في الثالث من فبراير/شباط 2020 خلال ذروة أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد، أبهرت بكين العالم بتشييد مستشفى ضخم من الصفر خلال 10 أيام فقط، مجهز بأحدث المعدات ويضم ألف سرير في مدينة ووهان معقل انتشار المرض. وبقدر ما أثار هذا العمل إعجاب سكان الكوكب من الاقتدار الصيني، وذكّرهم بأنه لا يوجد دولة أخرى تمتلك هذه الطاقات الجبارة وتستطيع مجاراة الصينيين، إلا أن الشيء الوحيد المفقود من هذا المشهد المثير كان

المرضى

أنفسهم.

وبما أن معظم الأخبار التي ظهرت حول هذا المستشفى وأمثاله تأتي من الحكومة الصينية، كان هناك القليل من المعلومات حول مدى فعالية مثل هذا الأمر على أرض الواقع، نتيجة الحرص على نقل الأخبار التي تعزز الصورة الإيجابية عن بكين في وقت اعتبرها العالم فيه منبع الوباء وانتشرت مشاعر الصينوفوبيا (كراهية الصين).

تمتلك الصين أكبر جيش في العالم لكنها بدلًا من نشر مستشفيات ميدانية متنقلة بشكل عاجل لاستيعاب المرضى، اختارت الطريق الأصعب والانتظار لعشرة أيام، لأن منظر المستشفيات الميدانية يظهر الدولة وكأنها تعاني من أزمة، بينما تشييد مستشفى من الألف إلى الياء في وقت قياسي يعطي صورة أن الأمر تحت السيطرة.

تلك العقلية هي نفسها التي تعاملت عام 2003 مع أزمة تفشي مرض سارس، حين تم بناء

مستشفى شياوتانغشان

في ضواحي العاصمة في ستة أيام فقط، حطمت الرقم القياسي العالمي لأقصر مدة لبناء مستشفى في العالم، وشجع الحكومة على تكرار هذا العمل لاحقًا في ووهان.

اتضح في ما بعد أن بكين تورطت في

محاولة منسقة للتغطية على الأزمة

خلال الأسابيع الأولى من تفشي المرض، مما سمح له بالتفاقم في وقت كان من السهل احتواؤه – كما وقع إبان أزمة سارس عام 2002 – إذ لم تستمع السلطات إلى تحذيرات الطبيب بمستشفى ووهان، لي وين ليانغ (34 عاما)، حين تحدث عن ظهور مرض جديد وخطير في ديسمبر/كانون الأول 2019، بل تم توبيخه وإسكاته من قِبل الأجهزة الأمنية حتى لقي حتفه في هدوء بعد أكثر من شهر بقليل متأثرًا بإصابته بالفيروس، وأثارت وفاته نقاشًا نادرًا في الصين حول حرية التعبير.

أثبتت مركزية نظام الحزب الشيوعي وثقافة الصمت مدى خطورتها حين تسببت في انتشار الوباء. وحتى عندما عكست الحكومة مسارها واعترفت بالأزمة، ركزت على تحسين صورتها وتعزيز سطوتها، وتكرر أسلوب إدارة الأزمة في حالتي سارس وكورونا؛ فالموظفون البيروقراطيون تخلوا عن المسؤولية واستمروا في السعي للحصول على استحسان رؤسائهم عبر التستر على الأخطاء والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام.

ففي ظل غياب صحافة حرة يمكنها إثارة القضية أو وجود طرق لحساب الموظفين المتقاعسين الذين لا يخضعون إلا لمساءلة قادتهم طبقًا للتسلسل الهرمي للحزب الشيوعي، تزيد احتمالية وقوع وتفاقم أزمات كان يمكن احتواؤها بسهولة وتصبح البلاد عرضة لقرارات سلطوية غير مدروسة لا يجرؤ أحد على مناقشتها أو مراجعتها وإلا اتُّهم بأنه عدو للبلاد وعميل للأعداء، لذا لا يمكن الاعتماد على نظام الدعاية المصمم لدعم الحزب والدولة للحصول على معلومات دقيقة حين تغيب أي وسائل إعلامية مستقلة.

وكشفت الهوة الكبيرة بين الإجراءات الحكومية والمتطلبات الواقعية
الأكثر تعقيدًا، أن المركزية المفرطة في اتخاذ القرارات تعد من أكبر التحديات أمام
النظام الشيوعي الذي يتسم بضعف آليات المحاسبة وقوة آلة البروباجندا.

دولة الحزب الشيوعي

تعاني الصين من سلطوية الحزب الشيوعي الذي أحكم سيطرته على البلاد بقيادة الزعيم ماو تسي تونج منذ عام 1949. وفي عهده الذي استمر حتى عام 1976، تجلت الديكتاتورية في أوضح صورها في قرارات كارثية لم يراجعه فيها أحد. فعندما أطلق مشروع «القفزة العظيمة» بهدف اللحاق باقتصادات الدول الصناعية الكبرى، كان مسؤولاً عن إحدى أسوأ المصائب التي عرفها العالم على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، عندما أطلق مشروع إنتاج الصلب، أجبر المواطنين على توفير المواد الخام اللازمة. فوصل الأمر بهم للتخلي عن أوانيهم ومقتنياتهم لإلقائها في أفران الصلب دون تحقيق أي فائدة، وفشل المشروع بسبب رداءة المنتج.

وفي عام 1958، أمر بإبادة العصافير بعد نشر مقال يحذر من أنها تلتهم حبوبًا زراعية تكفي لإطعام 35 مليون شخص سنويًا، وتم تنفيذ حملة واسعة أبادت هذه الطيور حتى في المدن والمناطق الحضرية حيث لا يوجد حقول أصلا، فكثرت الحشرات التي كانت العصافير تأكلها وقضت على المحاصيل وتسببت في مجاعة راح ضحيتها عشرات الملايين من المواطنين على خلاف في التقديرات (الأرجح 38 مليون)، واضطرت البلاد إلى

شراء طيور

من كندا والاتحاد السوفيتي في محاولة لإصلاح الخلل الكارثي الذي حدث في التوازن الطبيعي، دون أن يعترف ماو بخطئه بطبيعة الحال أو يجد من يجرؤ على التحدث في هذا الأمر، بينما سكت

العلماء

المتخصصون خوفًا من بطش الحزب الشيوعي.

صحيح أن البلاد تقدمت تكنولوجيًا وتخلصت من اشتراكية ماو على يد دينج شياو بينج، مهندس مشروع النهضة، لكنها لم تتخلص من الإرث الاستبدادي للحزب الشيوعي الذي ما زال يحكم قبضة فولاذية على الدولة حتى اليوم، ويسعى لتسخير التكنولوجيا ليعد على الناس أنفاسهم، ويحاول النفاذ إلى عقولهم وكشف ما تخفي الصدور، حيث تعكف ما لا يقل عن

27 شركة صينية

على تطوير وإنتاج تقنيات التعرف على المشاعر لحساب أجهزة الدولة.

ولم تكتف بكين بهذا، بل شرعت في محاولات حثيثة للحصول على أدوات تتيح التحكم بضغطة زر في ما تحويه عقول المواطنين وقلوبهم وتوجيههم مثل الروبوتات. ففي أواخر عام 2021 كشفت واشنطن عن مشروع صيني في مجال التكنولوجيا الحيوية يهدف لإنتاج أسلحة

للتحكم في أدمغة البشر

والتلاعب بجيناتهم، وفرَض البيت الأبيض حظرًا على الصادرات الحساسة إلى أكاديمية العلوم الطبية العسكرية الصينية و11 معهدًا بحثيًا تابعًا لها بسبب تورطها في هذا المشروع الخطير.

يأتي هذا في ظل انتشار وباء كورونا انطلاقًا من منطقة ووهان الصينية التي يرجح أن الفيروس تسرّب من أحد مختبراتها بعد تخليقه ضمن

برنامج

لإنتاج أسلحة بيولوجية.

إمبراطورية الخوف

أدى سلوك السلطات خلال أزمة كورونا إلى تنامي السخط المكتوم، مما أدى لانشقاق عدد من العلماء الصينيين وفرارهم إلى الخارج عام 2020 حاملين معهم معلومات حساسة عن مختبرات ووهان وفيروس كورونا المستجد، وتبعهم بعض المسئولين أبرزهم نائب وزير أمن الدولة،

دونغ جينغوي

، الذي يُعتقد أن بحوزته بمعلومات سرية ودقيقة حول فيروس كورونا، وهي معلومات تسعى الصين لإخفائها.

وكذلك تسببت الحملة الأمنية المسعورة ضد مسلمي الإيجور غرب البلاد في إثارة حالة من السخط داخل الجهاز الحزبي، مما دفع بعضو غامض في المؤسسة السياسية الصينية لتسريب

وثائق حساسة

تتعلق باحتجاز أكثر من مليون شخص في معسكرات «إعادة التثقيف» السياسي، بهدف أن تسهم هذه التسريبات في فضح الحملة ومحاسبة قادة البلاد. وتضمنت الوثائق أسرارًا تفصيلية عن كيفية عمل جهاز القمع خصوصًا ضد المسلمين الإيجور، منها تعرض قيادات من حملة القمع نفسها للاعتقال بتهمة التقصير في ممارسة البطش ضد الإيجور.

وكان نظام الحزب الشيوعي نفى في بداية الأمر وجود أي أثر لتلك المعسكرات عندما أثيرت القضية في الأمم المتحدة عام 2018، ثم

تراجع بعد قليل

ليعترف بوجودها ويبرر ذلك بمحاربة الإرهاب. وتضمنت الحملة الأمنية أشياء صعبة التصديق مثل تعيين موظف للعيش داخل البيوت لمراقبة سلوك أعضاء الأسرة في غرف نومهم.

وتحظر حكومة الحزب الشيوعي دخول المواطنين على شبكة الإنترنت الدولية وتوفر بدائل لمواقع التواصل الاجتماعي المشهورة مثل« فيسبوك» و«تويتر». وتخضع المنصات المحلية لرقابة مشددة من الأجهزة الأمنية بحيث يتم حذف أي تعليق يشتم منه رائحة الشكوى والمعارضة، ويتم حشد لجان إلكترونية للمشاركة في حملات على الإنترنت لمساندة المواقف الرسمية لإظهار ارتفاع شعبية النظام. وتحرص الوكالات الحكومية على اقتناء برامج أو تطبيقات تنشر تعليقات وإعجابات ومشاركات آلية تبدو كأنها صادرة عن أشخاص حقيقيين من مناطق ومحافظات مختلفة، ضمن برنامج لصناعة الرأي العام وليس فقط التأثير عليه.

لكن عندما أتيح تطبيق الدردشة الصوتية «كلوب هاوس» (Clubhouse) لفترة وجيزة في الصين عام 2021، توفرت

فرصة نادرة

لتعرف المواطنين على قصص القمع المروعة، وأعرب كثيرون عن صدمتهم مما يحدث في بلادهم من دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عنه رغم انتشار هذه الأخبار في جميع أنحاء العالم خارج الصين، فتم حظر التطبيق بسرعة ومنع الوصول إليه.