عندما تكشفت أجزاء من حقائق ما جرى في الأيام الأخيرة قبل هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967، كان من بينها أن طياري وقيادات سلاح الجو المصري آنذاك قد قضوا ليلة العدوان الإسرائيلي حتى الفجر، سكارى يترنحون في حفل صاخب أريقت فيه أنهار من الخمور، بينما كان يُفترض بهم أن يكونوا بعد سويعات قليلة في قمرات طائراتهم الرابضة في حالة استعداد على مدرجات الإقلاع.

هذا الكتاب «

تحطمت الطائرات عند الفجر

» يروي كيف قضت المخابرات الإسرائيلية أكثر من 10 أعوام تشارك قيادة سلاح الجو المصري في ما كل ما تعرفه، بل وتُسهّل لها الحصول على مهمات ومعدات ولوازم تشغيل المطارات والطائرات ووسائط الدفاع الجوي، عبر الجاسوس «باروخ نادل»، مؤلف الكتاب نفسه، الذي بلغ نفوذه حد أن يصطحبه جمال عبد الناصر نفسه في جولة إلى أحد المطارات الحربية قبل الهزيمة بأيام، والرجل الذي رتب تنظيم الحفل -أو الحفلات بمعنى أدق- التي أذهبت عقول الطيارين المصريين ليلة الغزو.


الغطاء

في نوفمبر/تشرين الثاني 1954، لقي لص حتفه في محاولة فاشلة لسرقة بنك في أحد شوارع تل أبيب. اللص «آرام أنوير»، ذو الأصل التركي من جهة أبيه والأرمني من جهة أمه، لم يدر قط أنه سيوفر بموته قصة تغطية ممتازة لأحد عملاء المخابرات الإسرائيلية، التي كانت بحاجة لمعرفة كل ما يجري في سلاح الجو المصري في مرحلة فارقة من التوسع والتحديث، كان مقبلًا عليها في منتصف الخمسينيات.



كلفت المخابرات الإسرائيلية «نادل» بانتحال صفة مورد أسلحة لسلاح الجو المصري، وبدأ مهمته من باريس بلقاء مع مسئول مشتريات الطيران المصري.

انتحلت المخابرات الإسرائيلية هوية وأوراق وتاريخ «آرام أنوير» لرجلها «باروخ نادل»، وكلفته بالسفر إلى باريس وإقامة صلات مع كبار تجار الأسلحة وضباط الجيش الفرنسي، ليدخل عالم تجارة الأسلحة ويجتذب أنظار وانتباه الجيش المصري، الذي كان في هذا الوقت يبحث بشكل محموم عن كل قطعة سلاح حديثة نوعًا يضمها إلى ترسانته، وبخاصة سلاح الجو، الذي كان مقدرًا له أن يكون عامل الحسم في أي حرب تقليدية منذ الحرب العالمية الأولى.

كان أول من التقاه «نادل» من ضباط السلاح الجوي المصري هو «مدكور أبو العز»، التقاه في باريس في أكتوبر/تشرين الأول 1955 بينما كان مسئولًا عن مشتريات سلاح الجو، وباعه كمية من لوازم سلاح الجو والمدافع المضادة للطائرات استغنى عنها الجيش الفرنسي، الصفقة التي كانت فاتحة صداقة طويلة جمعت الرجلين، وفتحت الطريق لصداقات أخرى ربطت «نادل» بكبار قادة سلاح الجو والجيش والحكومة المصرية.


دعوة كريمة

نصبت المخابرات الإسرائيلية فخًا صغيرًا لسلاح الجو المصري عام 1955، فأوعزت لـ«نادل» ببيع دفعة من الأسلحة لثوار الجزائر ضد القوات الفرنسية، ولما قررت الحكومة الفرنسية طرد الرجل كرد فعل طبيعي، ابتلع سلاح الجو المصري الطعم ووجه دعوة كريمة لـ «نادل» عبر الصديق «أبو العز» للإقامة في مصر، الدعوة التي قبلها «نادل» أو «آرام أنوير» شاكرًا مُمتنًا.

في مصر، عرّف «أبو العز» صديقه الجديد على قائد سلاح الجو «صدقي محمود»، وبقية قيادات السلاح الذين عقد صداقات متينة معهم، والتقى بشخصيات لم يكن الوزراء المصريون يجرؤون حتى على الاقتراب منها، مثل «عبد الحكيم عامر» وزير الحربية، و«صلاح نصر» مدير المخابرات العامة، و«زكريا محيي الدين» وزير الداخلية، والمشرف العام على جميع أجهزة الأمن والمخابرات في النظام.



لم يبذل الجاسوس جهدًا للتقرب من قادة سلاح الجو المصري، وإنما كانوا هم من سعوا لصداقته واستغلال علاقاته، وفتحوا له أبواب المطارات المصرية.

وبخلاف طبيعة عمل معظم الجواسيس، يبدو من رواية «نادل» أنه لم يبذل جهدًا للتقرب من قادة سلاح الجو المصري، وإنما كانوا هم من شعروا أنهم وقعوا على كنز ثمين، بصداقتهم مع « آرام أنوير» القادر على توفير كل ما يحتاجه سلاح الجو من لوازم، بل وشراء دبابات ومدرعات ومدافع لفرع القوات البرية أيضًا.

فتحت صداقة قادة سلاح الجو أمام «نادل» أبواب المطارات والقواعد الجوية، التي اصطحبوه إليها للتباهي باستعراض قدرات السلاح الجديدة أحيانًا، ولاستشارته في أمور فنية أحيانًا أخرى، وكان ضيف شرف شبه دائم في الحفلات التي كانت تُقام في نادي ضباط سلاح الجو أو القواعد الجوية.

أفرد «نادل» بطول كتابه مساحات معتبرة لوصف مدى البذخ والمجون في حفلات سلاح الجو، ومدى شبق القادة والضباط للتمتع بالساقطات وتبادلهن كهدايا، وكانت أفخر «الهدايا» بالطبع محجوزة لضيف السلاح الكريم «آرام أنوير»، تقديرًا لدوره من جهة، وحتى تكون عينًا عليه من جهة أخرى، وكادت إحداهن توقع به لولا مصادفة كادت تودي بحياته، إذ دسَّ «زكريا محيي الدين» عليه فتاة من معاوناته، لكن حادثة سير أودت بحياتها في ذات اليوم الذي اكتشف فيه «نادل» أمرها، بينما نجا هو.

إن ثقة قادة سلاح الجو بـ «نادل» بلغت حد أن استدعاه قائد السلاح «صدقي محمود» بينما الطائرات الفرنسية والبريطانية تدك المطارات المصرية والطائرات على مدرجاتها إبان العدوان الثلاثي، ليطلب منه العون وإيجاد حل يحول دون تدمير ما تبقى من الطائرات.

وما كان من (الصديق المخلص) إلا أن أشار بتجميع القاذفات الثمينة المتبقية في قاعدة الأقصر التي لم تتعرض للقصف، وهي النصيحة التي درّت على «نادل» امتنانًا بلا حدود من الجيش، مع أنه كظم غيظه بصعوبة لأن الإسرائيليين لم يقصفوا قاعدة الأقصر بعدما أبلغهم بتجمع القاذفات فيها.


الحفل

قدّم «باروخ نادل» للإسرائيليين الكثير من المعلومات الدقيقة والمؤكدة عن مطارات وطائرات سلاح الجو المصري، طوال السنوات الممتدة بين عامي 1955 و1967، لكن أثمن ما قدمه من خدمات كان حفلًا من بنات أفكاره، اقترحه على المسئولين عنه في المخابرات الإسرائيلية قبل أيام من عدوان 1967، بناءً على ما علمه من نظام العمل بالمطارات الحربية المصرية خلال جولاته فيها.

إن «زكريا محيي الدين»، نائب الرئيس ورئيس الوزراء، والرجل الذي حذر الإسرائيليون رجلهم من دهائه أكثر من غيره من رجال النظام المصري، هو نفسه من كلّف الصديق «آرام أنوير» في 23 مايو/آيار 1967 بالتجول في جميع مطارات وقواعد سلاح الجو المصري، وتقديم تقرير مفصل بكل مظهر للإهمال أو الخطأ وكل ما ينبغي تعديله، مُستعينًا ببطاقة هوية من بطاقات المخابرات العامة استخرجها له خصيصًا.



«باروخ نادل» تحول من مورد لسلاح الجو المصري إلى مستشار، وكان أثمن ما قدمه للإسرائيليين حفل دعا له الطيارين المصريين عشية العدوان.

تحول الرجل الذي أوفدته المخابرات الإسرائيلية ليكون مورّدًا لسلاح الجو المصري إلى مستشار للسلاح، وعبر جولاته في القواعد الجوية بناءً على طلب «محيي الدين»، عرف أن الطيارين المصريين يبقون في حالة تأهب داخل طائراتهم بدءًا من الساعة الخامسة صباحًا، بينما تطير طائرات الاستطلاع في الجو، وعند السابعة والنصف تنتهي حالة التأهب، فتهبط طائرات الاستطلاع ويترك الطيارون قمراتهم وينصرفون لتناول الإفطار لمدة نصف ساعة، بما في ذلك المسئولون عن أجهزة الرادار.

راق اقتراح حفل العربدة الذي قدمه «نادل» للمسئولين عنه في المخابرات الإسرائيلية استحسان هؤلاء، فحتى إن لحق الطيارون المصريون بطائراتهم في الموعد المحدد عند الخامسة فجرًا، سيكونون في حالة ثمالة وإعياء من أثر قلة النوم والإنهاك اللذيذ الذي سيصيبهم في الحفل، الحفل الذي برره «آرام أنوير» لأصدقائه في سلاح الجو بالاستبشار بالنصر مع تصاعد سخونة الأمور في المنطقة وشعور الجميع باقتراب الحرب.

وفي ليلة الخامس من يونيو/حزيران 1967 أبرقت المخابرات الإسرائيلية لرجلها أن «أقم الحفل الليلة»، ويومها رتب «نادل» مع أصدقائه في سلاح الجو إقامة ثلاث حفلات في نادي ضباط سلاح الجو بالقاهرة وقاعدتي «أنشاص» بالشرقية و«بير جفجافة» في سيناء، دُعي إليها 400 طيار من جملة 600 طيار طيار مصري.

نكسة 1967 - قاعدة أنشاص

حفلة قاعدة أنشاص الجوية التي أعدّها (باروخ نادل) ليلة النكسة.

أدى الحفل الذي استمر حتى قرب الفجر دوره على الوجه الأمثل، فقد عبَّ قادة سلاح الجو المصري وطياروه أنهارًا من الخمر المركز، ولهوا مع الحسناوات كأن الدهر أمامهم بلا مشاغل والبلاد ليست في حالة استنفار عسكري.

ولما أفاق الطيارون في الصباح على وقع انفجارات القصف الجوي الإسرائيلي للمطارات والقواعد الجوية المصرية، كانت دور «باروخ نادل» في مصر قد انتهى، وبينما كانت الطائرات المصرية تتحطم على أراضي المطارات، كان الرجل على متن طائرة ركاب تركية تقلع به للمرة الأخيرة من مصر.


الكتاب

الكتاب نفسه مقسم إلى أجزاء ثلاثة في مجلد واحد بعناوين (الاستعدادات) و(في القاهرة) و(الحفلة)، مقسمة بدورها إلى خمسين فصلًا، وفي الجزئين الأولين يسرد «نادل» بشكل متوازٍ وقائع خطين زمنيين، يمتد أحدهما من عام 1954 حيث بدأ تجنيده للمهمة، حتى عام 1965. بينما يمتد الخط الثاني على مدى أيام خمسة فقط من 31 مايو/آيار حتى 4 يونيو/حزيران 1967، ويرصد فيه جانبًا من اجتماعات قادة الجيش وسلاح الجو الإسرائيلي، وجانبًا من حياة الجنود الإسرائيليين في الثكنات بينما يستعدون للحرب الوشيكة.

وفي الجزء الثالث، يبدأ السرد من عام 1965، الذي يقفز إليه «نادل» مباشرة من عام 1957 حيث انتهى الجزء الثاني، دون سبب مفهوم، لكن على كل حال فإن القسم الأكبر من هذا الجزء يروي ما عاشه وقام به «نادل» منذ إعلان حالة الاستنفار وإغلاق مضايق تيران في 15 مايو/آيار 1967، حيث أبرق للمسئولين عنه تفاصيل تحركات القوات المصرية من القاهرة إلى سيناء، وتوزيع القوات في سيناء بأرقام الوحدات وأسماء قادتها.

والسرد أقرب إلى الرواية منه إلى الكتاب، يروي «نادل» بصيغة المتكلم وقائع مهمته التي استغرقت 11 عامًا، مُطعمًا السرد بتفاصيل وذكريات شخصية، وهو يتذكر بدقة نص كل برقية لاسلكية أبرق بها للمسئولين عنه بشأن الأوضاع داخل المطارات المصرية، وأعداد وطرز المقاتلات والقاذفات المصرية.