جاء خطاب أمير قطر ليكون الأول له منذ الأزمة الخليجية، التي امتدت لقرابة الشهرين. وللمفارقة فهو الخطاب الأول لزعيم من زعماء الأزمة جميعهم، إذ شهدت الأيام الخوالي سجالات بين وزراء ومسئولين رفيعين من الدول المنخرطة في الأزمة دون الزعماء والرؤساء.

أكد الخطاب القطري على لسان الأمير تميم أن الموقف القطري لم يتغير ولم تؤثر فيه الأزمة، وأنه رافضٌ للوصاية والإملاءات التي تسوقها دول الحصار، غير أن سعيه للحوار وحل الخلاف لم يزل خياره الأوحد، دونما رضوخٍ أو انكسار. ويُحيي الخطاب القطري الأخير القضية بعدما دخلت في مرحلة من الجمود، قد تطول، ويبقى لنا أن نتساءل عن الدوافع التي ساندت قطر في محنتها، وأيُّ خطأ ارتكبته دول الحصار ليوأد تصعيدهم في أيامه الأولى؟


التفحيط السياسي

هذا المصطلح الذي

أدخله الإذاعي السوداني

، فوزي بُشرى، لقاموس السياسة في ظل الأزمة الخليجية، ويكشف من خلاله الغياب المؤسسي الفاحش لدول الحصار، إذ بدت وكأنها اتخذت قرار الحصار في ليلة أُنسٍ، غابت فيها تدابير السياسة وحنكة الدبلوماسيين.

بدا الحصار للوهلة الأولى وكأنه إعلان حربٍ، لا هوادة فيها، لم يكن متخيلًا للجميع أي تصعيد سيتبعه، فإما أن يخاف القطريون على مستقبل بلادهم فيخرجوا لخلخلة عرش تميم، وهو ما روجت له بعض المصادر الإعلامية المحسوبة على دول الحصار، أو أن هذه الدول اتفقت فيما بينها على إخضاع الدوحة بالقوة، وكلا الخيارين تحت المنظار السياسي يشوبهما العوار الكثيف، لكن خفقة في القلب اضطربت بانتظار حدث جلل، وهو ما لم يحدث، إذ يبدو أن دول الحصار لم ترتب لانقلاب على الأمير القطري أو لم تجد من هو مستعد من أقوياء آل ثاني لإزاحة الأمير القوي. كذلك كان خيار الحرب خيارًا صعبًا في ظل وجود القاعدة العسكرية الأمريكية، وفي ظل تحفز الفاعلين الإقليميين للتدخل، وهو ما حدث بتثبيت القاعدة التركية العسكرية في قطر.

وعلى هذا دخلت الأزمة الثلاجة (كناية عن الجمود الذي أصابها) إذ لم تجد دول الحصار أوراقًا أكثر قسوةً من الحصار، وخاب اجتماعهم في القاهرة، وبدوا وكأنهم فقدوا البوصلة وضلوا الطريق.


أقلمة الأزمة

من قلب العاصمة المصرية يُصر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على خلجنة القضية، في مستهل رفضه لعرض الوساطة التركي!

المشهد يبدو هزليًا، نعم، لكنه يعبر عن الخواء الذي يعاني منه خطاب الكراهية الموجه لقطر، إذ إنّ مَن عمل على تدويل الأزمة هي دول الحصار نفسها، أولًا بضمها للقاهرة كضلع رابع، وهي خارج البيت الخليجي، كذلك من استدعى تضامن ميروشيوس وجزر المالديف، هي من حاول تدويل القضية وتصويرها على أنها قضية عالمية، ثم هي بعد أن تدخلت دولٌ فاعلة إقليميًا وذات ثقل، كتركيا وإيران، تعود للتأكيد على الخلجنة.

عطفًا على المحطة الأولى (التفحيط السياسي) تأتي المحطة الثانية، حيث غاب المشهد الإقليمي عن الدول المحاصرة. المشهد الإقليمي المستعر، والذي تأمل فيه تركيا وإيران على سبيل المثال للعب دورٍ إقليمي أكثر، يتناسب مع حجم ما يبذلانه في مناطق الصراع المؤججة في سوريا وليبيا واليمن، ولهذا كان الرد التركي المتضامن مع قطر في ساعات الأزمة الأولى رادعًا ومانعًا لأي تصعيد محتمل.

كذلك لم تكن دبلوماسيات الدول الأربعة المحاصرة على درجة من النضج كافية لتهيئة المسرح العالمي لهذه اللعبة، فانتقلت سريعًا المبارزة بينهم وبين قطر إلى دول العالم الكبرى، وتفوقت قطر في العديد منها، فحظيت بدعم روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، التي رأت في الأزمة خروجًا عن النسق السياسي، ووجود ترامب في قلب المشهد حفز أعداءه في أوروبا لدعم الاستقرار وتهدئة الأوضاع والتضامن الكلامي والسياسي مع قطر، وبرز هذا على وجه الخصوص في الموقفين الفرنسي والألماني.

اقرأ أيضًا:

تقدير موقف: ما وارء الموقف الفرنسي من الأزمة الخليجية

سرعان ما خرجت الأزمة من إطارها الخليجي على غرار أزمة 2014، إلى المسرح الإقليمي والدولي، وهو ما جعل القرار رهينةً بيد الفاعلين الدوليين، وهو بالتبعية ما عطّل دول الحصار وأوقفها على تصعيدها الأول، إذ بات التصعيد تعديًا على الدول الكبرى وموقفها الداعم للحوار ولمبادرة الكويت، وكذلك الجمود الحالي أكل من وجوه الدول المحاصرة، وأظهرها بمظهرٍ لم تحب أن تُرى عليه.


التدني الخطابي

1- لم تقدم دول الحصار منذ اليوم الأول للأزمة وثيقة بالمطالب، كما لم تبلور أهدافها وتطلعاتها من جراء التصعيد ضد قطر، وحين قدمت وثيقة بالمطالب جاءت هزلية بدرجة لم تجلب معها أي تعاطفٍ دولي. فإغلاق قناة أو تشميع جريدة لا ينبغي أن يكون سببًا لحصار دولة وتجويع شعبها! لكن يبدو أن المطالب صيغت بطريقة مماثلة للطريقة التي اتُخذ بها ابتداءً قرار الحصار.

2- «الحبس والتغريم عقوبة من يتعاطف مع قطر»، درجة أخرى من التدني الخطابي لجأت لها دول الحصار، وتعبر بطريقة ما عن تخبطها وحيرتها. وهذا الخطاب يبرهن مرةً أخرى على أن قرار المقاطعة والحصار لم يُسوَّق له من قبل ولم يُدرس، وإنما دُبّر بليلٍ بهيم.

3- الخروج على قواعد اللعبة الخليجية؛ ومعلومٌ بالضرورة أن الأسر المالكة في منطقة الخليج لها حُرمتها في الأموال والأعراض، لا تُنتهك لخلاف ولا يشار إليها بتاتًا، وهو ما لم يُراعَ في الأزمة. إذ تعرض نسب آل ثاني للحديث غير المبرر، و

أصدرت أسرة آل الشيخ

بيانًا تنفي فيه نسب الأمير القطري لعائلتهم.


الهدوء القطري

ذكرنا أن دول الحصار ربما راهنت على تأجيج الداخل القطري بما يهدد عرش تميم، أو ربما دار بخلدهم سهولة الحسم العسكري، ونضيف أنهم ربما عوّلوا على التخبط القطري المحتمل، والإرباك الذي كان بدوره سيساعدهم على إتمام ما بدءوه.

لكن التروي القطري أحبط تدبيرهم، إذ اتبعت قطر سياسة رزينة، عمدت بدايةً لسد الحاجات والحفاظ على هدوء الداخل قدر الإمكان، مهما كلف ذلك من خسائر مادية، وفي هذا لعبت دولٌ كتركيا وإيران دورًا حاسمًا. ثم تجاوزت حقها في الرد بالمثل، وأتاحت لمواطني دول الحصار المكوث على أرضها، كما لم تقطع إمداد الغاز عن دبي، وربحت في سبيل ذلك المعركة الأخلاقية، وهو ما شدد عليه خطاب الأمير القطري أول من أمس.

لم تشتت جهدها، ولم ترد على غير الدول الثلاث الخليجية، وأجلت في سبيل ذلك معارك ثانوية مع مصر وجيبوتي وإريتريا وغيرها، وسارعت لاستجداء دول كبرى كفرنسا وألمانيا وروسيا، ولعبت على وتر الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة، وعادلت تصريحات ترامب ببيانات البنتاجون المتلاحقة، ومؤخرًا حازت دعم الخارجية الأمريكية.


عودًا على ما سبق، جاء خطاب الأمير القطري بعد قرابة الشهرين ليؤكد أنه ربح المعركة، ويشدد على أنه لا إملاءات ولا وصاية. الخاسر الأكبر من الأزمة هي منطقة الخليج، التي صار مجليها هيكلًا مفرّغ المضمون، لا أخ أكبر فيه ولا أصغر، بعد أن أضاعت السعودية هيبتها بتولي ابن سلمان، وانجراره خلف أستاذه ابن زايد.