ليس علينا أن نذهب بعيدًا داخل سينما «الأخوين كوين» كي نعثر على مشهد يصلح كمدخل لعالمهما السينمائي، أو مقولة توجز فلسفتهما، ففي المشهد الأول لفيلمهما الأول الصادر عام 1984 «Blood simple»، تأتي هذه الكلمات علي لسان المخبر الخاص «لورين فيسر/مايكل ايمرت والش» على خلفية لقطات لطريق خال، ومناظر طبيعية قاحلة وموحشة لصحراء تكساس ،ممتدة بامتداد النظر:

العالم مليء بالمتذمرين، لكن الحقيقة هو لا شيء مضمون في هذه الحياة. لا يهمني إن كنت بابا روما، رئيس الولايات المتحدة أو رجل العام، لا بد أن يأتي وقت تسوء فيه الأمور. تفضل، وتذمر. أخبر جيرانك بمشاكلك، اطلب المساعدة وستراهم يهربون. ما أنا خبير بها هي تكساس، وهنا أنت بمفردك.

هذا هو عالم الأخوين كوين، أنت وحدك أمام عالم بلا يقين، حيث لا شيء مضمون أبدا مهما كانت نواياك، فالحظ العاثر وعبث الوجود يتأرجحان فوق رؤوس الجميع.


حكايات أمريكية وبصمة الأخوين كوين الخاصة

المخرج الأمريكي إيثان كوين

شكلت سينما الأنواع الأمريكية (الويسترن، الجريمة، الفيلم نوار، الكوميديا،..إلخ) مرجعية فنية لسينما الأخوين كوين، وإطارا تحركت داخله أفلامهما دون أن يحرمها ذلك من أصالتها وطابعها الفريد.

ينتمي أحدث أفلامهما «The Ballade Of Buster Scruggs» إلى نوعية الويسترن (أفلام الغرب الأمريكي) وهو نوع فيلمي له تقاليد عريقة في السينما الأمريكية ومن قبلها في الأدب الأمريكي. طالما شكلت سينما الغرب الأمريكي نوعًا فيلميًا أثيرًا للأخوين كوين فقد حققا من قبل فيلمين ينتميان لنفس النوع هما «No Country For Old Men»، و«True Grit».

وحتى خلال الأفلام التي لا تنتمي لنوع الويسترن، نجد أن هذه الأفلام تدور في أماكن تنتمي للغرب الأمريكي، فالبنسبة للأخوين كوين بيئة الويسترن هي بيئة مثالية لتمرير فلسفتهما ورؤيتهما إزاء الإنسان، والحياة، والموت. هذه البراري الشاسعة والقاحلة والتي تبدو بلا نهاية، تشيع لدى الإنسان إحساسًا بالضياع والعجز، فعريها القاسي يعري أوهامه. سينما الأخوين كوين كهذه الصحارى محرومة من الوهم.

نحن هنا أمام ست حكايات مختلفة، كتبها الأخوان كوين على مدار ثلاثة عقود. ما يجمع هذه الحكايات معًا، أولًا: أنها تدور في الغرب الأمريكي القديم، وثانيًا: هذا الموت الذي يخترقها جميعًا. كل حكاية تحمل في قلبها على الأقل جثة واحدة.

حكايات الغرب الأمريكي هي حكايات الحدود، الحدود البعيدة عن الحضارة الأمريكية، الحضارة التي يمكن وصفها بأنها حضارة تنكر الموت، أما هنا في الغرب فكل شيء يموت. إنه مكان يتقبل الموت كجزء من الطبيعة. تستحيل هنا إذن هذه الحدود إلى تخوم فاصلة بين الحياة والموت، ويستحيل الغرب إلى مكان موسوم بالاغتراب والعزلة والغموض الأخلاقي، رحلة ضرورية ليتقبل المتحضر فكرة الموت.


العدمية بين نيتشه والأخوين كوين

العالم بوابة

تفضي إلى صحراوات تمتد صامتة

وباردة.

من فقد ذاته مرة

ما فقدته أنت

لايجد السكينة في أي مكان.





الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

كان نيتشه يرى أن العدمية ستصير الصفة الملازمة لإنسان القرن العشرين، الإنسان القادم بعد صرخته الشهيرة بموت الرب وسقوط المعنى، إذ تصير كلمات الحقيقة، العدالة، الحب والجمال، والتي جسدت معنى الحياة بالنسبة للإنسان لقرون طويلة، مجرد كلمات لا تحمل أي صدى داخل روح الإنسان الحديث.

هذا الإنسان الذي يسميه نيتشه «الإنسان الأول»، هو بطل سينما الأخوين كوين المتجذر في يأس عدمي. يواجه وحيدًا عالمًا خاليًا من المعنى، متاهة باردة ولا مبالية يدور فيها دون دليل مسوقًا بعماء الحاجة والرغبة. في الحكاية الثالثة والتي تحمل اسم «تذكرة طعام» والتي يفتتحها الأخوان كوين بلقطة واسعة لعربة العروض السحرية تشق طريقها بين سماء مظلمة وجبال مغطاة بالثلوج، حيث المحيط يتجاوز الإنسان ويفرض قانونه. في بيئة لا مبالية وشحيحة كهذه ما الذي يمنح الأشياء قيمتها ومعناها؟ لا شيء يحمل قيمة في ذاته ولا حتى الإنسان!

اقرأ أيضًا:

سينما الأخوين «كوين»: عالم بلا قانون

الفنان مبتور الأطراف الملقب بـ«عصفور بلا جناحين» لا قيمة له إلا بما يجنيه من مال عبر عرضه المسرحي. هذا اللقب يتجاوز غرضه الدعائي إلى كونه مجازًا يجسد كينونته، إنه مثل طائر فقد ما يميزه كطائر (جناحيه)، و لم يتبق منه سوى صوته المغرد. إذا لم يجد هذا الطائر من يطرب له. وهنا تذهب سخرية الأخوين كوين إلى حدودها القصوى، إذ إن دجاجة بإمكانها أن تقوم بعمليات حسابية بسيطة ستصير أكثر قيمة منه.

تحمل هذه الحكاية أصداء من قصة كافكا فنان الجوع، وجوهرها السوداوي والساخر إذ نجد أن فنان الجوع في عرضه الأعجوبي، حيث يمكنه الامتناع عن الأكل لأيام طويلة وهذا هو كل ما يميزه ويمنحه قيمته. بعدما يفقد هذا العرض جاذبيته يتلاشى فنان الجوع داخل قفصه في صمت ودون أثر. ليحل محله نمر مرقط يشع حرية وحياة رغم وجوده في ذات القفص، تمامًا مثلما تحل الدجاجة مكان الفنان في حكاية الأخوين كوين.

يمرر الأخوان كوين عبر شخصياتهما نوعًا من السخرية المرة والفكاهة السوداء أو ما يمكن أن نسميه الكوميديا العدمية (Nihilistic Comedy). لا شيء يفلت من تهكمهما، ففي الحكاية الثانية «بالقرب من آلاجدون»، نجد اللص (يقوم بدوره جيمس فرانكو) بعد سطو فاشل على أحد المصارف، ينجو هذه المرة من الموت شنقًا، ليقاد ثانية إلى مشنقة أخرى بتهمة لم يرتكبها. يبكي اللص الذي يجاوره فينظر له بابتسامة هازئة قائلًا: «أول مرة؟!». كوميديا الأخوين كوين العدمية تنال من الآلهة التي طالما قدسها الإنسان. فما جدوى العدالة إذن إذا نالها كل هذا القدر من العبث.


العبث بين كامو، والأخوين كوين

نشأنا في أمريكا، والحكايات في أفلامنا هي حكايات أمريكية، نحكيها ضمن أطر ومرجعيات أمريكية.

ينبع وعي الإنسان بعبثية الوجود من إدراكه أن عقله والعالم ليسا على وفاق. يحدد الأديب الفرنسي ألبير كامو معنى العبث بهذه الكلمات:

إنه الطلاق بين عقولنا والعالم، العقل يرغب والعالم يحبط هذه الرغبات.

هذا الحس العبثي يسود في سينما الأخوين كوين. يخطط الأشخاص لمستقبلهم ويبذلون قصارى جهدهم، لكن كل جهودهم تذهب سدى تحت وطأة حظ عاثر أو موت مجاني وعبثي. في الحكاية الثانية «بالقرب من آلاجدون» يتوقف لص أم مصرف معزول عن العالم، يديره مصرفي عجوز، حتى هذا اللحظة تبدو سرقة هذا المصرف هدفًا سهلًا، لكن بعد لحظة حين نشاهد العجوز وهو يتجه صارخًا كالمجنون ومغطى بالقدور، نعرف أي حظ عاثر كان يحلق فوق رأس هذا اللص.

لا شيء رومانسيًا أو جليلًا إزاء الموت في أفلامهما، إنه أيضًا لا ينجو من العبث الذي يحكم الوجود في العالم. في الحكاية الخامسة المعنونة «الفتاة التي اضطربت» تموت الفتاة «أليس/زوي كازان»، الممتلئة بالحياة والوعود، بعد أن وجدت أخيرًا الرجل الذي يشاركها نفس رؤيتها للعالم. في واحدة من أكثر لحظات الفيلم دفئًا وحميمية تتصارح الفتاة مع السيد بيلي ناب عن اختلافها مع أخيها المتوفى والذي كان يحمل معتقدات ثابتة، بينما هي لا تؤمن بوجود أي يقين في هذا العالم وهو ما يتضح إنه إيمانه أيضًا.

تبدو في غاية التأثر لأنها وجدت من يشاركها هذا الإيمان والذي تجسده آية من إنجيل متى. تقول له: «ما أضيق الباب». ليكمل هو: «وما أكرب الطريق». لكن ماذا يحدث بعد ذلك؟ تموت الفتاة في حادثة عبثية تمامًا بينما يبقى الكلب الذي سعى الجميع للتخلص منه.

اقرأ أيضًا:

ألبير كامو في ذكرى ميلاده: بين العبثية والإيجابية

عادة ما ينتهي فيلم الويسترن الكلاسيكي بانتصار الطيبين وهزيمة الأشرار وبعودة النظام للمكان. لكن الحكاية الأخيرة التي يختتم بها الأخوان كوين فيلمهما تعلن هزيمة الإنسان أمام الموت وفشله في الوصول إلى معنى. فالعربة التي تجرها الخيول في برية موحشة مضاءة بشمس الغروب، بوابة العبور إلى الليل/الموت، والسائس الذي لا نرى وجهه، والذي لا يتوقف أبدًا إلا عند محطته الأخيرة، والشخصيتان اللتان تعرفان نفسيهما كحاصدي أرواح.

تفترض هذه الإشارات أن شخصيات الحكاية الثلاثة (صياد طرائد، وامرأة، ورجل فرنسي) موتى، لكنهم لم يدركوا موتهم بعد. تتوقف العربة في محطتها الأخيرة «فورت مورجن» أمام فندق غارق في الضباب. يدلف صياد الطرائد والمرأة إلى الداخل وعلى وجهيهما فزع وحيرة.

يتوقف الرجل الفرنسي أمام بوابة الفندق، وجهتهم الأخيرة وعلى وجهه علامات الحيرة وعدم الفهم. ثم في استسلام تام يضع قبعته على رأسه، يدق عليها بيده ويمضي نحو المجهول. الفيلم إذن هو رحلة يائسة لاقتناص معنى وراء وجود الإنسان في هذا العالم، حيث تشكل الحكايات الست معًا حدود رؤية الأخوين كوين القاتمة والعبثية للإنسان والعالم.