بلد صغير في البحر الكاريبي يشهد ثورةً تكتب التاريخ العالمي، لا تاريخ البلد فحسب. سانتو دومينجو، أغنى مستعمرة فرنسية، تتقن الزراعة وتمتلئ بالعبيد، فلو كانت السلطة تُمنح للأغلبية لمُنحت في سانتو دومينجو، هايتي لاحقًا، للعبيد. أكثر من 90% من السكان كانوا يخضعون للاستعباد، ويعاملون أيضًا باعتبارهم أقلية لا وزن لها، فلم تكن فرنسا تعتبرهم بشرًا، سواء بحقوق أو من غير، بل كانت تراهم ممتلكات وأدوات، هي بالتأكيد بلا حقوق.

استمرت الثورة 13 عامًا، منذ عام 1791 وحتى عام 1804، بين عبيد هايتي وبين المستعمرين البريطانيين والفرنسيين والعديد من الفصائل الأخرى. لكن بذور الثورة بُذرت قبل ذلك بوقت طويل، منذ لحظة رؤية المسكتشف الإيطالي كولومبس وأطلق عليها هيسبانيولا، أو الجزيرة الأسبانية. وبعد أن وطأها كولومبس بدأ السكان الأصليون في التناقص حتى تلاشوا تقريبًا.

كانت الجزيرة في أعوامها الأولى عبارة عن

منجم

ذهب مليء بالثروات النفيسة، وحين قل عدد السكان الأصليين حوّلها المستعمر إلى حظيرة يجلب إليها العبيد من مختلف البلدان. حتى نفدت مناجم الذهب حرفيًا، فهجرها الإسبان ووضعوا الفرنسيين محلّهم. وبدأ الفرنسيون يؤسسون مستعمرة دائمة في سانتو دومينجو، وسيطرة شركة جزر الهند الغربية الفرنسية على المنطقة.

استمر الفرنسيون في شحن المنطقة بالعبيد الأفارقة حتى وصل عدد سكانها قرابة 556 ألفًا، منهم 500 ألف من العبيد الأفارقة، و32 ألفًا من المستعمرين، و24 ألفًا من مختلطي العرق الأسود والأبيض. ورغم ذلك تعرّض العبيد للعنصرية الشديدة، ومات منهم الكثيرون من الالتهابات والأمراض الاستوائية وإصابات العمل. وكانت المجاعات وأمراض سوء التغذية أمرين شائعين للغاية بينهم، ولم ينج من تلك المجاعات سوى قلة قليلة استطاعت أن تفر للجبال وتعيش فيها بعيدًا عن حقول السُكر، عرفوا باسم المارّين، وهم من بدأوا حرب العصابات ضد المستعمرين.

الحرية مقابل القتال


سلسلة الصراعات تطورت إلى ثورة، خاصة مع حدوث
الثورة الفرنسية، زاد من اشتعال تلك الثورة استمرار وحشية مالكي العبيد وارتفاع
نبرة الحديث القومي والخطابات الرنانة التي أفرزتها الثورة الفرنسية. لكن الجنود
الفرنسيين لم يتهانوا مع تلك البدايات واعتقلوا قادة تلك الثورة وعذبّوهم ثم
أعدمومهم.

عام 1791،

قررت

فرنسا منح جنسيتها لسكان هايتي الأثرياء، لكن الأوروبيين لم يحسنوا معاملة الحاصلين على الجنسية، فاندلع صراع منفصل بين الأثرياء والأوروبيين. استغل العبيد تلك الفجوة وثاروا بالآلاف ضد الجميع، فحاول الأوروبيون استرضاء الحاصلين على الجنسية والأثرياء ومختلطي العرق ليساعدوهم في قمع العبيد، ونجحوا جزئيًا في ذلك.

الجزيرة الصغيرة تشرذمت أكثر فأكثر، المستعمرون الأسبان دخلوا على الخط في الجانب الشرقي من الجزيرة، الذي سيصبح لاحقًا جمهورية كاملة تحت اسم الدومينكان. في تلك اللحظة أدرك الفرنسيون أنهم سوف يخسرون الأمر بالكامل فأرسلوا المفوّض ليجر فيليسي الذي عرض على العبيد الحرية إذا انضموا لجيشه، وألغى العبودية تمامًا، وأكدّت فرنسا قراره في العام التالي.

في تلك الهدنة ظهر نجم توسان لوفرتو، عبد سابق وترقى في الجيش حتى صار قائدًا مخضرمًا. استولى توسان على العديد من المناطق وحصل على دعم من عملاء فرنسيين إذا كان يعلن الولاء لفرنسا. لكنه كان في الوقت ذاته على اتصال بالبريطانيين، يريد منهم الدعم في سعيه وراء خطته الخاصة. وفي عام 1801، غزا توسان سانتو دومينجو وعيّن نفسه القائد العام لها مدى الحياة.

نابليون يعجز عن استعادة الجزيرة

توسان أعاد الفلاحين للعمل في المزارع قسرًا،

وشجّع

الأثرياء الفرنسيين على العودة للجزيرة. بدا للسكان أنه لا يختلف شيئًا عن الفرنسيين، لكنّهم عادوا للوقوف بجانبه حين رفض طلب نابليون بونابرت بتسليم الجزيرة مرة أخرى للحكم الفرنسي. أرسل نابليون صهره، الجنرال تشارلز لوكليرك، مع قوة فرنسية كبيرة لاستعادة الجزيرة.

الجنرال توسان لوفرتور
زعيم هايتي (سان دومينيجو) توسان لوفتور

قاومهم توسان عدة أشهر حتى رضخ الفرنسيون لتوقيع هدنة عام 1802، لكن الفرنسيين خرقوها في نفس العام وسجنوا توسان في فرنسا، وتُوفي عام 1803.

حين أطاحوا بي قطعوا جذع شجرة الحرية السوداء فقط، لكنها سترتفع مرة أخرة من جذورها العميقة والممتدة.





توسان لوفرتو

لم
يقبل مساعدو توسان بما حدث له، وأعلنوا أنهم سيستمرون فيما بدأه صاحبهم. قاد جان
جاك ديسالين وهنري كريستوف الحرب الجديدة، وبدأ عدد من الأثرياء ومختلطي العرق في
الانضمام إليهم بسبب القيود التي فرضها الفرنسيون على الطبقات الأعلى.

جاء وباء الحمى الصفراء ليمنح سكان هايتي
ميزةً على الجيش الفرنسي القوي، فمات لوكليرك ومعه عدد من جنوده. وفي نهاية عام
1803 تجددت الاشتباكات بين فرنسا وبريطانيا فتأزم موقف فرنسا في حرب عصابات هايتي.
حتى تجلت الأزمة تمامًا في هزيمة الفرنسيين أمام جيش الإندي، جيش السكان الأصليين،
بقيادة ديسالين. استسلم الجنرال الفرنسي، وبموجب شروط الاستسلام مُنح الفرنسيون 10
أيام لإخلاء قواتهم وترك معاقلهم.

جان باتسيت، الجنرال الفرنسي، بدا هادئًا وهو
يُخلى قواته وجعل عملية الإخلاء شديدة البطء، ما أثار حنق ديسالين، فهدد الأخير
بضرب السفن الفرنسية في المراسي إذا لم يغادر الفرنسيون سريعًا. لم تسعف السفن
الفرنسية العدد الموجود فغادروا على متن سفن البحرية البريطانية كسجناء بريطانيين.
وهكذا انتهى الوجود العسكري في هايتي، لكن فرنسا ظلت موجودة في الجزء الشرقي من
الجزيرة حتى عام 1809.

الجزيرة الجميلة تأكل الطين


رغم أن القائمين بثورة هايتي لم يتركوا كتبًا توضح فلسفتهم أو آراءهم الفكرية، لا لعدم وجود فلسفة، لكن لعدم وجود ما يكفي من التعليم ليتمكنوا من كتابة وصياغة ما يفكرون به، إلا أنها ثورة قد أحدثت تغييرًا عالميًا، ومنحت بريق أمل لجميع المهمشين. كما أن غياب الكتابة والتدوين جعل المؤرخين يعتمدون على التنقيب اللفظي في الثقافة والقصص الموروثة بين أبناء الجزيرة، بحثًا عما حدث.

لكن المؤكد حدوثه أن هايتي، وتعني الأرض الجبليّة، قد حصلت على استقلالها رسميًا في أول يناير/ كانون الثاني 1804، وأن العديد من القوى الأوروبية والحلفاء في منطقة الكاريبي نفّذوا نبذًا منظمًا لهايتي خوفًا من أن تنتقل ثورة العبيد إليهم. ديسالين حصل على لقب الإمبراطور جاك الأول، لكنّه قُتل بعد عامين في محاولة لقمع تمرد آخر. هنري كريستوف تولى مكانه، لكن اندلعت حرب أهلية بينه وبين سابيس بيتون المقيم في الجنوب، فاز كريستوف، وأعلن نفسه ملكًا؛ الملك هنري الأول عام 1811.

تمكن الملك الجديد من تحسين ظروف البلاد الاقتصادية، لكن جاء ذلك بسبب إجبار العبيد على العودة للعمل في المزارع. بنى هنري لنفسه قصرًا مهيبًا وحصنًا رائعًا في التلال الواقعة في الجنوب. في ذلك الحصن المهيب انتحر هنري حين حاصر الجنود المتمردون أبوابه.

كل تلك الأحداث، و100 ألف قتيل من العبيد،
ولم تعترف فرنسا رسميًا باستقلال هايتي إلا عام 1825، ومن أجل ذلك الاعتراف

طالبت

فرنسا
بتعويض قدره 100 مليون فرنك، على فترة سداد امتدت حتى عام 1886. تلك الضريبة
الضخمة، التي فُرضت على بلد وليد قوامه العبيد المعدمون، جعلتهم يأكلون الطين
حرفيًا، لا مجازًا.

فصنعوا لأنفسهم فطائر من التراب الجبلي المخلوط بالملح والماء، ويقول سكان هايتي إنها تملأ المعدة حتى ولو كانت بلا أي قيمة غذائية. وباتت الجزيرة التي اعتادت أن تمد أوروبا بـ40% من السكر و60% من القهوة اللذين تستهلكهما أوروبا كاملة جزيرة خراب كبيرة، فقد كانت تلك الثروات لعنة على الجزيرة التي تحوّلت إلى حظيرة عبيد من مختلف دول العالم، وغرقت هايتي في فقر لم يُرفع عنها حتى اليوم، بسبب الاستعمار الأمريكي اللاحق وما تلاه من فصل عنصري واضطرابات اجتماعية وانقلابات متتابعة.