(1)

من مقاصد الأمم والشعوب في عنايتها بالتاريخ ونزوعها المتصِّل إلى تدوين ما يَطرأ على مسيرتها عبر الزمن من أحداثٍ وتحولات = المحافظةُ على إرثها الفكري والثقافي من التلاشي والاندثار، وهو إِرْث يكتسب مزيدًا من الأهمية والخصوصية في حالة الأمة المسلمة؛ بالنظر إلى امتداد تأثيره إلى الحاضر الراهن، امتدادًا ناشئًا من تعلُّق هذا الإرث بنَصٍّ مُقدَّس (عابرٍ للزمن التاريخي ومتعالٍ عليه) هو الوحي([1])، بوصفه مذكرةً شارحةً له ومفسِّرة لمضامينه، بقطع النظر عن تاريخانية جوانب من هذا الشرح أو التفسير .

ومن هنا فقد مثَّل التأريخُ للعلوم والأفكار أحد الميادين الخصبة التي استقطبت اهتمامَ الباحثين والمؤرخين، بوصفه عمود الارتكاز في فهم مسألة الهُوية الثقافية ورصد أبعادها (دون الدخول في نقاش حول طبيعة التشكُّل التاريخي لتلك الهوية، ومدى نقائها، والتمييز بين الأصيل والوافد من عناصرها البنائية)، وبوصفه أيضًا ــــ أي: التأريخ للعلوم والأفكار ـــــ أحد عناصر الاتصال أو الاستمرار بين ماضي الأمة وحاضرها؛ ذلك أن تلك العلوم والأفكار ـــ كما أسلفنا ـــ وثيقةُ الاتصال بالنص المقدس أو الوحي الذي أُريد للمؤمنين به أن ينظِّموا حياتهم وفقًا لواجباته أمرًا ونهيًا.

ولما كان التراث ــــ بعبارة طريف الخالدي ـــ “لا يُولد خلافًا للحَدَثِ، بل يَفِيضُ ببطء عن خلفية ثقافيةٍ ما”؛ فإن فهم أطواره واستكناه خصائصه مطلبٌ عسير يستلزم إلمامًا جيدًا بجملة متنوعة من الأدوات المعرفية وزادًا لا ينفد من الصبر والجلد.

واعتقادُنَا أن ثمة علاقة طردية بين كثافة الهجوم على تراث العلوم والأفكار وتواتر الدعوة إلى إحداث قطيعة مع أنساقه المعرفية والعلمية والأخلاقية، وبين تعاظم الشعور بضرورة الإقبال عليه والتوقف مليًّا أمام تاريخه، والبحث في قيمه ومعارفه عما يمكن أن يمثِّل للأمةِ أساسًا لنشأة مُسْتَأْنفة لا يَعْسُر استثماره والبناء عليه، وخلاصًا من التِّيه الذي يعيشه المسلم المعاصر على الصُّعُد كافة.

ويعد الفقه نطاقًا مركزيًّا في ذلك التراث، يتعيَّن الاهتمامُ به اهتمامًا يكافئ ما كان يحظى به من منزلة رفيعة في ماضي المجتمعات الإسلامية، بوصفه شاغلاً معرفيًّا تجاوز حدودَ الدرس النظري المجرد إلى الإسهام ـــ بمؤازرة أنساق معرفية أخرى ــــ في تنظيم الحياة المعيشة على مقتضى المرادات الإلهية، كما فهمها المسلمون من النص/الوحي آنذاك.

وقد أشاد المستشرق القدير جورج مقدسي بالقيمة المعرفية للفقه الإسلامي، فنصَّ على أنه أكملُ صورةٍ للعلوم الدينية الإسلامية، وقرَّر أن عبقرية الإسلام وصفته المميِّزة إنما تتجلَّى أروع تجلٍّ في شريعته([2]). ووصف محمد عابد الجابري الحضارةَ الإسلامية بأنها “حضارة فقه”؛ إذ يحتل الفقه غيرَ منازع المرتبةَ الأولى في منتجاتها الفكرية كمًّا وكيفًا([3]).

وفضلاً عن تلك القيمة المعرفية، فقد كان الفقهُ إحدى الصفات الضابطة لحدود دار الإسلام؛ فكلُّ دارٍ كان الفقه (القانون الإسلامي) ناظمًا للحياة فيها حاكمًا للناس فيما يعرض لهم من شئون الاجتماع، فهي جزء من دار الإسلام ووطنه الممتد([4]). ولأجل هذا السبب، فقد بدا من الطبيعي أن يقع الفقهُ في بؤرة اهتمام حركات الإحياء الإسلامي في العصر الحديث، فتداعَتْ في أبنيتها النظرية وبرامجها الإصلاحية إلى ضرورة تطبيقه، والصدور عن مُدَوَّنَتِهِ الثرية في عملية إصدار التشريعات وصناعة القوانين.

ومن اللافت للنظر أن تيارات التحديث ذات التوجُّه العلماني/الليبرالي لم تكن أقل انشغالاً من غيرها بمسألة التراث الفقهي، وإن اتخذ انشغالُها به صورةً مناقضةً، هجومًا عليه وطعنًا في مذاهبه وأعلامه، وتشكيكًا في صلاحية أحكامه للحياة العصرية، ودعوةً إلى إقصائه وفكّ ارتباطه بشئون الاجتماع والسياسة، والزعم بأن ذلك شرط لازم لا قيمة لكل برامج التقدم ومشروعات النهوض بغير الوفاء به.

وفي الآونة الأخيرة بلغ الهجوم على التراث الديني عمومًا والفقهي بصورة خاصة حدًّا من الإسفاف والبذاءة يثير النفور والاشمئزاز أكثرَ مما يشجِّع على الردّ والمناقشة؛ لأمرين: أولهما: تفاهةُ مضمونه وهشاشة المنطق الذي يقوم عليه، بصورة لم نألفها حتى في كتابات أكثر الحداثيين العرب جهلاً بالتراث وقصورًا عن إدراك مضامينه. وثانيهما: أن الذي تولى كِبْرَ الهجوم هذه المرة طائفةٌ من الغلمان المأجورين الذين تطفلوا بأَخَرَة على موائد الفكر والثقافة. ولعل ضعف تكوينهم العلمي والأخلاقي هو الذي يدفع أحدهم حين تعوزه الحجةُ القوية والشاهدُ المُقْنِع إلى اصطناع أسلوب من “الرَّدْح والسباب” يذكِّرنا بنسوة الأحياء الشعبية حين يخضن شيئًا من المعارك اللفظية في حارات القاهرة وأزقتها. ولا يتسع العمر للردّ على ذلك الخطاب الرخيص، وإبطال منطقه المتهافت؛ إذ فسادُه مُغْنٍ عن إفساده، كما يقول الفقهاء، فضلاً عن أن تكلفَ مناقشته يُضفي قيمةً زائفةً على بضاعة مزجاة لا ينبغي أن تُقَابل إلا بكل احتقار وازدراء.

وأولى من إهدار الوقت في باب الردود والمناظرات صرفُ الاهتمام إلى مزيدٍ من التعمق في قراءة التراث قراءةً جادة تجمع بين التحليل والنقد؛ ابتغاء فهمه واستكناه الأطر التي كان يتحرك فيها، ومحاولة تقديمه للناس في إهاب عصري يلائمُ تغير الواقع ويتسق مع الطفرة الهائلة التي شهدتها العلومُ الاجتماعية موضوعًا ومنهجًا.

نعم، إن المسلم المعاصر في أمس الحاجة إلى أن نقدِّم له تراثَهُ المستباح من خلال أبنية نظرية جديدة، تنطلق من داخل التراث نفسه، ومن موقع الإيمان به، والإشفاق عليه أن يعبث به المتطفلون والأدعياء.

هذه كلمة ضرورية رأيتُ أن أقدِّم بها لهذا المقال. وهو مقال تمهيدي في سلسلة متعاقبة أرجو أن ييسر اللهُ إتمامها عن المذاهب الفقهية في مصر من التاريخ الإسلامي المبكر إلى العصر الحديث، نستعرض فيها تاريخَ تلك المذاهب، ونبيّن ما مرَّت به من ألوان التحول والتغير بيانًا مقرونًا بما يلوحُ لنا من عللٍ وأسباب. ولأنها مقالات في التاريخ، وليست درسَ حجاج ديني أو جدل فقهي؛ فإننا لن نتطرق فيها إلى شيء من أصول تلك المذاهب أو آرائها التي بُنيت عليها، إلا إذا استلزم التأريخُ شيئًا من ذلك؛ إذ إن مناقشة تلك الأصول والآراء ليست مما يُعنى به دارسُ التاريخ كثيرًا، ولكنها من صميم عمل الفقهاء ودارسي الشريعة، فالواجب أن تُترك لهم.

وقد رأينا أن نصدِّر تلك المقالات بمقالين تمهيديين هذا أولهما؛ لاعتبارين: الأول: أن الخطاب مُوَجَّه في الأساس إلى القارئ العام الذي لا يُفترض فيه بالضرورة الإلمامُ الكافي بطبيعة الفقه الإسلامي مفهومًا ونشأةً وتاريخًا وتنوعًا مذهبيًّا. الثاني: أن المذاهب الفقهية في مصر لا تستقيم دراستها تاريخيًّا بمعزل عن حركة التاريخ العام للفقه الإسلامي؛ لوثاقة الصلة بينهما، على نحو ما ستُظِهر المقالاتُ التالية.

(2)

يشغل علمُ الفقه في منظومة العلوم الإسلامية عمومًا والسُّنية منها على وجه الخصوص موقعًا مركزيًّا يلائمُ أهمية التشريع والقانون في المجتمع؛ إذ الفقه منوط به تنظيمُ شئون الأفراد والجماعات على مقتضى أحكام الله ومراداته المستنبطة من المصدرين الأساسيين للتشريع في الإسلام، وهما الكتاب والسُّنة الصحيحة؛ فهو بعبارة ابن خلدون (ت 808 هـ/1406م) “معرفةُ أحكام الله تعالى في أفعالِ المكلفين بالوجوب والحَظْر والنَّدْب والكراهة والإباحة، وهي مُتَلَقَّاة من الكتاب والسنة، وما نصبه الشارعُ؛ لمعرفتها من الأدلة”([5]).

وموضوع الفقه كما يُظْهِرُ هذا التعريفُ ــ وغيرُهُ من التعريفات المشابِهَة ـــ هو أفعالُ الإنسان الظاهرة التي تنقسم إلى: أعمالٍ متصلة بميدان العبادات والشعائر الدينية؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك، وأعمالٍ تندرج تحت ما سُمِّي بالمعاملات، وهو باب متسع يوشك أن يستغرق في شموله كافةَ مجالات الحياة وشئون الاجتماع الإنساني ؛ كأحكام الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث والوصية)، والأحكام الجنائية (الجرائم والعقوبات)، والأنشطة الاقتصادية (الزراعة والتجارة وغيرهما)، وقواعد تنظيم الدولة وإدارة الشأن العام (الخلافة والقضاء والإفتاء والحسبة ….إلخ)، ومسائل العادات والحياة اليومية (المأكل والمشرب، واللباس والزينة، والأعياد والاحتفالات، والميلاد والموت …..إلخ).

ومعنى ذلك أن جميع نواحي الحياة العامة والخاصّة تقع تحت مظلة علم الفقه وتنظِّمها القوانينُ المستمدةُ من الدين؛ ولذا يسعنا أن نقرر أن الفقه هو ذلك العلم الذي يروم ضبط السلوك (البراني) للإنسان/المجتمع المسلم، ويسعى إلى تقنين التدين بإحاطته بسياج من الأحكام المـُلْزِمة، في دقيق الأمور وجليلها.

ولسنا نعرف من أمم الأرض عبر التاريخ مَنْ عُنِيَ بالجانب التشريعي المستند إلى وحي السماء عنايةَ المسلمين به، وهو ما بدا واضحًا في تنوع المدارس التشريعية التي اصطُلح على تسميتها بمذاهب الفقه من ناحية، وتضخم المدونة الفقهية الإسلامية وثراء مادتها، من ناحية أخرى. ويدلنا كذلك على أهمية الفقه أن العلوم الدينية الأخرى كالتفسير والحديث كانت تصبُّ بصورة أو بأخرى في خدمة الغاية التشريعية للإسلام؛ إذ كانت تلك العلوم تمثِّل للفقيه أدوات مساعدة تُعِينُه على استخلاص الأحكام القانونية المنظِّمة لحياة الفرد والجماعة على السواء؛ ومن هنا فقد أضحى مصطلحُ الفقه مرادفًا لمصطلح الشريعة التي هي الشِقُّ الثاني للإسلام بعد شِقِّه الأول وهو العقيدة.

وفي ضوء هذه الأهمية المركزية للمسألة الفقهية/أو التشريعية، بدا من الطبيعي أن يُولِيَها العلماء المسلمون جُلَّ عنايتهم، وأن يوجهوا طاقاتهم الفكرية إلى تشييد أنساقٍ فقهية مُحْكَمة، تتبناها الدولةُ رسميًّا فيما يتعلق بالتشريع والإفتاء والقضاء، ويلتزم بها أفرادُ المجتمع في ممارسة شعائر الدين وفي تسيير شئون حياتهم اليومية، وما يربط بينهم من ألوان العلاقات والمعاملات.

ومن الحق أن “ظاهرة المذاهب” تمثِّل إحدى الخصائص البنيوية التي اتسم بها تاريخُ الفقه الإسلامي؛ ومن هنا فقد اتخذ الباحثون من تبلور ملامحها وانتظام منهجياتها في استنباط الأحكام دليلاً أو مؤشرًا على القول باكتمال التشريع بوصفه عملاً معرفيًّا ذا صبغة عملية واضحة. وهي خصيصة أصيلة نبتت في تربة الثقافة الإسلامية، وليست شيئًا مستعارًا اقتبسه الإسلامُ من ثقافة سابقة([6])، فضلاً عن أن الفقه الإسلامي جملةً ـــ كما يقول الجابري ـــ “إنتاج عربي إسلامي محض، فهو من ناحية الكيف يشكِّل إلى جانب علوم اللغة العطاء الخاص بالثقافة العربية الإسلامية”([7]).

ولئن كان مصطلح “الفرقة” الذي شاع تداولُهُ في الأوساط الكلامية قد احتمل دلالةً سلبية مدارُها على الشذوذ عن الإسلام المعياري (في صورته السُّنية) معتقدًا، فإن مصطلح “المذهب الفقهي” قد بَرِئَ من ذلك المأخذ السلبي؛ إذ على الرغم مما بين مذاهب الفقه من فروق جوهرية في طبيعة الأحكام ومنهجية إنتاجها، فإنها جميعًا حملت صفة “السُّنة”، فاكتسبت من مشروعية الوجود ما سوَّغ للمسلم أن يعتنق أيًّا منها، بل وأن يختار من بينها ما تؤيده الحجةُ ويدعمه الدليل.

وقد ناقش وائل حلاق مصطلح “المذهب”، مُتَعَقِّبًا ما طرأ عليه من تطور دلالي ومفهومي في ضوء السياق التاريخي الذي تُدُوِل فيه؛ فانتهى إلى أنه قد اسْتُخْدِم قبل ظهور أيٍّ من المذاهب الفقهية المعروفة، بمعنى: الرأي أو الفكرة التي يجنح الإنسانُ إلى اعتناقها والقول بها. ثم نشأ عن هذا الاستعمال الأصلي أربعةُ معانٍ أخرى ارتبطت بالتطور التاريخي لمدارس الفقه الإسلامي، فجاءت عاكسة لـ”تطور مفهوم المذهب من المعنى الأساسي لفقيه يملك رأيًا معينًا إلى الولاء التام لمنظومة مذهبية جماعية وتراكمية مكتملة”([8]).

(3)

والواقع أن تشعب الفقه إلى مذاهب متنوعة كان نتيجة لازمة نَشَأَتْ عن انتقال المسلمين عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (11هـ) إلى ما يمكن تسميته بمرحلة “ما بعد انقطاع الوحي”، بمعنى اكتمال الوحي وغياب شخص صاحبه، لا بمعنى تعطيله أو تجاوز أحكام ما نزل منه([9]). فشرع الصحابة ـــ رعاية لمقتضيات الواقع الجديد ــــ يستنبطون أحكام الشرع فيما كانوا يواجهونه من وقائع متجدِّدة؛ فكانوا يلتمسونها في نصوص القرآن أولاً، ثم فيما انتهى إليهم من نصوص السُّنة وترجَّح لديهم صحةُ نسبته إلى النبي صلى الله وسلم، ثانيًا. وربما ألجأتهم الضرورةُ (ضرورة قصور النصوص عن استيعاب الوقائع) إلى حمل غير المنصوص عليه صراحةً من المسائل على ما ورد النصُّ فيه؛ لمشابهةٍ بينهما، وهي عملية اجتهادية مركبة ينفسح فيها مجالُ النظر وتتباين فيها طرائق الاستنباط تباينًا يُؤْذِنُ حتمًا بوقوع الخلاف.

ثم كان تفرقُ الصحابة وانتشارهم في الأقطار المفتوحة وتفاوتُ أنصبتهم من المعرفة بالسُّنة، سببًا داعيًا إلى مزيدٍ من اختلاف التنوع في التكييف الفقهي للوقائع المتشابهة؛ إذ قد يكون لدى هذا الصحابي أو ذاك في هذه المدينة أو تلك من صحيح السُّنَّة المأثورة عن النبي ما غاب عن أقرانه في المدن الأخرى، فضلاً عن تباينهم في فقه النصوص وطريقة توجيهها، وظهور الخلاف السياسي الذي ألقى بظلاله ـــ جزئيًّا ـــ على عملية التشريع، رغم أنه كان خلافًا متعلقًا بالسلطة في الأساس. وعلى هذا النحو من الاجتهاد المنفتح وفق ما تيسَّر من أدواته وما انتظم من موادّه مَضَى الصحابة في استنباط أحكام الشرع، وأضحى الاجتهاد (مدعومًا بالسَّنَد النصي الصحيح) مصدرًا تشريعيًّا ثالثًا أُضيف إلى المصدرين النصيين الخالدين، وهما: الكتاب والسُّنة.

وقد شهدت تلك المرحلةُ المبكرة إنجازًا دينيًّا مهمًّا أكسب المسألة التشريعية مزيدًا من الدقة والانضباط، ألا وهو جمع القرآن الكريم في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ثم توحيد المسلمين على مصحف واحد في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وهو الإجراء الذي حفظ للمسلمين وحدتهم الدينية، وعصمهم من الاختلاف حول كتابهم اختلاف اليهود والنصارى([10]).

ثم كان أن نقل التابعون عن الصحابة معارفهم الدينية، وما أُثِر عنهم من أحكامٍ وفتاوى، وإن اقتصرت عنايةُ كلِّ إقليم بمن استقر فيه من الصحابة، بحيث لا يتجاوزون فقهَ هذا الصحابي أو ذاك إلا في القليل النادر؛ فغلب على أهل المدينةِ فقهُ عبد الله بن عمر، واتبع أهلُ مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وتأثر أهلُ الكوفة آراءَ عبد الله بن مسعود، وعكف أهل مصر على فتاوى عبد الله بن عمرو([11]). وفي الوقت نفسه أضاف التابعون إلى تراث الصحابة ما استخلصوه من أحكام وتشريعات باجتهادهم الفردي، في تلك المسائل والنوازل التي لم يكن لسلفهم فيها نصوص مأثورة أو أحكام قاطعة([12]).

والحق أن هذا التنوع الملحوظ في تقرير الأحكام الفقهية هو الذي مهّد لظهور جملة من مدارس الفقه في الأمصار المختلفة، على رأس كلّ مدرسة منها إمام مجتهد؛ كأبي حنيفة (150هـ/767م) وسفيان الثوري (161هـ/778م) في الكوفة، وابن جُرَيج (150هـ/767م) في مكة، ومالك (179هـ/795م) في المدينة، والأوزاعي (157هـ/774م) في الشام، والليث بن سعد (ت 175هـ/791م) في مصر، وغيرهم ممن أضافوا إلى ما تراكم من فقه الصحابة والتابعين اجتهاداتهم الشخصية، وفق ما تراءى لهم من طرائق النظر والاستنباط([13]).

ولقد تداول هؤلاء الأئمةُ مسائلَ الفقه في حلقات علمية عُقدت في رحاب المساجد والجوامع، وكانت مقصدًا لطوائف من التلاميذ والأتباع، وإن لم ينشأ عن اتباعهم لأئمة الاجتهاد ـــ في تلك الفترة المبكرة ـــ ذلك الولاءُ المذهبي الصارم الذي أضحى سمةً ملازمة للدرس الفقهي في مرحلة متأخرة نسبيًّا من تاريخ تطوره، وبدا ذلك واضحًا في حرية انتقال طلاب الفقه بين الحلقات العلمية المتباينة، وفيما كان يتمتع به القضاةُ من إمكانية الانفتاح على المذاهب المختلفة، والاختيار من بين أحكامها المقررة ما يرونه ملائمًا للقضايا التي ينظرونها. ولا شك أن دائرة اهتمام الفقهاء في تلك المرحلة قد اتسعت لتشمل مزيدًا من مباحث الفقه والتشريع، بالإضافة إلى تمايز ملحوظ في منهجيات التأويل والاستنباط؛ مما يُوحي بأن سمة التراكم العلمي غدت أكثر بروزًا ([14]).

هذه المذاهب المذكورة هي التي يسميها بعضُ الباحثين “المذاهب الشخصية”، بمعنى أن ثمة طائفة من الطلاب ودارسي الشريعة التفوا حول أحد أئمة الفقه والاجتهاد وتبنوا آراءه التي يقول بها، ثم كان للنابغين منهم دور مشهود في استكمال بناء المذهب وتحديد الصورة النهائية التي استقر عليها، حين انتقل من مرتبة المذهب الشخصي إلى مرتبة المذهب الفقهي مكتمل الأركان([15]).

وقد تزامن تشكُّل تلك المذاهب مع إنجازين معرفيين كان لهما أثر حاسم في تطور الفقه الإسلامي، أولهما: إقبال الرواة والمحدِّثين على جمع السُّنة وتدوينها، وابتكار المقاييس والقواعد الضابطة لتمييز صحيحها من ضعيفها، حتى إذا كانت نهاية القرن الثالث اكتملت المدونة الحديثية أو كادت، بظهور الكتب الستة، وهي: صحيح البخاري (ت 256هـ/870م)، وصحيح مسلم (ت 261هـ/875 م)، ويأتي بعدهما سنن أبي داود (ت 275هـ/888م)، وسنن النسائي (ت 303هـ/915م)، وسنن الترمذي (ت 279هـ/892م)، وسنن ابن ماجه (ت 273هـ/886 م). ولا ريب أن جمع السُّنة على هذا النحو أسهم في انتظام الدرس الفقهي، وتعزيز أدواته المنهجية؛ إذ كما يقول جولدتسيهر “لا يوجد في دائرة العبادات أو العقائد أو القوانين الفقهية أو السياسية مذهب أو مدرسة لا تعزِّز رأيها بحديث، أو بجملة من الأحاديث”([16]).

وثانيهما: ميلاد علم أصول الفقه على يد واحدٍ من أصحاب المذاهب الكبرى، وهو الإمام الشافعي (ت 204هـ/820م) الذي أودع كتابه الشهير “الرسالة” قوانينَ هذا العلم وقواعده؛ وهو الكتاب الذي نُظِر إليه بوصفه العمل التأسيسي الأول في هذا الحقل المعرفي الجديد. “ودون مذاهب فقهية أو علم أصول الفقه لا يجوز عدّ الشرع الإسلامي مكتملاً”، كما يقول وائل حلاق([17]).

والواقع أنه لم يُقَدَّر البقاء لغير أربعة من تلك المذاهب الشخصية، وكان أن صادفت من الذيوع والانتشار ما ارتقت به إلى مصاف المذاهب الكبرى المتبوعة، في حين اندثرت مذاهبُ أخرى، ظلت بين النشأة إلى الاندثار مجرد نسق من الآراء الشخصية لأصحابها، ولئن صادفت مَنْ يعتنقها ويؤمن بها، فإنها لم تظفر بمن يتولى شرحها ويضيف إليها ما يصبح مع التراكم مذهبًا تامًّا، أو ينافح عنها في مواجهة المذاهب الأخرى. أما الأسباب الموضوعية التي تفسِّر بقاء تلك المذاهب واندثار ما سواها، فموضوع المقال التالي بإذن الله.


المراجع



  1. ليس التراث الإسلامي بدعًا في ذلك، وإن اتسم بمزيدٍ من الخصوصية، فالنصوصُ المحورية ـــ سواء أكانت مقدسة أم لا ــــ هي التي تُلْهِم التراث دائمًا وتتحكم فيه؛ فعلى سبيل المثال: كانت الإلياذة نصًّا محوريًّا في التراث اليوناني، وكان الإنجيل نصًّا محوريًّا/ مقدسًا في التراث المسيحي. انظر: طريف الخالدي، فكرة التاريخ عند العرب من الكتاب إلى المقدمة، ترجمة: حسني زينه، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2014م، ص 15.
  2. انظر: جورج مقدسي، نشأة الكليات، معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، ترجمة: محمود سيد محمد، القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2015، ص 49.
  3. تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة، 2009م، ص 96 .
  4. لمزيد من التفاصيل عن علاقة الفقه بحياة المسلمين ومعاشهم، راجع: هيثم بن فهد الرومي، فقه تاريخ الفقه، قراءة في كتب علم تاريخ الفقه والتشريع والمداخل الفقهية، الرياض، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 2014م، ص 102 وما بعدها.
  5. ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2006م، 3/947.
  6. وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ترجمة رياض الميلادي، بيروت، المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2007،ص 226.
  7. تكوين العقل العربي، ص 96.
  8. راجع في تلك المعاني الاصطلاحية لكلمة المذهب: وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 209-212.
  9. ربما يكون من نافلة القول أن نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسُنُّ الأحكام التشريعية في دولة المدينة، بوصفه نبيًّا يُوحى إليه. ومعلوم أن أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم. وربما اجتهد الصحابة في استباط الأحكام أو تطبيقها إذا كانوا في وضع لا يسمح لهم بسؤال النبي واستطلاع رأيه مباشرة .
  10. لمزيد من التفاصيل عن التشريع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، راجع: عمر سليمان الأشقر، المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي، الأردن، دار النفائس، الطبعة الأولى، 2005م، ص 101 وما بعدها.
  11. ابن أبي داود، كتاب المصاحف، تحقيق: محب الدين عبد السبحان واعظ، بيروت، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الثانية، 2002، ص، 196، 201، 202، أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم، تحقيق: عمار طالبي، القاهرة، دار التراث، الطبعة الأولى، 1997، ص 282، 283.
  12. مقدمة ابن خلدون 3/947، 948، المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، تحقيق: أيمن فؤاد سيد، لندن، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2003م، 4/362، 363.
  13. محمد أبو زهرة، من تقديمه كتاب: نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، بيروت، دار القادري، الطبعة الأولى، 1990م، ص 23، 24.
  14. المواعظ والاعتبار 4/363، 364.
  15. وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي، ص 212- 214.
  16. جورج مقدسي، نشأة الكليات، ص 38، 39 ، وائل حلاق، نشأة الفقه وتطوره، ص 214.
  17. العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: محمد يوسف موسى، علي حسن عبد القادر، عبد العزيز عبد الحق، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ميراث الترجمة، 2013م، ص 50.
  18. نشأة الفقه الإسلامي، ص 24.