مع بدء العد
التنازلي لانسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان، تترقب الأنظار ما ستسفر عنه جولة
جديدة من الصراع بين القوى والعرقيات المحلية، إذ باتت حركة طالبان تشعر بفائض قوة
بعد نجاحها في إجبار الولايات المتحدة على توقيع اتفاق سلام معها يقضي برحيلها من
البلاد دون تحقيق أهدافها التي غزت البلاد لأجلها.

فلم تكن الإدارة الأمريكية تتصور عند احتلالها لأفغانستان في 2001 أن حربها ستستمر على مدار عقدين من الزمان

وستخسر في سبيلها 2.26 تريليون دولار

، وتضحي بحياة 2442 جنديًا من أبنائها، و1144 من أبناء الدول المتحالفة معها، بحسب دراسة أجراها معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة التابع لجامعة براون الأمريكية. والأدهى أن تكلفة الحرب لن تتوقف بعد سحب القوات، بل ستظل واشنطن تتحمل فواتير نفقات علاج وإعالة مصابيها في تلك الحرب الطويلة.

ومع انسحاب القوات الأجنبية لا تلوي على شيء، تتنازع المشهد الأفغاني عدة سيناريوهات، أبرزها ما توصلت إليه المخابرات الأمريكية في يونيو/حزيران الماضي، ومفاده أن الحكومة الحالية المدعومة من واشنطن

قد تنهار في ظرف ستة أشهر فقط من اكتمال الانسحاب

. وقد يكتمل رحيل الجيوش الأجنبية قبل وقت طويل من يوم 11 سبتمبر/أيلول المقبل، الموعد النهائي الذي أعلنه الرئيس جو بايدن في منتصف أبريل/نيسان الماضي كنهاية لـ«الحرب الأبدية» الأمريكية.

بموازاة هذا الانسحاب، تدخل البلاد مرحلة أكثر وحشية. فقد اجتاحت طالبان معظم الأنحاء وحققت مكاسب سريعة وتقدمت على حساب قوات الحكومة، واستولى مقاتلوها على أسلحة ثقيلة وعربات عسكرية أمريكية باهظة الثمن من القوات الحكومية المستسلمة.

وأنكرت وزارة الدفاع الأنباء التي أفادت باستسلام أعداد كبيرة من جنودها أمام تقدم الحركة، لكنها لم تستطع نفي انسحاب قواتها من مناطق عديدة؛ إلا أنها

أعلنت

عن وجود «خطة جديدة قوية وفعالة لاستعادة المناطق التي سحبنا منها قواتنا».

انهارت معنويات الجيش الذي تم تسليحه وتدريبه طوال السنوات الماضية ليتولى السيطرة على البلاد بدلًا من القوات الأجنبية. ورغم التزام الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بدفع 4 مليارات دولار سنويًا حتى عام 2024 لدعمه،

قالت هيئة الرقابة الرسمية

في واشنطن التي تشرف على هذه النفقات إن القوات الأفغانية تشعر بالإحباط بسبب الفساد المستشري في الحكومة.

الحشد الوطني

لجأ الرئيس أشرف غني إلى إقالة وزير الدفاع وعين مكانه الجنرال بسم الله خان محمدي، وهو من ألد أعداء طالبان وأحد أمراء الحرب الذين قاتلو ضدها في التسعينات، وخدم بعد ذلك كوزير للداخلية وللدفاع ورئيس للأركان خلال فترة الاحتلال لكن تمت إقالته لاتهامه بالفساد.

وتعرضت ميليشياته لانتقادات

بسبب اتهامها بارتكاب عمليات عنف وقتل.

ودعا محمدي «الوطنيين والشعب في كل مكان للوقوف إلى جانب قوات الأمن والدفاع»، وتعهد بأن الحكومة «مستعدة لتزويدهم بالمعدات والموارد». وأيد الرئيس أشرف غني هذه الدعوة المفاجئة وعقد اجتماعًا مع قادة الميليشيات الذين شاركوا في الحرب الأهلية، وحثهم على تدشين «جبهة موحدة» من أجل «حماية نظام الجمهورية» في مواجهة الحركة التي لا تُخفي مساعيها لإقامة إمارة إسلامية.

ويبقى تكرار سيناريو الحرب الأهلية في التسعينيات واردًا بقوة. فبعد انسحاب الاتحاد السوفييتي عام 1989، انهارت الحكومة التي تركها خلفه في كابول، وتنازع أمراء الحرب على السلطة وانهارت الأوضاع وانتشر قطاع الطرق وانعدم الأمن، حتى ظهرت حركة طالبان في 1996 وسيطرت على معظم الدولة مما دعا الجماعات المقاتلة للتكتل ضدها فيما عُرف آنذاك بـ «تحالف الشمال» الذي تلقى دعمًا من الروس والإيرانيين، ولاحقًا من التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لغزو أفغانستان في 2001.

مؤخرًا، تعهدت «إمارة أفغانستان الإسلامية»، الاسم الرسمي لطالبان،

بعدم السماح بتكرار ما وقع

من انقسام وتناحر بعد الانسحاب السوفييتي، وبأنها ستوحد البلاد تحت رايتها. لكن شروع حكومة غني في تسليح المواطنين أو ما يسمى بقوات «الحشد الوطني» التي تم توزيع الأسلحة عليها بالفعل قد يؤدي إلى إذكاء الانقسامات بين مؤيدي الحكومة، فالميليشيات الجديدة قامت على أسس قبلية ومذهبية وعرقية، كما أن عناصرها موالون للقادة المحليين الذين تتنازعهم خلافات كبيرة، ومن الصعب تخيل أن هذه الميليشيات التي تشكلت توًا من المدنيين يمكن أن تنجح بسهولة فيما فشل فيه الجيش.

الخريطة العرقية

يبدو أن الرئيس غني اختار إحياء تحالف الشمال من جديد، فشمال البلاد كان المعقل التقليدي لعدد من الأقليات العرقية التي تمثل حاضنة شعبية لكبار أمراء الحرب، بينما يقع المعقل التقليدي لطالبان في مناطق الجنوب والشرق ومعظمهم من عرق البشتون، أكبر المجموعات السكانية، والحكام التاريخيين للبلاد.

وتحاول طالبان اليوم السيطرة على الشمال لقطع أي تواصل خارجي مع قوميات الطاجيك والأوزبك والتركمان التي تعيش بمحاذاة الحدود مع جمهوريات طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان. وتجري غالبية المعارك بين القوات الحكومية ومسلحي الحركة في الفترة الحالية في الولايات الشمالية التي تشهد مواجهات دامية.

استطاعت طالبان السيطرة على عدة مناطق هامة مثل ممر شيرخان الواصل مع طاجكيستان، وهو طريق تجاري رئيسي، وكذلك على مقر قوات القائد الأوزبكي عبد الرشيد دوستم، وحافظت على وجودها في منطقة دوشي الإستراتيجية التي يمر بها الطريق الوحيد الذي يربط العاصمة بمناطق الشمال، إذ تعتمد إستراتيجية طالبان على التمدد في المناطق الريفية ومحاصرة المدن الكبرى تدريجيًا تمهيدًا للسيطرة عليها.

وقد بدأت القوى الإقليمية بأخذ هذه التغيرات بعين الاعتبار، فالهند

أعادت حساباتها وبدأت في فتح قنوات اتصال مع طالبان لأول مرة

، وقد سبقتها إلى ذلك بوقت طويل إيران التي دعمت الحركة في حربها ضد الأمريكيين، وروسيا القلقة من الوجود العسكري الأمريكي في جوارها، والصين التي ليس من مصلحتها اشتعال الأوضاع في بلد يتشارك الحدود مع إقليم شينجيانج المضطرب، معقل أقلية الإيجور المسلمة.