كانت مفاجأة صاعقة ما حدث في الخامس من مارس/آذار، فبدون أي مقاومة انهارت قوات حفتر، المسماة بالجيش الوطني الليبي، في مدن الهلال النفطي أمام جحافل قوات (سرايا الدفاع عن بنغازي) المحسوبة على إسلاميي طرابلس.

مفاجأة مذهلة لكل مراقب، فقد عُرف عن قوات حفتر استماتتهم في القتال في وجه فجر ليبيا، واستطاعوا حماية الهلال النفطي من قبل تنظيم داعش وحتى من الإسلاميين في غرب ليبيا عندما قرروا شن عملية الشروق الشهيرة قبل عامين، والتي انتهت بلا تقدم يذكر للإسلاميين، سوى كيلومترات في السدرة، سرعان ما فقدوها بعدما أعلن تنظيم داعش الإرهابي عن نفسه في داخل سرت، فانسحبوا خائبين لقتال داعش وتركوا الهلال النفطي تحت قيادة إبراهيم الجضران، الذي كان يعلن ولاءه التام لعملية الكرامة ولحفتر ولحكومة الثني.

و لكن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فقد وقع اتفاق الصخيرات بين الفرقاء السياسيين وبالتالي رفع الغطاء السياسي عن الميليشيات المتصارعة، فأعلن إبراهيم الجضران تأييده للاتفاق ولحكومة الوفاق الوطني، التي أُعلن أن رئيسها هو فايز السراج وأعلنت غالبية ميلشيات طرابلس تأييدهم لهذه الحكومة ولم تشذ عنهم سوى بعض المجموعات من (الجماعة المقاتلة)، والتي أثر فيها فتاوى المفتي الصادق الغرياني الرافض لاتفاق الصخيرات والذي يراه اتفاقًا ظالمًا ومجحفًا بحق الشعب الليبي.

أنتجت حكومة الوفاق المعينة من الأمم المتحدة ومجلسها الرئاسي وضعًا جديدًا في مسألة الشرعية، فقد سحبت الشرعية عن مجلس النواب (المنتهية ولايته) وأعطيت الشرعية لحكومة فايز السراج، كممثل وحيد للشعب الليبي. وعلى هذا الأساس تحركت القوات الداعمة لحكومة الوفاق للتخلص من تنظيم داعش الإرهابي بدعم دولي كبير من محورين؛ شرقي يعتمد على قوات حرس المنشآت النفطية، وغربي يعتمد على قوات مصراتة ليلتقي الجيشان وتتحرر مدينة سرت رسميًا في ديسمبر/كانون الأول 2016م .

اقرأ أيضًا:

تحرير سرت: أحدث هزائم داعش في عام المحنة

إلا أن خليفة حفتر لم يسمح لمعارضيه بالفرح كثيرًا، فدخل منطقة الهلال النفطي بغطاء قبلي من قبائل برقة، بحُجة حماية النفط من الإرهابيين وحرم الحكومة الشرعية من استلام نفطها، ليمنع المصدر الرئيسي لدخل الليبيين ولكن فرحة حفتر لم تكتمل، فلم تمر ثلاثة أشهر حتى انهارت جموع قواته في منطقة الهلال النفطي على يد قوات ما يسمى بسرايا الدفاع عن بنغازي، والتي أعلنت عن رغبتها في تسليم النفط للحكومة الشرعية.


من هي سرايا الدفاع عن بنغازي؟

حسب بيان نشر في مطلع يونيو/حزيران 2016م على عدد من المواقع الليبية، أُعلن عن تشكيل لتجميع ثوار بنغازي بالتعاون مع ثوار أجدابيا لمساعدة الثوار المحاصرين في بنغازي ومحاربة الثورة المضادة والأزلام، وأعلن هذا التشكيل المسمى باسم «سرايا الدفاع عن بنغازي» التزامه بمرجعية المفتي الصادق الغرياني فيما يتعلق بالأموال والدماء، وأنهم ثوار غير محسوبين على أي فصيل سياسي (هكذا يُعرفون أنفسهم)، ولكن معارضي هذه السرايا من أنصار حفتر يؤكدون أن هذه السرايا ما هي إلا واجهة لتحالف مصلحي بين تنظيم القاعدة والإخوان وقوات حرس المنشآت النفطية، التي كان يقودها إبراهيم الجضران.

الناطق الرسمي باسم قوات حفتر اتهم عناصر تشادية بالمشاركة في الهجوم، وهذا الاتهام متكررٌ بين الفرقاء الليبيين، فقد اتهم وزير في حكومة الوفاق في ديسمبر/كانون الأول الماضي القوات التي احتلت الهلال النفطي لصالح حفتر بأنها قوات من حركة العدل والمساواة وتحرير السودان السودانيتين، وحسب ما يقول مطلعون هي قبيلة المغاربة والتي لها امتداد في دولة تشاد وهناك من أبنائها من هم سمر البشرة مثل إبراهيم الجضران نفسه والذي يقال أنه من مواليد تشاد، ولعل التشاديين الذي يقصدهم المتحدث باسم حفتر هم السمر من أبناء قبيلة المغاربة، الذين تحالفوا مع قوات سرايا الدفاع بتوجيهات إبراهيم الجضران.


لماذا هزم حفتر السبت الماضي؟

لم يعد شن الحروب يعتمد على القتال المباشر فقط، فهناك أنواع مختلفة من الحروب، ولذلك فلا قيمة لأي انتصار على الأرض طالما ظل خصمك يقاومك ويعتقد أن بإمكانه الفوز عليك، فلا عيب أن تخسر معركة ما دمت سوف تكسب في الأخير.

يمكن تعداد أسباب هزيمة حفتر في الآتي:

1. رفضه التام للتوافق الوطني وخطاب الاستقطاب الجهوي

لقد ورط خليفة حفتر نفسه في حرب جهوية، منعته من توحيد الشعب الليبي خلفه، وترك قنواته تروج لخطاب عنصري ضد أبناء بعض المدن الليبية وضد بعض المكونات الاجتماعية؛ مما جعل هذه المكونات الاجتماعية تعتبر بقاء حفتر مسألة حياة أو موت طالما هو يتوعدها بهذا الشكل. وكان لحفتر فرصة كبيرة ليكون له دور كبير في صنع مستقبل ليبيا لو أنه اقتدى بالباجي قائد السبسي، الذي اختار نموذج التهدئة والتسوية، بل والتحالف مع معارضيه، ليعبر بتونس المرحلة الانتقالية لكن حفتر أصر على سيناريو واحد وهو محاولة تقليد سيناريو السيسي بالقوة في ليبيا، وهذا الأمر متعذر لأن القوى الليبية المختلفة متكافئة ولم ولن يستطيع أي طرف إقصاء أي طرف بالقوة.

2. الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها ليبيا

أعتقد أن السيد حفتر ورط نفسه كثيرًا بمحاولته الفاشلة لإطلاق حرب اقتصادية على أهل مصراتة (أشد معارضيه)، والقرارات الاقتصادية غير المفهومة التي أطلقتها حكومته من نقل البنك المركزي الذي كان في العاصمة طرابلس إلى شرق ليبيا في مدينة البيضاء، وذلك للضغط على معارضيه الذين بحوزتهم العاصمة، ويسيطرون على مؤسسات الدولة فيها، ولزيادة الضغط على خصومه قام بطبع ورق عملة نقدية جديدة في روسيا عرفت باسم (نقود حفتر) وتناسى الرجل أن الشرعية أصبحت مع خصومه وأن مناطق شرق ليبيا تعتمد على غرب ليبيا في 80% من حاجيتها المعيشية، فكأن حفتر حاصر مؤيديه في شرق ليبيا قبل أن يحاصر معارضيه!.

3. تلاشي الجبهة الإقليمية التي وقفت خلف حفتر

عندما أعلن حفتر عملية الكرامة أو انقلاب فبراير/شباط 2014م قبله، فقد أعلنه حفتر من خارج الأراضي الليبية، وتحديدًا من مصر والإمارات، وكان ذلك في ذروة أيام مجد الثورة المضادة، عندما كان الهاجس الأساسي لهذه الدول هو محاربة الإخوان المسلمين وإيقاف ثورات الربيع العربي، وما إن انكسرت موجة الربيع وتم تكسير عظام تنظيم الإخوان المسلمين وظهور (البعبع) الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، فقد انسحب الخليجيون تمامًا من ملفات ملاحقة الإخوان ليوجهوا طاقتهم للحرب على إيران، خصوصًا مع وجود الملك السعودي الجديد سلمان الذي أعلن الحرب الإقليمية بشكل صريح مع إيران عبر عملية عاصفة الحزم، وقام بتوثيق صلاته بتركيا وقطر (أعداء حفتر الافتراضيين).

أما بالنسبة للحكومة المصرية، فرغم أنها حكومة تعلن أنها في حالة حرب مع الإخوان في كل مكان وكل زمان فقد تغيرت حساباتها تمامًا مع ظهور حكومة الوفاق الوطني، ونجاح قوات البنيان المرصوص في هزيمة داعش في مدينة سرت فصار التفكير الإستراتيجي عند المصريين هو تقوية الجبهة الداخلية الليبية ككل لتكون حائط صد أمام داعش، فمصر التي ذاقت المر العلقم من أفراد التنظيم الإرهابي المتواجدين في سيناء وصارت أولويتها تجفيف منابع التنظيم في ليبيا، وذلك بردم الفجوات بين الفرقاء الليبيين.

ولذلك فقد استقبلت القيادة المصرية كل أطراف النزاع الليبي حتى أفراد المؤتمر الوطني (الإسلاميين) استقبلهم الرئيس السيسي، ويقال إن مصر اقترحت حلًا لتسوية شاملة بين قيادات مدينة مصراتة وخليفة حفتر على فايز السراج في زيارته الأخيرة للقاهرة ولكن هذه التسوية التي كانت محل رفض من خليفة حفتر الذي يصر على (الانتصار)، والذي رفض لقاء فايز السراج أو الحديث معه، ومما يرجح هذا الكلام انتشار الكلام المنسوب للنائب زياد دغيم الداعم لحفتر والذي قال إن مصر سمحت للسرايا بالانتصار في الهلال النفطي لتعاقب حفتر الذي خذلها وكذلك مطالبة أبو بكر بعيرة، النائب في برلمان طبرق، الجيش المصري بعدم التخلي عن ليبيا.

اقرأ أيضًا:

هل ينتصر حلفاء حفتر في ليبيا؟

4. انفضاض القبائل من حول حفتر

إذا نظرنا إلى شرق ليبيا سنجد فيها عشرات القبائل ومئات البطون، ولا يمكن أن تحكم برقة إلا لو كان لديك شبكة قوية داعمة ومخلصة لك من كل هذه القبائل.

أقوى قبيلتين في شرق ليبيا هما البراعصة والعبيدات؛ فقبيلة البراعصة هي القبيلة التي كان ينتمي لها المستشار مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الليبي الانتقالي، والعبيدات هي القبيلة التي كان ينتمي لها القائد الشهير اللواء عبد الفتاح يونس (أول عسكري ينشق من نظام القذافي، والذي قُتل في ظروف غامضة) وإليها ينتمي السيد عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي والداعم القوي لحفتر.

فالعبيدات الذين أعطوا حفتر أبناءهم ليقاتل بهم الإرهابيين يجدون منه كل خذلان، فهو لا زال يعتقل الصديق المبروك العبيدي الذي كان يسعى في الصلح بين أبناء الشرق والغرب دون أي أسباب واضحة، والبراعصة عندهم غصة من حفتر فيما فعله في ابنهم العقيد فرج البرعصي الذي تم التنكيل به من قبل خليفة حفتر، وهو القائل إن الذين مع حفتر ليسوا جيشًا بل فتات جيش، فأُقيل واقتحمت مزرعته وتعرض لمحاولة اغتيال وكان كل هذا محل استنكار من أهالي مدينته البيضاء، والذين هم القوى الضاربة في جيش حفتر، وبالإضافة إلى ذلك انفضاض أجزاء من قبائل العواقير من عملية الكرامة بعد أن أصبح ابنهم المهدي البرغثي وزيرًا للدفاع في الحكومة المقالة، وأصبح في نزاع مع حفتر، وكذلك الحال مع بعض شباب قبيلة المغاربة الذين كانوا ضمن سرايا الدفاع عن بنغازي انتقامًا لزعيمهم إبراهيم الجضران.

اقرأ أيضًا:

الأزمة الليبية: حرب الجميع ضد الجميع!

من يفكر في حكم بلد مثل ليبيا فيه كل هذه القبائل بشكل ديكتاتوري بحت، مركزي مثل مصر، فهو واهم وربما تكون فكرة معمر القذافي الجماهيرية قد نجحت في ليبيا لأنها حافظت على الهيكل القبلي للمجتمع ومنحت سلطات للزعامات والوجاهات القبلية وهذا ما لم يدركه حفتر.

5. منح سلطات استثنائية للسلفيين المداخلة

المفاجأة التي يكتشفها كل قارئ للمشهد الليبي أن القوات الموجودة في غرب ليبيا هي قوات أكثر ليبرالية من القوات الموجودة في شرق ليبيا، فالسيد حفتر ونتيجةً لحوجته المستمرة للسلفيين المداخلة لقتال (الخوارج من الإخوان المسلمين) كان يقدم تنازلات كبيرة لصالح التيار السلفي على حساب الجهات العلمانية، التي أيدت حفتر والتي لا تقاتل بل تكتفي بالتأييد عبر (فيسبوك وتويتر) بينما يقاتل المداخلة في الصف الأول.

وكان من أبرز التنازلات التي قدمها حفتر هو تسليمه كل مساجد المنطقة الشرقية للمداخلة ليعملوا على تشكيل الوجدان الديني عند البرقاويين، وتعيين آلاف السلفيين في مؤسسات الأمن في المنطقة الشرقية ليتولوا عملية (مكافحة الزندقة)، والجميع شاهد تلك المناظر المؤلمة لعملية حرق الكتب والروايات التي قام بها أفراد الأمن السلفي التابع لحفتر والتي وجدت استنكار دوليًا لأنها ذكرت العالم بالقرون الوسطى.

وبالإضافة إلى ذلك؛ قرارات غريبة عجيبة كان آخرها قبل أسبوع عندما صدر قرار غريب من حفتر شخصيًا، الذي يسمي نفسه بالحاكم العسكري، يمنع فيه أي ليبية من السفر دون محرم، في مجاملة واضحة للتيار السلفي المتشدد الذي يؤيده ولقي هذا القرار استنكار النشطاء العلمانيين واستحسان السلفيين؛ مما دفع الأوقاف الليبية لإعلان أن خطبة الجمعة المقبلة ستكون بعنوان: العلمانيون وعدوانهم على المرأة المسلمة للهجوم على رفض النشطاء لقرار حفتر.

وبالتأكيد مثل هكذا قرار، سيدفع أي شخص لمراجعة موقفه، فالدولة الدينية التي هربوا منها، والذين كان سيطبقها الإخوان بنظرهم، يعلنها حفتر بشكل واضح وصريح في شرق ليبيا. وهذا الرفض للتيار السلفي لن يكون قاصرًا على العلمانيين، بل على الصوفية الذين تُهدم مزارتهم الدينية من قبل قوات أمن حفتر بحجة مكافحة الابتداع في الدين؛ مما يؤكد أن دولة حفتر هي دولة في أزمة مستمرة.



هل يمكن أن يرجع حفتر قويًا؟

قطعًا لا زال للسيد حفتر نقاط قوى كبيرة؛ أهمها الوقوف المصري معه ودعم دولة الإمارات العربية المتحدة الذي لا ينتهي له، ولكن الوقت ليس في صالح حفتر، فقد اقتربت قوات معارضيه من مدن شرق ليبيا لأول مرة بهذا الشكل وأصبح حفتر يقاتل على أبواب أجدابيا في حين أنه من سنة واحدة كان جيشه عند مدينة سرت.

إذا لم يستطع حفتر تنظيم قواته سريعًا والقيام بهجمة مضادة مُركزة تعيد قواته إلى خارج رأس لانوف على الأقل، فإن البيضاء مقر الحكومة المؤقتة (التابعة له) ستكون مهددة بشكل قطعي.

على العموم لا أعتقد أن القوى العالمية ستسمح لأي طرف بالانتصار في ليبيا، فلا زال الحل الدولي يرجح الحل القائم على التوافق والمصالحة الوطنية، ولذلك فإن مصير حفتر أن يجلس على الطاولة ويفاوض ليعطي قطعة من «الكيكة الليبية» تليق بوزنه على الأرض.