لا يمكنني إغلاق البلاد وتعريضها لكساد وتباطؤ اقتصادي، سيكون لدينا محاولات انتحار بالآلاف بدلاً من وفيات بالآلاف بسبب كورونا.





دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.

في مدة قصيرة للغاية، وبينما العالم منهمك في المقابر الجماعية المتزايدة في إيطاليا يوميًا، بدأت العدادات الأمريكية في التصاعد، وفاقت أرقام الإصابات توقعات أي خبير، لقد تحققت أسوأ التوقعات، ودخل النظام الصحي مرحلة سيئة، وبدا أن النتائج ستظل غامضة حتى هذه اللحظة.

تبدو الحالة الأمريكية على وجه التحديد مختلفةً ومتفردة، يصعب مقارنتها بنظائرها المتضررين بشدة من الوضع الكارثي لفيروس كورونا، مثل إيطاليا وإسبانيا وإيران. تتخذ الحالة الأمريكية بعدًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كل منها جدير بالبحث والتنقيب، كما أنه سيكون لجميعها تبعات قاسية وحادة على العالم كله، لذلك وغيره كانت التجربة الأمريكية هي الأصعب.

الحالة صفر: نحن لا نخاف شيئًا

لفهم وضع كل دولة ابتلعتها دوامة الكورونا، ينبغي العودة إلى الحالة صفر، أي أول ظهور للفيروس، وكيف توالت بعدها الحالات، والأهم من ذلك: كيف كان التعامل المجتمعي مع الأزمة نفسها، وطريقة استيعابه لمدى خطورتها.

في
التاسع عشر من يناير/تشرين
الثاني عام 2020،
وصل

رجل
في الخامسة والثلاثين

من عمره في بلدة
سونوميش بمقاطعة واشنطن عاصمة الولايات
المتحدة، إلى عيادة طبيب بأعراض سعال جاف
وحمى استمرت معه لأربعة أيام، واتضح فيما
بعد أنه
عائد
من مدينة ووهان قبل أربعة أيام، بعد زيارته
لأسرة هناك، ليتم
التأكد بعدها من
إصابته
بالعدوى
في الصين.

على
الرغم من التحذيرات الصحية المعلنة في
عدة دول من بينها الولايات المتحدة نفسها،
إلا أن الحالة الأولى وغيرها من الحالات
التالية،
لم تتصور
أن الأمر
بالخطورة المتخيلة، وهو ما ساهم بالطبع
في نشر العدوى بين عدد كبير من الأشخاص،
لكن الملاحظ أن الأعداد لم تتزايد في وقت
واحد أو بسرعة ملحوظة، وذلك بالطبع بسبب
مدة حضانة المرض الطويلة.

لكن ثمة ملحوظة هامة، تتعلق بعدم إعارة الأمريكيين اهتمامًا كبيرًا للأمر، فالإنفلونزا التقليدية في الولايات المتحدة، وفي ظروفها العادية بعيدًا عن كورونا، تشكل أحد أهم أسباب الوفيات في الولايات المتحدة، فضحاياها

يتجاوزون 10 آلاف حالة

في مدد لا تتعدى 4 أشهر، وهو سبب مهم لحالة اللا مبالاة التي تشكلت لدى الشارع الأمريكي إثر تلقيهم تحذيرات وأخبار كورونا.

لتحري الدقة، ليست تلك التقارير بالأمر الشائع لدى المجتمع الأمريكي، فهي لا تتلقى إلا اهتمامًا قليلاً، إلا أن المؤسسات الإعلامية التي عقدت عددًا كبيرًا من المقارنات بين كورونا والإنفلونزا العادية ما بين ديسمبر 2019 وفبراير 2020 كانت كبيرة للغاية، أضف إليها حديث ترامب نفسه عن كون الأمر لا يكافئ ما يعانيه الأمريكيون بالفعل جراء الإنفلونزا.

كان بالإمكان ملاحظة التجاهل والتساهل في الأمر في عدة ولايات، فبعد ساعات قلائل من إعلان ترامب حالة الطوارئ العامة في عموم الولايات الأمريكية لبدء مواجهة الفيروس، خرج سكان ولاية فلوريدا إلى الشواطئ في مجموعات ضخمة للاستمتاع بالأجواء على البحر، في الوقت الذي سجلت فيه السلطات الصحية 155 حالة رسمية في فلوريدا.


إلى
أين وصلت الكارثة؟ في تلك اللحظات التي
تكتب فيها هذه السطور، يتجاوز
عدد
الإصابات المسجلة في الولايات المتحدة
نصف مليون إصابة، أما عن الوفيات فتبقى
أقل من 100
حالة
ليكتمل نصاب 20
ألف
حالة وفاة، فالولايات
المتحدة هي الأولى على العالم في الوفيات
إذا ما افترضنا أن الأرقام الصينية صحيحة.

أزمة ترامب والصين: هذه ليست مشكلتنا

ما
بين يناير/
تشرين
الثاني وفبراير/
شباط
من العام الحالي،

تلقى
ترامب عدة تقارير

من المخابرات الأمريكية،
تفيد بمخاطر عالية لفيروس كورونا الجديد،
وتدعو ترامب وإدارته إلى اتخاذ قرارات
عاجلة لاحتواء أزمة الفيروس قبل أن ينتشر
في الولايات المتحدة، خاصة وأن حركة
الطيران بين الصين والولايات المتحدة لم
تتوقف، وأن نيويورك على وجه التحديد من
أهم المدن المركزية التي تستقبل المسافرين
من كافة أنحاء العالم.

لكن الأزمة بين ترامب والمخابرات الأمريكية كانت أكبر من كل هذا، فعداء ترامب للمخابرات ووصفهم بـ«الدولة العميقة» في مواجهته من قبل، دفعه إلى تجاهل كافة التقارير المخابراتية التي وصلته، وكما كانت السياسة في إيطاليا جزءًا من الكارثة، فالحالة الأمريكية ليست عن ذلك ببعيد.

لم يمر الكثير من الوقت، حتى كان الارتفاع الشديد في الحالات في الولايات المتحدة وبريطانيا، سببًا في اشتعال الغضب والانتقادات من الإدارة

الأمريكية

و

البريطانية

تجاه الصين، معلنين أن الصين تخفي الكثير بشأن الفيروس، وأن الأرقام المضللة التي أعلنتها الصين تسببت في كارثة من ناحية تعامل هذه الدول مع الفيروس، وظهر وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو ليتحدث بشكل واضح عن اتهام الإدارة الأمريكية للصين، بخصوص المعلومات المعلنة حول الفيروس.

جزء مهم من أزمة ترامب، ارتبط بوضوح بالصين، فرفضه لتقارير المخابرات لم يكن دافعه الوحيد هو الخلاف بينهم، لكن التطمينات التي حصل عليها ترامب من الإدارة الصينية، خلال تلك الفترة، جعلته يتعامل مع الأمر بتهاون واضح، لكن وبعد تفشي الكارثة، صب ترامب جام غضبه على الصين، فأعلن أنه «

الفيروس الصيني

» وطفق يتحدث في كل مؤتمر وكلمة رسمية له عن الفيروس الصيني، حتى أعلن

تراجعه مؤخرًا عن التسمية

، لكن قال «نحن نعرف أن الفيروس جاء من الصين، لكنني لن أهتم بالأمر أكثر من ذلك».


لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل وصلت حد

مهاجمة ترامب لمنظمة الصحة

العالمية بشكل رسمي، وقوله إنها متواطئة مع الصين، وأنها أخفت الكثير من المعلومات الخاصة بالفيروس، بجانب تأخرها في إعلان حالة الطوارئ لمواجهة الفيروس على حد تعبيره، واختتم ذلك بإعلانه

إيقاف التمويل الأمريكي

السنوي، المقدم من الولايات المتحدة للمنظمة، والبالغ قدره 533 مليون دولار.

وكان
إعلان ترامب وقف التمويل الأمريكي بمثابة
صدمة للكثيرين حول العالم، وإعلان استيائهم
من قرار وصُف بأنه في وقت غير مناسب، وأن
العالم أجمع في حالة من الأزمة تتطلب
التضافر الجماعي للتغلب على الوباء، وظهر
ذلك في تصريحات كل من رئيس الاتحاد الأفريقي
وكذلك رئيس جنوب أفريقيا.



زر إنهاء اللعبة.. ترامب محق!

حينما أعلن ترامب عن مخاوفه من استمرار حالة الطوارئ والحظر المفروض على الولايات، متحدثًا عن تلك التبعات الكارثية التي يتوقعها، كان أول ما لفت نظره في تلك الأزمة هو الانتحار بصفته كارثة مجتمعية دائمة الحدوث في الولايات المتحدة، وباعتبارها طريقة سهلة للخلاص من الكثير من الأزمات.

البطالة..
واحدة
من أبشع الكوابيس التي تؤرق المجتمع
الأمريكي، ففقدان الوظيفة قد لا يتم
التعامل معه باعتباره أزمة مؤقتة قابلة
للحل، بل يمكن التعامل معه على أنه كارثة
قد تفضي إلى النهاية، لا سيما في ظل النمط
الرأسمالي المتوحش الذي تحياه الولايات
المتحدة، والطبيعة التراكمية للديون
واكتسابها صفة مجتمعية.

كشفت دراسة أجريت عام 2015 عن أن

الولايات المتحدة

من أكثر الدول التي يُقدم سكانها على الانتحار بسبب البطالة، كما

كشفت دراسة أخرى

عن علاقة مطردة بين الانتحار والبطالة في الولايات المتحدة، حيث إن ارتفاع نسب البطالة بنسبة 1% يقابلها زيادة مشابهة في نسب الانتحار.

كيف يرتبط ذلك بأزمة كورونا؟ الواقع أن نتائج أزمة كورونا لم تعد تطرح كقصة مستقبلية في الولايات المتحدة، بل صارت جزءًا من الوضع الحالي، فالأرقام الرسمية المعلنة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، تكشف

عن 16 مليون شخص

فقدوا وظائفهم في الولايات المتحدة، والحقيقة أنه لم يمر الكثير على كورونا في الولايات المتحدة، مما يشكل بعدًا مصغرًا لما يمكن أن تؤول إليه الأحوال خلال الفترات القادمة، إذا لم تنتهِ الأزمة.

رقم كهذا يعني أن ثمة حدثًا مجتمعيًا واضحًا سيضرب الأرجاء الأمريكية في القريب العاجل، ربما ينعكس ذلك بوضوح على أرقام الحالات المنتحرة أو ارتفاع نسب الجرائم أو ما شابه، ذلك أن الظروف الأمريكية مهيأة لذلك بالفعل، إذا عرفنا أن 40% من الشعب الأمريكي لا يملك أكثر

من 400 دولار كمدخرات

، وأن معدلات الرواتب والإنفاق المعتادة، لا تسمح بأكثر من ذلك لما يقارب نصف الشعب الأمريكي.

وإذا ما أردنا التحدث عن خيار الانتحار بالنسبة للمجتمع الأمريكي، باعتباره الخيار السهل لإنهاء اللعبة، يكفي أن نعرف أن رب أسرة في إلينوي قتل زوجته وطفله ثم قتل نفسه، بعد أن علم أنه مصاب بالكورونا، وذلك بسبب خوفه من الوباء، حتى ليمكنك أن تسأل نفسك عما عنته دراسة مجلة «ساينتفك أمريكان» التي توقعت زيادة في معدلات الانتحار بسبب كورونا، وكيف يمكن لذلك أن يشكل

ثمنًا مجتمعيًا باهظًا

تدفعه الولايات المتحدة في الأيام القادمة.

ما بعد الكورونا: عصر جديد يتشكل

سعت إدارة ترامب خلال السنوات الثلاثة الماضية إلى إنهاء الجزء الأكبر من

برامج الإعانة التي تقدمها الدولة

لغير العاملين، وذلك ضمن خطتها التي تحدث عنها الخبراء للنهوض بالفئات الفقيرة ووقف التدهور المجتمعي المرتبط بالبطالة، فبرامج الإعانة وبحسب ما يعلن خبراء الحزب الجمهوري، تفتح الباب للكثيرين للاعتماد عليها بشكل كامل، والرضا بما يحصلون عليه، والامتناع عن إيجاد وظيفة، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى وقف هذه البرامج لحث المنتفعين من هذه البرامج على البحث عن وظيفة، بجانب توفير نفقات تلك البرامج لرفع كفاءة الحالة الاقتصادية.

لكن برنامج الإعانة وعلى عكس ما يمكن تقديمه كجالب للمزايا، يمكن أن يشكل خطرًا كذلك، كما أفاد خبراء على أولئك الذين لا يمتلكون ما يكفي من المؤهلات للعثور على وظيفة، كما أن أزمة كهذه قد تظهر عواقبها الوخيمة بوضوح خلال أزمة كورونا الحالية وما بعدها، لا سيما وأنها ضربت الفئات العاملة بالفعل.

كما تكشف التقارير عن كارثة أخرى في ظل فقدان الوظائف والتأمين ونقص المدخرات، لكنها هذه المرة تتعلق بالنظام الصحي، فالمصابون بكورونا في الولايات المتحدة، والذين لا يتبعون برامج تأمين صحي، تغطي تكاليف علاجهم، سيدفعون ما لا يقل عن

35 ألف دولار

، كتكلفة لتلقي العلاج من فيروس كورونا، كما تعرضت إحدى الحالات التي كشفت عنها مجلة التايم الأمريكية، وهو حدث جلل آخر.

في
الوقت نفسه، يبدو أن
المهاجرين
في وضع لا يحسدون عليه، حيث تشير التقديرات
إلى أن 20%
من
المهاجرين -أي

1.8


مليون
مهاجر

من مالكي المنازل-
سيواجهون
أزمة اقتصادية ضارية خلال الفترة القادمة،
فيما يتعلق بالغذاء والإنفاق.

ظهرت توابع أزمة النظام الصحي على الفقراء في معدلات الوفيات في الولايات المتحدة، والمسجلة بفيروس كورونا. تظهر الأرقام أن

الأمريكيين السود

هم الأكثر تأثرًا بالفيروس من حيث عدد الوفيات. في ولاية لويزيانا على سبيل المثال، 70% من وفيات فيروس كورونا من الأمريكيين الأفارقة، وكذلك في ولاية جورجيا حيث يشكل الأفارقة 33% من نسيج السكان في الولاية، ظلوا هم الأعلى في نسب الوفيات، وفي ولاية ألباما حيث يشكل السود 27% من سكان الولاية، سجلوا هم 37% من وفيات وإصابات الولاية، أما في شمال كارولينا فـ37% من وفيات الفيروس من الأمريكيين السود كذلك.

وغدًا تنتهي حقبة طويلة

من الواضح أن الكثير من

الخبراء والقامات العلمية

في الولايات المتحدة، تحدثوا عن نماذج جديدة ستتشكل فيما بعد كورونا، حيث ستبدأ الدولة الأمريكية في الخروج من دائرة «عصر التفاهة» إلى الاهتمام مجددًا بالحراك العلمي والثقة في النماذج المعرفية، بجانب توقعات بنهاية عصر «الفردانية» الذي تفشى بوضوح خلال السنوات الماضية.

لكن الأهم من ذلك، هو ما يصفه خبراء

بنهاية عصر 11 سبتمبر/ أيلول

، والذي يمكن أن نشهد فيه تغيرًا كاملاً لكثير من السياسات الأمريكية، وهو ما سينعكس بالطبع على مسار السياسة العالمية، خاصة بعد البروز الروسي الواضح خلال الفترة الأخيرة، والذي قابله على الجانب الآخر تراجع واضح للدور الأمريكي.

لذا فمن الواضح أن كل الأفكار التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة، طمعًا في تغيير حقيقي، يغير صورة العالم السوداوي الكئيب الذي عاشته البشرية خلال السنوات الماضية، وجدت لها أداة مجهولة جاءت من العدم، لتقلب كل الموازين، وتبدأ حقبة جديدة، ستبدأها البشرية وهي منهكة من الخوف والمرض، ولربما تتغير حينئذ نظرتها للعالم.