قدمت دراسة المنظومات البعيدة عن الاتزان في الفيزياء عبر ديناميكا الأنظمة System Dynamics فرصة ذهبية لعدد من المجالات كالبيولوجيا و الذكاء الاصطناعي والعلوم الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والدراسات الثقافية لامتلاك أدوات جديدة أكثر فاعلية لفهم تكوّن أنماط جديدة مُرتّبة ضمن النظم محل الدراسة و إرجاع تنوعها وتنظيمها لجانب فيزيائي الطبع من تكوينها، كان ذلك تحولًا ثوريًا ربط العلم كله في عقدة واحدة، تحول كامل لفهم الطبيعة من وجهة نظر اختزالية لوجهة نظر كلية، من وجهة نظر حتمية لعالم غير حتمي مسكون بالفوضى والجواذب attractors والإمكانات المفتوحة، من وجهة نظر تسمح بالانعكاس Reversible لوجهة نظر لا تسمح به Irreversible، من الحديث عن كينونات Beings للحديث عن صيرورات Becoming!

دعنا نضع تلخيصًا لما عنيناه في مقال سابق بـــ «

التنظيم الذاتي

» ثم نبدأ في شرح ما تعنيه المصطلحات المعقدة: يظهر التنظيم الذاتي بشكل لحظي من اضطراب بسيط في حالة بعيدة عن الاتزان تحفزه حلقات تغذية رجعية بعلاقات لا خطّية

.


لفهم ما يعنيه مصطلح «تغذية رجعية Feedback» دعنا نفترض أنك مدير شركة ما لإنتاج حلوى الأطفال، سوف تطرح منتجك الأول في السوق ثم تقوم بعمل استقصاء لمعرفة رأي الجمهور في المنتج الجديد، بعد ذلك سوف تستخدم تلك المعلومات في تحسين إنتاج الجيل الثاني من إنتاجك ثم تقوم بعمل استفتاء آخر للجمهور وهكذا. إنه نفس المنطق الذي ترتفع به شعبية منشور ما على فيسبوك، سوف يعجب بعض الأفراد بالمنشور وسوف يدفع ذلك المنشور عبر خوارزمية فيسبوك للظهور أمام عدد أشخاص أكبر والحصول على عدد إعجابات أكتر و هكذا. التغذية الرجعية إذن تحدث حينما تعاود النتائج دورتها للتأثير على الأسباب مرة أخرى سواء بالسلب أو الإيجاب في حلقات مستمرة؛ لذلك تسمى Feedback Loops. لنحاول تطبيق ذلك على مثال رياضي.

دالة

دالة

في الرياضيات، تعني كلمة «دالة»: علاقة بين مدخلات و مخرجات. حينما نقول أن «دالة س تساوي (س+1)» يعني ذلك أن أي رقم «يدخل» صندوق الدالة «يخرج» مضافاً إليه 1، دالة 1 إذن = 2، و دالة 5 تساوي 6، و هكذا. هناك نوع من الدوال يسمى الدالة التكرارية iterated function و هي الدالة التي تكرر ذاتها بوضع المخرجات – النواتج – محل المدخلات مرة بعد مرة؛ أي أننا أمام حالة تغذية رجعية. دعنا الآن نجرب تكرارية الدالة د(س)=س+2 و نقارنها بتكرارية نفس الدالة مع رفع الـ س للأس 2:

دالة 2

دالة 2

هل تلاحظ الفرق؟، لقد كررنا كل من الدالتين 4 دورات فقط، في الدالة الأولى والتي يمكن اعتبارها علاقة «خطّية» ترتفع قيمة المخرجات من الدالة بشكل منتظم لتصل إلى الناتج 11 في نهاية الدورة الرابعة، بينما في الدالة الثانية والتي يمكن اعتبارها علاقة لاخطّية ترتفع قيمة المخرجات بشكل مجنون!، هذا ما يحدث حينما تُستخدم التغذية الرجعية في تكبير شأن اضطرابات بسيطة عن طريق علاقات لاخطية، قوانين غاية في البساطة تعطينا نتائج غاية في التعقيد. في الحقيقة قام بينوا ماندلبروت الرياضياتي الفرنسي-أمريكي باستخدام تلك الخاصية للدالة س

2

+2 و طبّقها على مستوى الأعداد المركبة Complex plane ثم قام بتمثيلها بصريًا ليخرج لنا واحدًا من أشهر الأشكال في تاريخ الرياضيات، بصمة الإله أو مجموعة ماندلبروت.


تنضم مجموعة ماندلبروت لكيان كامل من الهندسة يدعى الهندسة الكسيرية Fractals، و هو ما يمكننا من فهم حالات كثيرة من الانتظام الذاتي في الطبيعة، كتفرع الشجر و الأوعية الدموية في جسم الإنسان و انتظام كريستالات الثلج.. إلخ. إنها حالات من التكرار أو التجمع الذاتي Self-assembly حيث تتمكن نماذج معينة من تكرار ذاتها بشكل لا نهائي، لكن الفراكتلات لا تكرر ذاتها تمامًا، بل تتغاضى عن أهمية المقياس Scale في أثناء التكرار كما بالصورة:

box

box

دعنا نضرب مثالاً شهيرا هنا و هو منحنى كوخ، كالعادة نبدأ بقانون بسيط: في منتصف كل قطعة مستقيمة ضع ضلعي مثلث، و كرر العملية. في البداية يبدو الوضع بسيطًا – كما كان في الحالات الأولى من تكرار الدالة س منذ قليل، لكن بعد فترة ليست بطويلة يبدأ التنوع و التعقد في الظهور.

complex

complex

تستطيع تلك التغيرات التي سببتها التغذية الرجعية الموجبة من اضطرابات بسيطة أن تخلق ما نسميه جاذب Attractor، نقطة نظام صغيرة تنشأ في خضم حالة الفوضى تمتلك القدرة على «جذب» باقي النظام لتوجهاتها، بحيث يبدأ نمط جديد في التكون.

tumblr_my8fmm1BvP1rrn5jco2_1280

tumblr_my8fmm1BvP1rrn5jco2_1280

تدفع بنا تلك الحالة لما يمكن أن نسميه «تحول طوري Phase transition» و هو ما يحدث حينما يصنع تغير كمي بسيط في المدخلات انتقالاً نوعيًا كبيرًا في حالة النظام ككل، كأن يتحول الجليد لبخار مثلًا – «التسامي»، حيث يظل النظام – الجليد – محتفظًا بصلابته حتى درجة حرارة معينة تكسر تلك الحالة محدثة تحولًا نوعيًّا – ثورة – في شكل النظام لتحكمه قوانين و معايير أخرى جديدة، بعد سقوط النظام تنشأ حالة من الفوضى يحكم بعدها نظام جديد Regime shift، في تلك النقطة تتدخل نظرية التفرع Bifurcation theory لتقول إنه في الحالة الانتقالية يمكن للنظام أن يتطور لأكثر من حالة مستقبلية عبر وجود جواذب مختلفة، ويظهر تطور المنظومات على أنه نوع من التوازن المتقطع Punctuated Equilibrium؛ أي أنه يواجه حالات من الاتزان وحالات من التقلب خلال مراحل تطوره.

يُنظر هنا لتطور الأنظمة بجميع أشكالها: الفيزيائية، الاقتصادية، السياسية، البيولوجية.. إلخ، على أنه حالة من التفاعل المتبادل بين الانتظام و الفوضى، بحيث يحافظ النظام على ذاته في حالة بين الاتزان الشديد التي لا تسمح بأي نوع من التغير أو نشوء تطور و بين الفوضى الكاملة أو العشوائية، تسمى تلك الحالة: حافة الفوضى edge of chaos. كان أول من استخدم هذا المصطلح هو عالم الكومبيوتر كريستوفر لانجتون حينما أشار إلى مساحة بسيطة من التحولات في النظم الحاسوبية تتمكن من إنتاج ما يدعى الخلايا ذاتية السلوك Cellular Automaton والتي تعيد إنتاج ذاتها لتخلق هياكل منتظمة، لا تظهر البنى المعقدة Complex systems إلا في فضاء من التحول الطوري بين الأنظمة، المساحة صاحبة الاسم الأكثر درامية «حافة الفوضى»، أو صاحبة الاسم الأشهر في الفيزياء والكيمياء «الحالات البعيدة عن الاتزان Far from equilibrium».

نحتاج إذن لقدر مناسب من الإنتروبي – عدم الانتظام – لبدء عملية تنظيم ذاتي. دعنا نعيد النظر في مثال ضربناه في المقال السابق: إذا دخلت غرفتك التي كانت غير منظمة بالأمس لتجدها منظمة فسوف تتوقع فورًا أن أحدهم دخل و نظمها، لكن حالات التنظيم الذاتي لا تتطلب وجود تدخل خارجي يبذل طاقة للتنظيم، بل تتطلب بعض الإنتروبي لإعطاء النظام قدرًا من التنوع و الزخم لخلق أنماط جديدة، بحيث لا يحتاج النظام لتدخل خارجي. يقول إيليا بريجوجين: الإنتروبي ثمن البنية؛ أي: لكي نصنع بنية جديدة منظمة يجب أن ندفع ثمنها إنتروبيًا.

مصطلحات جديدة تمامًا تطرق باب العلم، فوضى و عشوائية و اضطراب وفكر نُطُمي و أنظمة متعقدة متكيفة تتمكن من اكتساب صفات من القوة Robustness لتلافي مشكلاتها و التكيف Adaptation لتتقدم للأمام، بل ربما في أثناء رحلتك مع كل تلك المفاهيم والبنى التي كوّنتها تفتقد للقدرة على الإجابة على أسئلة ببداهة: ما هي الحياة؟. فالجميع من حولك – كان حيًا أو غير حي، أو كان واعيًا أو غير واعٍ، بتصنيفاتك القديمة – يتعامل بنفس الطرائق و المبادئ على اختلاف مقاييسها، المجرات تتخذ أشكالاً حلزونية بديعة و ترتبط فيما بينها بنفس النمط الذي ترتبط به قرى مركز طلخا أو منيا القمح مثلًا، يتخذ البشر في حياتهم نفس الأنماط التي يتخذها النمل و الدلافين و قطعان الحمير الوحشية، تفتح تلك العلوم الجديدة المسمى مجموعها علوم التعقد Complexity sciences الباب لأسئلة جديدة تمامًا، و تدفعنا – كعادة العلم – للتشكك في مبادئ اعتقدنا فيما مضى أنها أساسات البنية العلمية، لكن دعني هنا أكرر سؤالي: ما هو العلم؟.

إذا كان العلم هو محاولة جاهدة من المجتمع البشري لفهم طبيعة وجود هذا العالم المجهول و وجودنا من خلاله فنحن إذن في لحظات ينتصر فيها العلم في مواجهة اعتناقنا لبعض الأفكار لمجرد أنها جميلة أو أنها «ما تعودنا عليه». إذا كنا نود فعلاً استكمال رحلتنا للفهم فيجب أن نتحمل بعض الضربات لما نعتقد أنه حتمي أو ضروري بينما هو ليس كذلك، إذا كنا نريد فهم الطبيعة فيجب أن نحترم رغبتها في التعبير عن نفسها كما ترغب لا كما نرغب.


المراجع



  1. Order out of chaos: man’s new dialogue with nature – Ilya Prigogine
  2. Complexity Theory Course: Complexity academy
  3. Self-organizing universe: erich jantsch