شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 74 أنا دائمًا في الطريق إلي البيت، دائمًا في الطريق إلى بيت أبي. — اقتباس للروائي الألماني «نوفاليس» على لسان الشخصية التي يلعبها «بول دانو» من فيلم «youth». مع بداية تفشي وباء كورونا والإغلاق الكامل الذي حدث في 2020 عاد المخرج الإيطالي باولو سورينتينو إلى بيت عائلته في نابولي بعد غياب طويل. كان الوقت آنذاك موسم العودة للبيت، عودة اضطرارية وسط أجواء مليئة بالهلع والخوف. منذ بداية مسيرته السينمائية وهناك حكاية واحدة تلح عليه أكثر من أي حكاية أخرى، لكن ربما لم تأتِه الشجاعة من قبل للاقتراب منها. هذه الحكاية هي حكايته الخاصة: حكاية المراهق الذي كان لحضوره مباراة كرة قدم لفريقه نابولي لمشاهدة مارادونا أن ينقذه من مصير والديه اللذين قضيا نحبهما باستنشاق أول أكسيد الكربون المتسرب من مدفأة بيتهما الجديد. الآن فقط فيما يبدو صار مستعدًّا ليفتح قلبه ويحكي عن خسارته الكبرى. بداية صيف 2020 أرسل سورينتينو رسالة لمنتجه لورينزو ميلي: هناك فيلم رغبت دومًا في صنعه سأحاول كتابته هذا الصيف. بعد أسبوعين من هذه الرسالة أرسل له سيناريو فيلمه the hand of god. نحن هنا أمام أكثر أفلامه ذاتية وحميمية، الفيلم الذي يفكر فيه منذ استحوذت عليه فكرة أن يكون مخرجًا سينمائيًّا. كما لو كانت كل مسيرته السابقة هي الطريق إلى هذه اللحظة التي يعود فيها إلى حيث بدأ كل شيء، إلى الجذور التي غذت شخصيته كإنسان وفنان. في فيلم سورينتينو «الجمال العظيم – the great beauty» تسأل الأخت ماريا -قديسة تجاوز عمرها المائة عام، تتغذى فقط على جذور النباتات- بطله جيب جامبارديلا: هل تعرف لماذا أتناول الجذور؟ يجيبها بالنفي، تخبره لأن الجذور مهمة. أعتقد أن هذه العودة لا تمنحنا فقط فهمًا لشخصية سورينتينو، بل لسينماه أيضًا: منابع إلهامه، طبيعة شخصياته، أسلوبيته وما تمثله السينما بالنسبة إليه. في حوار مع سورينتينو يقول: أنا مفتون بالعجائز، عندما أشيخ آمل أن أفتتن بالشباب. ربما شعر بالتعب من الكتابة عن الكاردينالات والأساقفة، من أن يضع العجائز في قلب أفلامه. هنا يضع نفسه مراهقًا باسم فابيتو سكيسا في قلب فيلمه. فابيتو/ الأنا الآخر لسورينتينو يتجول وحيدًا في الغالب بلا حب أو أصدقاء. إنه مهووس بمارادونا وبزوجة عمه المثيرة والمضطربة عقليًّا (باتريزيا)، وفي الخلفية عمارة نابولي وطبيعتها الخاصة، تابلوهات حية للحياة اليومية بالمدينة. لا توجد هنا حبكة بمعناها الكلاسيكي، لسنا أمام سرد مقود بحبكة ما، بل سلسلة من الذكريات يمتزج في نبرتها الهادئة بتناغم شديد ما هو كوميدي وما هو تراجيدي. طالما أولى سورنتينو الأهمية القصوى للمشاعر في أفلامه، للشخصيات وليس للحبكة، وهذا الفيلم أيضًا امتداد لذلك. يميل الفيلم سرديًّا ولونيًّا إلى أن يكون قسمين، تفصلهما تراجيديا الموت. باليتة الألوان في النصف الأول دافئة وذات مدًى لوني واسع كما لو كانت استعادة لذكرى سعيدة عن العائلة. تخفت الألوان في النصف الثاني من الفيلم، تصير أكثر برودة وإعتامًا. بعد النصف الأول من الفيلم الأكثر خفة وإشراقًا وبعد تراجيديا الفقد تتبخر العائلة من حول فابيتو ليواجه هذا الفقد وحيدًا ومحطم القلب. في أعمال سورينتينو دائمًا لا شيء يدوم، لا الجمال ولا السعادة. طالما كان الموت حاضرًا بقوة ضمن سرديات أفلامه كعنصر مهم في تكوين الشخصية وتحولاتها. يجبر الشخصيات على النظر بعيون جديدة للحياة ولذواتهم. سورينتينو والمنابع الأولى لإلهامه يكشف لنا هنا سورينتينو بوضوح عن منابع إلهامه، يعود بنا في «the hand of god» إلى صيف 1984، الصيف الذي هبط فيه مارادونا على نابولي كمعجزة. الجميع في انتظاره، يخبر العم ألفريدو فابيتو: إذا لم يأتِ مارادونا إلى نابولي فسأقتل نفسي. لا تخفى مكانة مارادونا عند سورينتينو على أحد، إنه لقاؤه الأول مع الفن، الفن كفرجة – spectacle- كعرض فاتن، كيف يصبح لاعب كرة قدم فنانًا والفن كسيرك بصري مثير وهو ما يقودنا أيضًا إلى فيليني، هل هناك اليوم من هو أكثر فيلينية من سورينتينو؟! يعترف سورينتينو في أحد حواراته: «مهما حاولت التخلص من تأثيره فإنه يعرف كيف يتسلل إلى رأسي». يذهب الأخ الذي يرغب في أن يكون ممثلًا لمقابلة فيليني، ربما حصل على دور ككومبارس في فيلمه القادم، لكنه يرفضه لأن وجهه عادي، يبدو الحشد الجالس في انتظار ملاقاة فيليني بغرابة أطوارهم كشخصيات فيلينية بالفعل. يحضر أيضًا فيلم المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني «once upon a time in America» أكثر من مرة وهو الفيلم الذي يعتبره سورينتينو حبه السينمائي الأول. هنا أتخيل عودة سورينتينو بعد عدة عقود إلى مدينته نابولي كعودة نودلز بطل «حدث ذات مرة في أمريكا» إلى نيويورك، يعود ومعه مفتاح ساعة متوقفة منذ خمسة وثلاثين عامًا، ومع عودة نودلز/ سورينتينو من جديد إلى مدينته يعود سريان الزمن المتوقف مع فيض من الحنين والميلانكووليا المصاحب للزمن المستعاد. يحضر أيضًا المخرج أنطونيو كابوانو. النابوليتاني الآخر الذي كان صاحب تأثير لا ينكر عليه في بداية مسيرته. أول عمل يؤديه سورينتينو في السينما هو المشاركة في كتابة سيناريو فيلم لكابوانو بعنوان رماد نابولي. أعتقد أن لكل فيلم قلبًا، إذا لامسته يمكنك أن تدرك روحه. وقلب هذا الفيلم هو مشهد لقاء فابيتو بكابوانو، المشهد أقرب إلى مشهد الاستجواب بين محقق ومشتبه به، يصارح فابيتو كابوانو برغبته في أن يكون مخرجًا سينمائيًّا، أن يهرب من واقعه المؤلم إلى مملكة الخيال السينمائي. وكابوانو يرى ذلك غير كافٍ يريد أن يعري خجل هذا المراهق، أن يكشف جذر الألم الذي يحرك رغبته. يجيبه بعد ضغط متواصل: عندما مات والداي لم يسمح لي برؤيتهما. السينما كمهرب/ السينما كخلاص تلوح السينما لبطلنا عقب مأساة الفقد كخلاص محتمل. على لسان فيليني في الفيلم تأتي هذه العبارة التي تعكس جوهر سينما فيليني ونهج سورنتينو شديد التأثر به: السينما ليست مهمة لأي شيء. إنها فقط إلهاء. إلهاء عن الواقع. الواقع مقيت. هذا هو ما يجذب فابيتو للسينما. ما يجذب سورينتينو أيضًا. أفلامه بها نوع من الاحتفاء والاحتفال بالسينما كفن هروبي، إنه أستاذ التمويه والإخفاء بمخيلته الباروكية (الميل للتكلف والتضخيم والتعقيد) وأسلوبه الفخم. كما تبدو شخصياته في سبيل هروبها من وحدتها وماضيها الأليم عالقة بالسطح البراق للأشياء واللحظات. بين قوسي البداية والنهاية يتجلى الخيال كملاذ من واقع أليم. مشهد البداية حيث الكاميرا المحمولة بهليكوبتر مقتربة من نابولي، كل شيء في المشهد واقعي، شريطا الصوت والصورة يعكسان الواقع ، تقترب الكاميرا من سيارة ذات طراز عتيق وستائر حمراء تصاحبها الكاميرا قليلًا كأنها تجذب انتباهنا إليها. تظهر نفس السيارة في المشهد التالي أمام باتريزيا ليتضح أن من يستقل السيارة هو القديس جينارو، القديس الحامي لنابولي الذي يصحبها إلى شخصية فلكلورية أخرى هي الراهب الصغير الذي حسب الحكايات يزور البائسين والفقراء ليمنحهم شيئًا من الحظ السعيد. باتريزيا يائسة وبحاجة لأن تكون أمًّا يستدعي خيالها القديسَين ليمنحاها البركة. الخيال هنا هو ما ينقذها من السقوط في قبضة الجنون. لا فارق بين مشهدية الواقع والفانتازيا عند سورينتينو، بل نسيج واحد. أليس هذا هو جوهر السينما عند فيليني أيضًا، دمج اليومي بالخيالي المثير في مشهدية مذهلة. يظهر الراهب الصغير مجددًا عند نهاية الفيلم لفابيتو في طريقه إلى روما كأنما يباركه، يتمنى له حظًّا سعيدًا في اللحظة التي قرر أن يركن فيها إلى الخيال لمواجهة الواقع. يضع سماعة الرأس ليختفي صوت الواقع. يسلك نفس الطريق الذي اختارته باتريزيا، وإن كانت قد فقدت نفسها داخل رأسها فإن بإمكانه أن ينجو من هذا المصير عبر السينما. فابيتو: المراهق الذي سيصير كل أبطاله الوحيدين اللقطات السابقة من أفلام سورنتينو تعكس وحدة وعزلة أبطاله، وهي بالترتيب (the hand of god- the great beauty- the young pope TV show- youth) من خلال The Hand of God يمكننا أن نفهم شخصيات سورينتينو بأثر رجعي، نلتقي بطله هنا ما قبل لحظة الاغتراب عن الذات والغرق في حياة تضع مسافة دائمًا بينه وبين الواقع. يمكنك أن تتخيل فابيتو هو المراهق الذي سيصير فيما بعد أبطاله الوحيدين، الخائفين من العالم ومن المشاعر الحقيقية. يتظاهر أبطال سورينتينو دائمًا باللامبالاة وغالبًا ما يساء فهمهم. يفضلون المضي مع تيار الحياة بدلًا من الانغماس والاستغراق في تأمل الذات أو الإشفاق عليها. لماذا توقف جيب جامبرديلا عن الكتابة بعد كتابه الأول؟ ربما هربا من المشاعر الحقيقية من ألم الخيبة في الحب من مواجهة ذاته. الشخصية التي يؤديها (مايكل كين) في فيلمه شباب: يضع مسافة بينه وبين الأشياء يعزل نفسه عاطفيًّا عمن حوله، حتى أقرب الناس إليه. يرى المشاعر أمرًا مبالغًا فيه مع أنه شخصية رومانتيكية وشديدة العاطفية. في IL divo، يضع جوليو أندريوتي بينه وبين الواقع مسافة عبر السخرية، يقول: السخرية هي العلاج الأفضل لمواجهة الموت. يضع مسافة بينه وبين العالم وبين مشاعره عبر السخرية. يقول له أحد أصدقائه: 30 عامًا ولم تظهر أي عاطفة نحوي. فيجيبه: لكنني دائمًا ما دافعت عنك. شخصياته دائمًا عالقة في دور المتفرج وكأنها ترفض المشاركة الحقيقية في الحياة، لديهم ماضٍ من الخيبات والأحزان يجبرهم على أخذ مسافة من الواقع. كأنه هنا ليس بحاجة إلى تمويه أو خداع، فقد قرر طوعًا أن يفتح قلبه ويبوح. لا حاجة لتعقيد الميزانسين ولا الإفراط في شكلانيته المعتادة، هنا اقتصاد واضح في حركة الكاميرا والممثلين، الإضاءة المسرحية والموسيقى. سورينتينو هنا أكثر بساطة في أسلوبه من أي من أفلامه السابقة، أقل باروكية وأكثر طبيعية. نحن هنا أكثر قربًا من شخصياته ومشاعرها من أي فيلم آخر، هذا فيلم يلامس القلب مباشرة. سورنتينو الذي يمثل بلا شك عودة لزمن مؤلفي السينما الإيطالية الكبار فيليني، بازوليني، برتولوتشي وسكولا، يقدم هنا بشاعرية واضحة حكاية عن الحب، الفقد، عن اكتشاف الذات، حكاية حميمية عن العائلة والقدر، عن الصداقة والسينما. قد يعجبك أيضاً رواية «الخروج من الأرض السودا»: مما تفعله القاهرة بأهلها الصورة والمونتاج والأزياء: نجوم دراما رمضان 2021 الحقيقيون أثر الأوسكار: جائزة من لا يملك لمن لا يستحق رواية «البصيرة»: السخرية في مواجهة القمع الديكتاتوري شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram أحمد عزت Follow Author المقالة السابقة فلسطين في السينما العربية: هل حقًّا من أجل القضية؟ المقالة التالية مذكرات 2021 السينمائية: ثلاثة أفلام تحكي قصص صانعيها قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك ثوار السينما: 17 ألف مشاهدة للبانوراما الأوروبية 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك لوحة «الصيادون في الثلج»: من عصر النهضة إلى السينما 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك دليلك الشامل لصناعة فيلمك القصير الأول 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فان جوخ.. جمال قاس وروح معذبة 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم الحاسة السابعة: سخرية طويلة العمر 05/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تعرف على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في مصر عام 2016 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رفقاء الليل – الحلقة الخامسة 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «وارث الشواهد»: إعادة تفكيك المأساة الفلسطينية 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحصان في قلب الصخرة: السيريالية في 5 أفلام 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مسلسل «TED LASSO»: كرة القدم كمجاز عن الحياة 05/03/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.