كيف يسكت الله عن كل هذه الانتهاكات في حق الأطفال كل يوم ؟ كيف يرضى الله عن كل هذا الشر، وكل هذا الدم ؟ لماذا يخلق أطفالًا مُشوّهين، إذا كان قادرًا على خلقهم في صورة سويّة ؟

هل الإله عاجز، فهو لا يستطيع أن يوقف كل هذا السوء والشر في العالم ؟

أم أنه شرير، فهو يتغنّى بصراخ الأطفال، ويتلذذ بهراقة الدماء، ويستمتع بقتل العزل والأبرياء ؟

منذ بضعة أيام طرحت هذا السؤال في

صفحتي على «فيس بوك»

، بالطبع اتهمني البعض بالإلحاد، والبعض الآخر قال لي – علي طريقة (اللا أدريّين: وهم الذين يقولون بأن الإنسان لا يستطيع أن يحسم قضية وجود الإله) – أن هذه أمور يعجز العقل عن فهمها، وأنه لا يجوز أن أفكر وأسأل مثل هذه الأسئلة، «التي تربكهم إلى أقصى حد»، غير أن قلّة فقط هم الذين فكروا، وبحثوا، ثم أجابوني بإجابات منطقية، وغير منطقية.

حجة الشر هي من أكثر حجج الملحدين قوة، إن لم تكن أقواها، في هذا السلسلة من المقالات أحاول أن أساهم في الإجابة، والرد عليها، لا أزعم أنني وصلت إلى معرفة الحكمة الإلهية كلها – وهو الأمر الذي يعجز العقل عن الوصول إليه بالفعل – غير أنني انتهيت إلى جزء منها.

ملحوظة: المقال هام؛ قد تحتاج لقراءته أكثر من مرة، وفي كل مرة ستتضح جوانبه أكثر.

سأبدأ بطرح القضية طرحًا موضوعيا، ثم أباشر بذكر الحجج والبراهين اللازمة، وفي نهاية كل حجة سأطرح سؤالًا أو جهه لصاحب القضية، غير أنني لن أطلب منه جوابًا، ولنسمّه فرضًا بـ«السيد س»، فلنبدأ..


طرح القضية

من صفات الإله أنه:

– كلّيّ العلم «عليم، يعرف كل شيء قد حدث أو يحدث أو سيحدث».

– كلّيّ القدرة «قدير، يستطيع أن يفعل كل ما يريد، كل ما يشاء، ولا أحد يحول بينه، وبين ذلك».

– كلّيّ الخيرية «رحيم، يرحم الخلق، ويحب الخير، ويفعل الخير».

هذا ما يعرف بـ «معضلة أبيقور»؛ ذاك أن أول من طرح هذه القضية هو الفيلسوف الإغريقي أبيقور، وتعرف أيضًا بـ «مشكلة الشر»، أو «الثلاثي غير المتسق»؛ لأنه – كما يقول أبيقور – إذا ثبت اثنان منها – الصفات السابقة -، بطل الثالث بالضرورة.

هذه الصفات الثلاث لا يمكن أن تجتمع في إله حكيم متصرف يمسك بزمام أمور هذا الكوكب الذي يعاني من الآلام والتباريح والحروب والكوارث والمجاعات ما يعاني.

لكن الكل متفّق على أن الكوكب مليء بالشرور، (ومليء هنا لا تعني أن كله شر، ذلك أن الكل تقريبًا يتفق أن هناك نسبًا متفاوتة للخير، إلا «شوبنهاور»)، والأمراض والكوارث … إلخ؛ وبناء على ما سبق، نستطيع أن نستنتج أمرًا من ثلاثة أمور:

– إما أنه ليس كلّيّ العلم: لا يعرف بما يحصل في هذا الكوكب، وفي هذه الحالة، لا يصلح أن يكون إلهًا.

– إما أنه ليس كلّيّ القدرة: يعرف بما يحدث، ولا يقدر على تغييره، أو تبديله، وفي هذه الحالة لا يصلح أن يكون إلهًا أيضًا.

– إما أنه ليس كلّيّ الخيرية: يعرف بما يحدث، ويقدر على تغييره، ولكنه لا يريد ذلك، لكن كيف بإله يعرف ويقدر على تغيير كل هذه الآلام، ولا يبغي ذلك! ففي هذه الحالة لا يصلح أن يكون إلهًا أيضًا.

هذه حجة الشر ببساطة، أعرف أنها تبدو – لأول وهلة – كأنها قضت على الإيمان، وسحقته سحقًا، لكن سيتضح الصواب من الخطأ في النهاية.


إله شرير ولكنّه موجود

بدايةً قبل أي شئ، فإن حقيقة أن الإله شرير لا ينفي وجوده، من الممكن جدًا أن يكون موجودًا، لكنه شرير، هو خلق البشر، ومن حقه أن يعذّبهم، فمعضلة الشر تواجه في الأساس «الإله الإبراهيمي»، وهو الإله الموجود في الديانات الإبراهيمية، المتّصف بأنه كلي العلم والقدرة والخيرية، فاستنادًا إلى معضلة الشر، هذا الإله غير موجود، لكن هذا لا ينفي وجود إله ذي صفات أخرى.

هذه نقطة هامة جدًا؛ لأن معظم الملحدين يتسرّعون، فيقولون: بما أن الإله شرير، إذا هو غير موجود، وهذا خطأ! بالطبع هو غير موجود؛ إذا ما قارنّاه بالإله الذي في الأديان أو في أذهان الأحبار والرهبان، لكن هذا لا يثبت أنه لو كان الإله شريرًا، فهو غير موجود، فهذه تعد سذاجة و«سفسطة» غير منطقية بالمرة.

إذن فقد انتهينا الآن – بناء على هذا الطرح – أنه يوجد إله (كما يعترف المؤمنين بمشكلة الشر في مقدماتهم لها)، وهو إله شرير.. فلنكمل!


هل هو شر مطلق؟

حسنًا الآن نأتي إلى نقطة هامة، وهي: هل هو شر مطلق؟

إذا فكّرنا قليلًا سنجد أن الأصل في كل شيء هو الخير، وأن الشر غير موجود إطلاقًا، غير أنه يتخلل الخير، كشذرات أو استثناءات.

فالأصل في كل شيء هو الصحة، وأما المرض فيدخل عليها، ولا يلبث – عادة ـ أن يذهب ثانية، وترجع الصحة مرة أخرى. والأصل في المطر أنه خير، ولكن يتخلل هذا الخير استثناءات، فيصير المطر سيولًا تدمّر الطرق والبيوت، لكن هذا مجرد استثناء.

والأصل في الحياة أنها سلام ، ولكن يشوب هذا السلام استثناءات؛ فتحدث حروب ونزاعات تدمر القرى والبلاد، لكن هذا مجرد استثناء.

والأصل في الجو الاعتدال، وأما العواصف، أو موجات البرد والحر، فتحدث خلال فترات قليلة من السنة، ويظل الجو معتدلًا باقي السنة.

والأصل في البراكين أنها تنفجر في المحيطات أو بعيدًا عن البشر، لكن تحدث استثناءات، فتنفجر بجانب قرية ما.

أما لماذا صرنا نشعر بأن كل المطر شر، وأن الحروب والمعارك تسود العالم، وبأن البراكين تنفجر يوميًا مسببة مئات الآلاف من القتلى، فذلك لأننا نسمع كل يوم في الأخبار هذه «الاستثناءات» بكثرة، حتى أمسينا نعتقد أنها الأصل: فنحن لا نسمع في الأخبار ـ مثلًا ـ عن هطول الأمطار بسلام في بلد كذا، وأنها سقت الناس، بعد ظمأ، وروت الزرع، بعد جفاء، وصار الناس يهللون من الفرحة، ولا نسمع في الأخبار عن الدولة كذا، التي تنعم بالسلام، ويسودها الأمن والأمان، ولا نسمع عن البركان الذي انفجر في المحيط، ولم يؤذ أحدًا! نحن لا نسمع عن هذا أبدًا، بل نسمع عن الآلام والمصائب فقط؛ حتى ثبت في عقولنا أن الكوارث والحروب تعمّ الأرض.

وزبدة القول في نسبية الشر ومحدوديته بالنسبة للخير، أن من يعترض على أسباب الشر، كمن يعترض على خلق الماء؛ اعتراضًا على الفيضانات، أو كمن يعترض على خلق المعادن المخصّبة للتربة، والحرارة اللازمة لحياة الإنسان؛ إعتراضًا على ثوران البراكين.

إذن فالشر، ليس مطلقًا! بالعكس، بل هو شرٌ نسبي، وليس حقيقيًا، فما يكون شرًا لشخص ما، قد يكون خيرًا لآخر، بالإضافة إلى أن الشر يعد استثناء، والخير هو القاعدة.

عندما يلدغك العقرب بسُمّه فأنت تتأذّى بشدة، وتطلق على هذا الفعل شرًا، لكن إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية أخرى سنجد أن هذا السم ضروريًا للعقرب؛ لكي يدافع به عن نفسه، ولازمًا لاستمراره وبقائه في الحياة، فهنا يتضح لنا أن الشر نسبيّ.

إنه مثل قول المتنبي «مصائب قوم عند قوم فوائد».

إذا قلنا إن الحية والعقرب ذوا سُم، سائل معين معروف بتركيبه الكيميائي، يسمى «سُمًّا» أو (Poison) أو أيًا كان الاسم الذي تطلقه عليه، الكل يتفق عليى أن السم موجود بتركيبه الفريد، لكن إذا قلنا إن سُم الحية والعقرب شر، فهذا ليس وصفًا واقعيًا، هذا وصفٌ انتزاعيّ، فبالقياس إليَّ أنا الذي أتأذي وأتضرر وأفقد حياتي الثمينة؛ جراء لدغة الحية أو العقرب، هذا يعد شرًا، لكن بالنسبة إليها – الحية – هل سُمها شر؟ بالعكس، بل يعد من لوازم وجودها وبقائها، فلولا هذا السم لهلكت الحية.

إذن السم موجود والحية موجودة، وصف واقعيّ، أما السم شر، والحية شر، فوصف انتزاعي قياسي.

يحدث أن نرى كائنات حية تموت بالملايين، مثل الجراثيم والحشرات، ثم نقول «هذا شر»، وهذا يعد شرًا بالفعل؛ إذا ما نظرنا له وحده، أما إذا نظرنا إلى المنظومة ككل – إلى الكون ككل، سيتضح لنا أنه عين الخير، فهذه الكائنات لو عاشت لغطت سطح الأرض بكثرتها (يمكنك أن تعود إلى معدلات تكاثر الحيوانات أو الاتزان البيولوجي)، أو لانقرضت كائنات أخرى كانت تتغذى عليها هذه المخلوقات، هذا ما يسمى بالتوازن، فكل شيء في الوجود، مهما كان هيّنا وصغيًرا، هو ضروري للحياة؛ ولإتمام «السيمفونية» الكونية.

قد تنظر إلى آلة شديدة التعقيد، وتمسك ببرغي صغير فيها، وتقول إنه لا فائدة منه، ولا أهمية له، لكن إذا نظرت إلي دورهِ في الآلة ككل، ستجد أن الآلة يمكن أن تتوقف عليه، بالرغم من أنه قد يساوي 5 فلسات، إلا أن له أهمية – ولو صغيرة – داخل الآلة.

لذا فإن ما قد يعد شرًا؛ إذا نظر إليه وحده، سيُنظر إليه على أنه خير لازم ضمن المجموع الكلي.

بعد هذا كله، فالله لم يتركك هكذا لتعاني من سم العقرب، أو تتألم من انفجار البركان، أو تتعذب من اهتزاز الأرض، أو تقاسي من آلام المرض، ولكنه سخّر لك الأدوات، وأعطاك العقل؛ لكي تصنع مصلًا؛ ينقذك من سم العقرب، ولكي تبني بيوتًا بعيدة عن البراكين، وتستفيد من المعادن المستخرجة منها عند انفجارها، ولكي تصنع آلات تكشف الزلازل؛ فتعرف وقت وقوعها، ولكي تصنع الأدوية والأجهزة الطبية التي تبرئك من سقمك.

وهذا ينقلنا إلي السؤال الأول للسيد س:

لو كان الإله شريرًا ، فلماذا الشر نسبي؟

أما السؤال الثاني للسيد س:

لو كان الإله شريرًا، فلماذا أعطاك العقل، وسخر لك الأرض، وأمدك بالأدوات اللازمة؛ لكي تتغلب على هذا الشر «النسبي»؟

هكذا نكون قد أنهينا الجزء الأول من المقال، وأرحب بكل الانتقادات والآراء، باحترام وأشير إلي أنني سأجيب علي الجميع بعد نشر الجزء الرابع من المقال.