أُتيحت لي الفرصة أن أوجه سؤالًا لأحد الأعضاء البارزين في حكومة «أربيل»، كان السؤال متعلقًا بمدى رؤيته لاحتمالية استقلال الأكراد بدولتهم خلال هذا العقد، وهل يعتقد حقًا أن تلك الدولة لن تكون كسابقاتها من المحاولات الكردية التي قُتلت في مهدها. وكان جواب الرجل شديد الصراحة والوضوح، حيث قال بعربية سليمة «الأكراد هم آخر من سيترك وحدة العراق، سنظل جزءًا من العراق إلى أن لا يرغب في بقائنا أحد».والآن نجد أنفسنا على أعتاب استفتاء كردي لتحديد المصير في الـ 25 من أيلول/سبتمبر الجاري، والذي

قال

عنه مسعود البرزاني، رئيس الإقليم، إنه مستعد للتضحية بنفسه من أجل إقامة «دولة كردستان»، فما الذي تغير فجأة في الموقف التكتيكي للأكراد؟ وهل سينجح البرزاني في أن يورث أبناءه رايةً مستقلة أم أن الجوار الإقليمي سوف يكون أقوى من طموحاته؟


الأكراد وتاريخ من المحاولات

العلم الكردي

لا يمكنك أن تكون كرديًا ولا تسري الثورة في دمائك، وأول ما ثار عليه الأكراد كانت اتفاقية سايكس-بيكو، التي حرمت شعبًا تخطى تعداده الأربعين مليونًا من دولة في غمرة ما أنشأته الاتفاقية من دول،

خاض

الأكراد أولى محاولاتهم الثورية للاستقلال عام 1922 بمدينة السليمانية العراقية وريفها بقيادة الشيخ «محمود الحفيد البرزنجي»، ودامت سنتين حتى تحركت القوات العراقية بدعم جوي وبري من الاستعمار البريطاني وسيطرت على السليمانية، وأنهت سيطرة «البرزنجي»، تحولت المملكة الكردية إلى حركة مقاومة في الجبال والطرق والأزقة، لكنها سرعان ما انتهت ليُنفَى الشيخ «محمود الحفيد» إلى الهند ويُقضى على التجربة في مهدها.

لاحقًا

وفي بقعة ليست ببعيدة، استغل الأكراد الفوضى التي تلت الحرب العالمية الثانية في إيران وضعف الشاه الإيراني حينها، فأسسوا جمهورية «مهاباد» في أقصى شمال غربي إيران حول مدينة مهاباد التي كانت عاصمة الجمهورية الوليدة، وكانت دُويلة قصيرة العمر مدعومة سوفييتيًا كجمهورية كردية أُنشئت سنة 1946 ولم تدم أكثر من أحد عشر شهرًا.مثلت تلك الجمهورية أولى بدايات تشكّل الوعي القومي الكردي وبداية التنظيمات السياسية الكردية الحديثة، حيث شهدت تلك الجمهورية دمجًا للحركات الكردية العراقية مع أكراد إيران، حيث كان العديد من قادة الدولة الجديدة عراقيين أصلًا، وعلى رأسهم الملا «مصطفى البرزاني» والد «مسعود البرزاني»، الرئيس الحالي للإقليم، كما أنها كانت أولى محاولات الأكراد

للعب

على حبائل السياسة الدولية.وإلى جانب تلك المحاولات، أقام الأكراد حكمًا ذاتيًا في العراق عام 1975، أُجهض بعد عام واحد، كما قادوا حركة مسلحة في العراق منذ 1920 إلى أن تحقق لهم حكم ذاتي وحماية جوية أمريكية سنة 1992، ثم فيدرالية إقليم كردستان العراق رسميًا منذ 2003، هذا إلى جانب محاولات عديدة في الشطر الآسيوي وخاصة في منطقة (ناغورني قره باغ) المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا.


«البرزاني» يفرض نفسه

بدأ الهمس حول هذا الاستفتاء منذ ثلاث سنوات تقريبًا، وتحديدًا في الأول من يوليو/تموز عام 2014، حين

أعلن

«البرزاني» نيته إقامة استفتاء حول الاستقلال بحلول نهاية العام، لكن لم يكن الظرف الإقليمي مواتيًا، فمع تمدد تنظيم الدولة الإسلامية أصبح تنظيم الاستفتاء شبه مستحيل فتقرر تأجيله.ويبدو أن هذا كان من حسن طالع «البرزاني»، فقد حملت الشهور التالية سطوعًا لنجم قوات البشمركة ودخولها في مظلة الحلف الدولي وتحقيقها انتصارات عدة فشلت فيها القوات النظامية العراقية.وعاد الحديث مرة أخرى عن الاستفتاء مع بداية العام الماضي 2016، حيث

وعد

«البرزاني» بإقامة الاستفتاء قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، ثم عاد فأجله لما بعد

تحرير الموصل

. الآن

يظن

«مسعود البرزاني» أنه لن تأتي لحظات أكثر مواءمة من هذه لاقتناص الاعتراف الدولي باستقلال الإقليم، وإن تأخر الاستقلال الفعلي عقدًا آخر. الآن يلعب الكرد دور عصا التحالف الدولي الغليظة.فعلى الأرض هم الجنود الشجعان، وفي السياسة والأيديولوجيا هم الجانب المعتدل، كما أنهم نجحوا في توسيع شبكة تحالفاتهم يومًا بعد آخر. صحيح أن دول الطوق، كـ تركيا وإيران، لن ترضى عن أي محاولة للاستقلال، لكن رد الفعل الإقليمي اليوم سيكون ألطف بكثير مما كان عليه منذ عشر سنين مثلًا. كما أن نجاح الأكراد في بسط سيطرتهم على ما كان يعد مناطق متنازع عليها مع بغداد، لا سيما كركوك الغنية بالنفط والغاز أمّن للإقليم موارد مالية تمكنه من الصمود في حالة تصاعد التوتر الإقليمي على حدوده.


هل ينجح الأكراد في اختبار أيلول؟

الأكراد

يواجه الأكراد هذا الشهر سؤالين في غاية الأهمية؛

أولهما يخص نجاح مكونات الدولة الكردية في تنظيم الاستفتاء أصلًا، والذي من المتوقع أن تواجهه الكثير من

العقبات

،على رأسها الحكومة العراقية، والتي مع إعلان رفضها المسبق لنتائج الاستفتاء فإنّها تستخدم طرقًا مختلفة لمنعه، فمع الحوار والضغوط والوساطات التي تطرحها، يؤكد مراقبون أنّ الخيار العسكري مطروح من خلال الجيش العراقي ومليشيا «الحشد الشعبي»، وأن معركة الحويجة هي الخطوة الأكثر تأثيرًا لمنع هذا الاستفتاء، إذ إنّ مجرد وجود عمليات عسكرية في منطقة ما، سيجعلها غير مهيأة لأي تصويت، كما أنّ المراقبين الدوليين سيمتنعون عن متابعة الاستفتاء، مما يفقده الحيادية والشرعية.أما السؤال الثاني فهو عن قابلية هذا المولود الجديد للعيش في محيط إقليمي مضطرب، فالعديد من القوى الإقليمية وكذلك السكان العراقيون غير الأكراد يعارضون إقامة دولة كردية مستقلة. والحال نفسه كذلك بالنسبة إلى

تركيا

، التي تتمتع بعلاقات متينة للغاية مع قيادة حكومة إقليم كردستان، وكذا الحال أيضًا بالنسبة

لإيران

.وعلى الرغم من الظروف الدولية التي تصب في مصلحة الأكراد، فإن ثمة معادلة تاريخية تتلخص باتفاق الدول التي يوجد فيها الأكراد على منع إقامة دولة كردية في المنطقة، لقناعة هذه الدول بأن إقامة دولة كردية في أي جزء ستؤثر في القضية الكردية في الدول الأخرى في شكل مطالبات بالمزيد من الحقوق وصولًا إلى مطلب إقامة دولة قومية موحدة.أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد الراعي الدولي لكفاح الأكراد، فقد

أعلنت

رفضها لتوقيت الاستفتاء رغم تفهمها لمطالب الأكراد. فمن هم حلفاء «البرزاني» في سعيه نحو الاستقلال؟على رأس القائمة تأتي «إسرائيل»، وربما إسرائيل فقط، حيث

أبلغ

رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» الكونجرس الأمريكي بأنه يدعم استقلال إقليم كردستان عن العراق، بحسب صحيفة «جيروزاليم بوست». ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن «نتنياهو» خلال لقاء جمعه مع وفد مكوّن من ثلاثة وثلاثين عضوًا في الكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي قوله، إنه «يؤيد إقامة دولة كردية مستقلة في أجزاء من العراق». وقال نتنياهو: «علينا أن ندعم التطلعات الكردية من أجل الاستقلال». وأشار إلى أن الأكراد «شعب مناضل أثبت التزامه السياسي واعتداله السياسي ويستحق الاستقلال السياسي».أما السؤال الذي لا يسأله أحد حقيقةً فهو كيف سيكون حال الدولة الكردية، وهل يرغب المجتمع الكردي حقًا في الانفصال أم أنه يجاري طموحات وأحلام الشيوخ؟

يرى

البعض أن الاستفتاء يخاطر بإثباط عملية الاستقلال الكردي بدلًا من تمكينها. إذ قد يتمكّن الاستفتاء من تحقيق التطلعات الحقيقية لجيل أقدم من الأكراد الذين عانوا الأمرّين ويريدون الآن أن يخلّفوا إرثًا تاريخيًا. بيد أنهم يتركون جيلًا من الأكراد الشباب مع ميراث من الإصلاحات السياسية غير المُنجزة، ومؤسسات ضعيفة خاضعة لسيطرة شبكات شخصية، وعلاقات عدائية مع الجوار. لذلك، فهم غير قادرين على بناء وتحقيق حلم الدولة المستقلة.في النهاية، ورغم ما يحمله هذا الاستفتاء من زخم إقليمي ودولي فإنه يظل استفتاء غير مُلزم للانفصال، إنما

يمثل

ورقة مفاوضات بيد «البرزاني»، إن لم تمكنه من الاستقلال فستمكنه من بداية علاقة جديدة مع بغداد، مبنية على عدم تدخل أي من الطرفين في الشئون الداخلية والخارجية للطرف الآخر، عبر تطبيق نظام حكم وشكل دولة جديد، لكن دون أي انفصال تام. ويدرك الأكراد جيدًا أنه وإن تم الاستفتاء بصورة طيبة فإن الاستقلال الفعلي سوف يحتاج لسنوات عديدة ولظروف إقليمية أشد تسامحًا، ولجغرافيا أكثر ليونة من تلك التي يعيش فيها الأكراد الآن. يحتاج الاستقلال إلى ترسيمٍ للحدود، وبناء للمؤسسات، وضمان اعتراف الدول العظمى بالدولة الجديدة، والأهم من ذلك فتح منفذ تجاري بحري على العالم، وهو ما لا يملكه الإقليم حاليًا.