافظة والكنيسة القبطية معه طالما أن الإيمان هو من النوع الصحيح. وما تزال إزالة الغموض عن مزاعم التسامح في الدول الغربية والعلمانية بقوة مشروعًا نقديًا جوهريًا. ولكن، في مشهد العالم العربي المُنهَك والمُطيَّف [من الطائفية -م]، فإن إبطال الأمل في الإمكانية التحررية للمواطنة العلمانية يثير سؤال كيف لنا أن نتخيل مبدأ المساواة، ناهيك عن سَنّه.