السينما هي آخر فن ذو تقاليد صورية، أفلام اليوم تتجه نحو السيناريو الأدبي. هناك انتصار واضح للنص على حساب الصورة. يتحدث الناس كثيرًا عن الصور ،لكن اليوم هناك النص فقط، هناك السيناريو الذي يعد بمنزلة الإنجيل للسينمائيين.





المخرج الفرنسي «جان لوك جودار»

بدا لجودار، الذي بدأ مسيرته السينمائية الطويلة منذ أكثر من ستة عقود كأحد مخرجي «الموجة الفرنسية الجديدة»، ومنذ أول أفلامه «على آخر نفس Breathless» أنه وجد الحل الثوري، أو لنقل الإنجيل المضاد للسينما السائدة وقتئذ والتي كان يرى أنها تحولت إلى مجرد جهاز تحريضي ودعائي للرأسمالية. سيتخلى تمامًا عن فكرة النص المكتوب (السيناريو)، معتبرًا أن الفيلم في صورته النهائية هو النص. يكتب «جودار» مشاهد فيلمه في دفتر ملاحظات يومًا بيوم، بينما يملي حوار الفيلم على ممثليه أثناء التصوير من وراء الكاميرا.

كان «جودار» والذي سنعرفه طيلة مسيرته كفنان قلق ممزق وذي اندفاعات ثورية، هو الأكثر غضبًا وراديكالية من بين مجايليه من مخرجي «الموجة الفرنسية الجديدة» مثل تروفو، ورومير، وشابرول، وغيرهم. يحاول بنزعة تجريبية متأصلة لديه منذ البداية، أن يفكك البنى السينمائية التقليدية إلى ارتجالات تلقائية. يفرغ الحكاية من دراميتها بحيث تكون عاجزة عن توفير تطور منطقي ومتماسك في محاولة لأسر التباس وتشوش العالم المعاصر.

استخدم جودار بكثافة –ومن بعده السينما الحديثة- ما يعرف بالمونتاج القافز (Jump Cuts) وهو الذي كان يعتبر من قبله جريمة سينمائية، إذ كان على المونتاج أن يكون ناعمًا وسلسًا بحيث لا يزعج المشاهد أو يوقظه من استغراقه فيما هو معروض أمامه علي الشاشة، وهو بالضبط ما كان يريده جودار، كان يريد أن يزيل الوهم عن عيني المشاهد، أن يعكر صفو منامه إلى الأبد، حيث ما يراه ليس إلا فيلمًا، صورًا مصنوعة عن قصد وليست بريئة بأي حال.

المونتاج القافز لم يكن سوى حيلة واحدة في سلسلة طويلة من الحيل استقى جودار أغلبها من الشاعر والمسرحي الألماني برتولد بريخت والذي كان هو الآخر يقاوم عبر مسرحه سلبية المشاهد راغبًا في مشاهد يقظ وفعال. أراد جودار أن يعطل استغراق المشاهد فيما يشاهده وجعله متيقظًا لما تحدثه الصور داخله من تداعيات ذاتية.

ما سبق كان تقديمًا لا بد منه للوصول إلى اللحظية الآنية حيث فيلم جودار «كتاب الصورة The Image Book» الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي 2018 والفائز بسعفة ذهبية استثنائية تمنح لأول مرة في تاريخ المهرجان، كما عرض في القاهرة ضمن فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي، والذي يبدو أن جودار قد وصل من خلاله إلى آخر الشوط في تجريبيته وراديكاليته.


أين ذهبت الفتاة؟ أين ذهبت الحكاية؟

كل ماتحتاج إليه كي تصنع فيلمًا، فتاة ومسدسًا.





المخرج الفرنسي «جان لوك جودار»

في فيلمه الأحدث «كتاب الصورة»، تختفي الفتاة والمسدس، يختفي الممثل من على الشاشة بل تختفي الحكاية كلها. يتحلل الفيلم/الشريط السينمائي إلى عناصره الأولى. نحن هنا أمام فيض من الصور والأصوات، كولاج شاسع للقطات من أفلام سينمائية، لوحات تشكيلية، مواد مرئية من نشرات إخبارية ومن اليوتيوب، مقاطع بورنوجرافي، صور رقمية مشوهة وغير واضحة المعالم وكعادة جودار يتداخل المكتوب مع المصور، شذرات من نصوص لروائيين وشعراء.

يسقط عمدًا ترجمة بعض المقاطع تاركًا المشاهد أمام صور مبهمة. شريط الصوت لا يسلم أيضًا من هذا التشظي والتشتت فيأتي أحيانًا مبتورًا ومقطعًا. دوامة تفكيكية تبتلع المشاهد في داخلها وتلفظه سريعًا. لكن فوضى الصور وتشتتها مع انقطاعات الصوت المتعمدة لا تخل بوحدة الخطاب الفيلمي وهو ما يقودنا إلى سؤال جوهري: «مالذي يريد جودار أن يقوله لنا من خلال فيلمه؟»

الشاعر الأمريكي «ت اس االيوت»

لا يريد جودار أن يقول لنا أكثر مما يقوله الفيلم نفسه. يريدنا فقط أن نذهب وراء الصور والأصوات كمقتفي أثر، متيقظين دومًا لما تثيره داخلنا من تداعيات وأفكار. يصف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز السينما الحديثة والتي بدأت منذ منصف القرن الماضي وعلى رأسها سينما جودار، بأنها سينما المشاهد فهي سينما تظل ناقصة ولا تكتمل أبدًا إلا في مخيلة المشاهد. تقودنا صور جودار وأصواته نحو عالم مظلم، نحو عنف يجتاح العالم بأسره، كأنما يتوحد العالم وللمرة الأولى عبر العنف. العنف الذي يوحد بين شكل الفيلم ومضمونه.

من ناحية المضمون ما الذي يجمع بين مقطع من فيلم «سالو Salò» لبازوليني، حيث تعامل السلطة مختطفيها ككلاب، وفيلم «كلب أندلسي» لبونويل، حيث يشق رجل بموسي حلاقة عين امرأة إلى نصفين، أو «الفك المفترس» لسبيلبرج، ومقطع عابر لسجن أبو غريب، أو لتنظيم الدولة الإسلامية تقوم بذبح ضحاياها أمام الكاميرا؟ لا شيء سوى لغة العنف.

بينما يستعرض شريط الصورة جزءًا من مشهد في فيلم «فيرتيجو» لهتشكوك، يأتينا جودار عبر شريط الصوت بصوته الثمانيني المتهدج: «لم تكن لتقع في حبها لو لم تكن ميتة». هنا يرفع المجاز الفيلمي إلى مجاز عن العالم، نحن أمام عالم يشتهي الموت.

صورة لمارلين مونرو تملأ تقريبًا الشاشة بينما يمزج بين صورة مارلين وصورة أخرى لطيور سوداء، ربما طيور هيتشكوك. تبدأ صورة مارلين بالتآكل. هنا جودار وعبر مونتاجه الفذ يدخل مارلين مونرو – إحدى الشقراوات اللائي أفلتن من براثن هيتشكوك- إلى مسلخ هيتشكوك للشقراوات.

نعود الآن إلى الشكل الذي اختاره جودار لفيلمه، سيتضح لنا أن فيض الصور والأصوات السائل على الشاشة كنزيف جرح مفتوح هو الأنسب لفيلم يتمحور حول العنف والموت وكأنما العالم يمارس عنفه على شريط الفيلم نفسه أو على مخيلة جودار الذي يتوسط المسافة بين العالم والفيلم.


لقاء بين «جودار» و«نيتشه»

يفتتح «جودار» فيلمه بيد مرفوعة مع تعليق عن الرغبة في العودة للتفكير بالأيدي. كأنما يريد أن يعود إلى ما هو حسي وملموس. هنا يلتقي جودار بنيتشه. نيتشه اليائس من سلطان العقل وتحوله إلى وثن الراغب في العودة إلى عالم الحس، إلى عالم ما قبل الفلسفة حيث كان الحكماء ما قبل سقراط يعبرون عن رؤيتهم للعالم عبر الصور الشعرية ولغة المجاز. نيتشه الذي يذكرنا أن ما يعتبره العالم كحقائق هي مجرد أوهام نسينا أنها كذلك.

شيء من كل هذا يتسلل إلينا مع فيلم جودار الأخير والذي يبدي يأسًا عميقًا من العقل الذي قاد العالم إلى مثل هذه الهاوية. ستختفي احالاته الفلسفية التي كانت تهيمن على نصوصه في فترات سابقة، بينما سيتشكل نصه من تضمينات فنية وجمالية بالأساس سينمائية وأدبية. لسنا إذن أمام حقائق واضحة أو مطلقة فالفن لا يتحرك في فضاء الحقيقة بل في فضاء المجاز.

اليد المشار إليها في البداية والتي يرغب جودار في التفكير بها تحيل إلى فيلمه أيضًا، ففي فيلمه نجد العالم مفككًا تمامًا على طاولة مونتاج عتيقة بينما يعيد جودار تركيبه من جديد بيده وبخبرة ستة عقود في عالم السينما.


لقاء بين «جودار» و «رامبو»

القصيدة لا تقول شيئًا بل هي الشيء ذاته.

من بين صور الشعراء والأدباء والسينمائيين التي تعبر شاشة جودار، صورة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو. في ظني أن هناك أشياء كثيرة تربط بين الشاعرين، أول هذه الروابط ما سماه رامبو بالحرية الحرة ويعني بها الذهاب إلى آخر مدى ممكن، والتحرر مما حققناه للتو بحثًا عن جديد. كلاهما كان يسعى إلى الوصول إلى أبجدية جديدة، ويسعى عبر فنه لتغيير العالم. كلاهما شهد أيضًا هزيمة مشروعه الشعري ورغبته في تغيير العالم، وإن كان رامبو قد آثر الصمت وتخلى عن ذاته القديمة، فإن جودار لم يخن ذاته أبدًا، وظل ثائرًا حتى الآن. توجه جودار أيضًا مثلما توجه رامبو من قبله، نحو الشرق ربما بعد يأسه من حضارة الغرب باحثًا بين أنقاضه عن بقايا الحكمة الشرقية القديمة.

يظهر ذلك في فيلمه «موسيقانا Notre Musique» حينما أتاح مكانًا للشاعر الفلسطيني محمود درويش ليتحدث عن جماليات النص المهزوم، عن شاعر طروادة، وتساءل عمن يكتب التاريخ. هنا في «كتاب الصورة» يمنح ما يقرب من ثلث زمن فيلمه للعالم العربي، مقاطع سينمائية لمخرجين مثل يوسف شاهين، ومحمد ملص، وناصر خمير، وأيضًا مقاطع من رواية ألبير قصيري «طموح في الصحراء». ربما يتماشى ذلك مع ثورية خطابه السينمائي حيث يتيح للآخر المهمش والمهزوم مكانًا داخل نصه، وربما ما قاده إلى هنا كان شعورًا بالذنب، حيث يتردد كثيرًا عبر شريط الصوت كلمات استعارها من جوزيف كونراد وهي : «تحت عين غربية».

يختتم جودار فيلمه بمقطع من مشهد من فيلم ماكس أوفليس «Le Plaisir» عن رجل يرقص ويرقص، ويدور حول نفسه حتى يسقط منهارًا من الإعياء. ربما تصلح هذه الصورة الختامية كمجاز للعالم كما يراه جان لوك جودار.