تُرى ما الرابط الذي يُمكن أن يجمع بين «عماد مغنية» -القيادي العسكري في حزب الله، والذي تم اغتياله في دمشق في فبراير 2008-، و«طراد حمادة» -وزير العمل اللبناني السابق، والمقرب من حزب الله- ، و«أنيس النقاش» -الفلسطيني الذي كان مناضلا في حركة فتح منذ سنوات السبعينات-، و«خليل عكاوي» – قائد حركة «المقاومة الشعبية» في حي باب التبانة بطرابلس اللبنانية، والذي أسس لاحقا «حركة التوحيد الإسلامية»، مع مثقفين وكتاب كـ «سعود المولى»، و«حازم صاغية» و«روجيه عساف» ؟ما يجمع هؤلاء جميعا أنهم قد انتموا -على الأقل في فترة من فترات حياتهم- إلى ما يُصطلح علي تسميته بالإسلام السياسي، وأنّهم من قبل ذلك كانوا جزءًا من الحركة اليسارية الماوية في لبنان إبان الحرب الأهلية، أو ما اصطلح علي تسميته بـ«الكتيبة الطلابية» لحركة فتح، في حالة صاغية فقد كان جزءا من منظمة العمل الشيوعي في لبنان- أي أنهم قد انتقلوا من مصاف اليسار إلى صفوف الإسلام السياسي،ما قد يبدو بعين البعض رحلة من النقيض إلى النقيض.في دراسة بعنوان «من بكّين إلى طهران، يولّون وجوههم شطر القدس»، والتي

ترجمتها

مكتبة الإسكندرية ضمن سلسلة مراصد بعنوان «اليسار المتحول للإسلام، قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح»، يحاجج الفرنسي «نيكولا دوت بويار» بأن منطقة الشرق الأوسط -بما فيها من مركزية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتأثير الطارد للمسألة الفلسطينية، واستمرارية المسألة الوطنية، ومنطق العالمثالثية المتفشي، تلك المنطقة قد شهدت حدوث حالات فريدة من الانتقال السياسي قد يظنها البعض نماذج للقطيعة السياسية والأيديولوجية، لكنها أكثر تعقيدا من ذلك، إذ لا تمثل قطيعة حقيقية بل استمرارية لجوهر راسخ -يسمّيه «الأيديولوجيا الضمنية» ، ويفرد له خصائص معينة نناقشها لاحقا- لكن بوجوه أخرى، ويضرب مثلا لذلك بحالة الكتيبة الطلابية لفتح.


قصة الكتيبة الطلابية

كانت الكتيبة الطلابية لحركة فتح عام 1974 نتاجا للجمع بين اتجاهين: مجموعة الطلبة اللبنانيين الذين تأثروا بالماركسية الماوية، حيث سياسة الانغماس في الشعب علي مفهوم خط الجماهير، فأسسوا مجموعة ماوية سموها «نواة الشعب الثوري»، والمجموعة الثانية، هم قادة فتح ذوو النزعة اليسارية والذين عارضوا الخط الجديد لياسر عرفات نحو القبول بمبدأ حل الدولتين.أي أن الكتيبة كانت في بدايتها نموذجا يساريا مثل ثمرة للالتقاء بين الرغبة في إعادة توجيه الحركة الوطنية -الفلسطينية خصوصا والعربية عموما – نحو اليسار المناهض للامبريالية، وبين الافتتان العميق بالتجربة الماوية والثورة الثقافية الصينية واتجاهات «الانغماس الشعبي» لدي اليسار البروليتاري.يروي المفكر اللبناني سعود المولى في حديثه عن نشأة الكتيبة


التحول نحو الإسلاموية

فشل النماذج اليسارية

وكما يروي «منير شفيق» قائد الكتيبة سابقا في حوار حديث عن ظروف نشأتها:

كنت أعتقد في هذه المرحلة أنه يجب إيجاد توليفة للتحرر داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، بعيدا عن الاتحاد السوفيتي، المعسكر الشيوعي كان قد فضل تقسيم فلسطين عام 1948، إذن بالنسبة لي الاتحاد السوفيتي كان يمثل خطرا على المصالح الوطنية الفلسطينية.

جاء الإيحاء من كفاحات التحرر الوطني وحركات اليسار الجديد خارج الاتحاد السوفيتي، الماركسية في آسيا، الصينية والفيتنامية كانت مصدر اهتمام لنا، لقد كانت ماركسية تأقلمت مع المجتمع في آسيا، كانت أقل غربية .. الاتحاد السوفيتي لم يعد بإمكانه أن يصبح نموذجا لنا، لقد كان في عمقه جزءا من هذا النظام الإمبريالي

مع نهاية السبعينات، كان عالم سياسي بأكمله في طريقه للانهيار، أضحي المعجم الذي تستقي منه السياسة الماركسية مفرداتها غير قابل للاستمرار بذات الحيوية، بدأت موجة ثورة الشباب بالتعثر علي المستوى العالمي، فشلت الثورة الثقافية التي كانت قد أطلقت في الصين في أوائل الستينات، وتوفي ماو تسي تونغ عام 1976 وبدأت موجة التطهير داخل الحزب الشيوعي الصيني ثم انطلقت حالة التطبيع في الصين، ثم اندلعت الحرب الفيتنامية الصينية لتدفن ما تبقى من أحلام الشيوعية الأممية النقية، وتترك الماويين العرب شاعرين باليتم السياسي إزاء فقد النماذج الملهمة.ذلك اليتم من حيث النموذج قد عززه انهيار صورة الاتحاد السوفيتي التي تحولت إلى محض ديكتاتورية مقنعة برداء الاشتراكية، وجاء التدخل السوفيتي في أفغانستان في سبتمبر من عام 1979 ليمثل ضربة قوية لاشتراكيي العالم الثالث، فبين العار والحيرة، لم يكن الحال هنا يتعلق «بإمبريالية غربية رأسمالية» يسهل تنميطها ضمن السياق المعهود، بل إننا نتحدث عن غر تقوده البلد الزعيم لمعسكر الاشتراكية بغية استتباع بلد مسلم للفلك السوفييتي.لقد مثلت المعطيات السابقة مبررا كافيا لفجيعة الكتيبة في المعجم السياسي الماركسي، ويبدو أنهم قد راحوا يتطلعون بشبق إلى معجم آخر بإمكانه التعبير عن ذات المعاني التي تملكتهم، معاني «الأيدلوجية الضمنية» كما يسميها «بويار»، أي أيديولوجيا التحرر الوطني، ومناهضة الإمبريالية، وخط الجماهير الذي يرنو إلى الانغماس في صفوف الشعب، وفيما كان هؤلاء يتخففون من رداء اليسار، كان ثمة نموذج يلوح في الأفق، وثمة صانع آخر يصوغ رداءً سيروق لأعضاء الكتيبة – إلى حين على الأقل- كان هذا الشخص هو «آية الله الخميني» الأب الروحي للثورة الإيرانية.

الثورة الإيرانية

بالنسبة لعدد كبير من المناضلين العرب، فقد مثّل نموذج الثورة الإيرانية إلهاما خاصا، فقد أدرجوها ضمن استراتيجية شاملة تتعلق بتطوير طريق وطني، محلي وفعال ومتجذر في السياق الاجتماعي والثقافي الخاص به، ومثلما جاء استلهامهم لليسار الآسيوي نتيجة لأن الأخير كان قد ابتكر طرقا جديدة، محلية تماما، وبدت فعالة جدا لممارسة السياسية والتحرر الوطني، فقد نظروا للثورة الإيرانية، باعتبارها نموذجا قد نجح في رسم مسالك جديدة أكثر تأقلما مع السياق العالمثالثي عموما، والإسلامي خصوصا.نجحت ثورة الخميني في الاستحواذ -مؤقتا علي الأقل- علي المفردات الكلاسيكية التي كانت حكرا علي معجم اليسار، مناهضة الإمبريالية، الانقسام شمال-جنوب، مركزية الإنسان المضطهد، ثم أنها أضافت أنها أسلمت تطبيقاتها، وفضلا عن ذلك، ويبدو أن هذا قد كان سبب الانبهار الفعلي بها من قبل منتسبي الكتيبة، أنها كانت تعطي مثالا حيا، ومحليا، وشديد القرب الجغرافي والثقافي، لفكرة دخول «الجماهير» إلي مسرح السياسية، فكرة التعبئة الشعبية التي تغير مسار التاريخ، وهي الأمر الذي كان بشدة يستهويهم في النموذج الماوي. أي أن الشعور القومي العالمثالثي، والرغبة الثورية، هو الذي سمح بانتقال هؤلاء من الماركسية إلي الإسلاموية، جاءت دوافع الانتقال سياسية ابتداء، قبل أن يتم تعزيزها بقناعات وقراءات دينية ربما تكون قد لعبت دورا في تجذير الشعور الوجداني، وتأصيلات ثقافوية مزجت بين المفاهيم الماركسية -كمفهوم الهيمنة عند أنطونيو غرامشي- والمفاهيم التراثية الإسلامية -كمفهوم العصبية عند ابن خلدون-.وكما يروي منير شفيق:

الثورة الإيرانية أظهرت أنه يمكن أن يكون هناك وسيلة لمناهضة الإمبريالية خارج المعسكر السوفيتي والأمريكي. قوتها أنها أحدثت انقطاعا في هذا الاستقطاب الثنائي التاريخي ووجدت طريقا للمستضعفين.

انطلاقا من هذا البعد السياسي ولد البعد الشخصي، هناك شيئا أحسست به بعمق، وكان جديدا، هو أن الإسلام كان هنا، وأنه يمكنه أن يكون موردا شعبيا بامتياز، وهنا تغيرت وجهة نظرنا تماما على المستوى الشخصي.


مسارات التشظي: ما بعد انهيار النموذج الملهم

لنقل إننا كنا ماركسيين لينينيين ماويين، الماوية هي التي كانت سببا في هذا الانتقال … مصطلح خط الجماهير في الماوية، وضرورة الاقتراب من الجماهير،والاستماع للجماهير، وإعادة تشكيل إدراكات الجماهير، كل هذا التقليد في الثورة الثقافية الصينية بشكل خاص، قادنا إلى مغادرة أحزابنا وحركاتنا اليسارية الخاصة بنا لإنشاء شيء آخر

لاحقا، ومع تطور الأحداث في الداخل الإيراني، واندلاع الحرب العراقية -الإيرانية، وقيام جناح الخميني بالقضاء المبرم على اليسار الماركسي والإسلامية – الماركسية في إيران، أدي ذلك إلى تراجع الافتتان الأولي بثورة الخميني، وكما يروي «بويار» على لسان روجيه عساف،المسيحي الذي تحول إلى الإسلام، يحكي الأخير خيبة أمله حين زار طهران بعد الثورة

وجدت هناك شيئا كنت أتقزز منه حينما كنت ماركسيا: مذهب التسيير، ومنطق الحزب، ليس فقط على مستوى الممارسة السياسية بل حتى على مستوى الفن، نفس الصور،العنف، الدم،القومية، تمجيد الزعماء ، قلت هذا للأصدقاء الإيرانيين وقد صُدموا.

يتحدث بويار عن ثلاثة مسارات اتخذها منتسبو الكتيبة فيما بعد تحولهم إلى الإسلاموية، منهم من ابتعد عن المجال السياسي بعد أن شعر أنه لا يترك له هامشا للحركة في ظل هيمنة الفاعلين الدوليين علي الساحة، واحتفظ بـالإسلاموية كممارسة شخصية، كروجيه عساف وسعود المولى، ومنهم من التزم بخط سياسي مطعم بدرجة من البراجماتية كمنير شفيق وأنيس النقاش، ومنهم من اختفى نهائيا عن الساحة مؤثرا أن يحمل بين أتباعه لقب «الشهيد»، مثل خليل مكاوي، ليظل يمثل النهاية المنطقية للاستحالة، أو الحلم المجهض كما يصف بويار.تشتت الكتيبة وتفرعت، فساهم أعضاؤها في نشأة الحركة الإسلامية وحزب التوحيد، على المستوى السني، وشيعيا فقد توجه البعض نحو الحركات التي شكلت فيما بعد حزب الله وحركة أمل، حتي في فلسطين البعض واصل تجربة الكتيبة بدفع من منير شفيق وشكلوا سرايا الجهاد الإسلامي التي كانت مدعومة من ياسر عرفات.يبقى أن نذكر أن بويار قد اعتبر في سياق تتبعه لمآلات ومسارات منتسبي الكتيبة، أن «الأيديولوجيا الضمنية» قد تمثلت لاحقا في خطاب الممانعة، فخطاب الممانعة الذي يخترق الجميع من الإسلام السياسي مرروا بالقوميين وحتى اليسار الماركسي، فيما يطلق عليه هو «لاهوت الممانعة»، أما نحن فنضيف أن هذا النموذج لم يعد صالحا للتفسير في عالم ما بعد الثورات العربية، إذ صارت الخطابات تدور حول مركزيات أخرى، وصار التقسيمات تجري على خطوط تمايز تختلف جذريا عن الثنائيات التي كان يستدعيها خطاب «الممانعة» قبل الثورات.يبقى أن نؤكد أخيرا أن «الكتيبة الطلابية» كانت تأثيرها هامشيا ومحدودا بالنسبة لمسار حركة فتح نفسها ، ولم يكن يعنينا ابتداء الحديث عن موقعها وتأثيرها في الحركة بقدر ما نعتبرها «دراسة حالة» تبين ديناميكيات وميكانيزمات الانتقال السياسي والتحول الفكري، لا من حيث هو قطيعة مع التجارب السابقة، بل من حيث هو استمرارية لقناعات جوهرية تبحث عن الرداء المناسب الذي ترتديه، إسلاميا كان أو ماركسيا.