في كتابه «

Amusing ourselves to death

» يرى الكاتب «نيل بوستمان» أن إنسان العصر الحديث سيكون أسيرًا للمتعة والترفيه، وأنه على الرغم من خوف البعض من المصير الذي توقعه جورج أورويل في روايته 1984 من سطوة الحكومات والأنظمة التي ستمنع الكتب والثقافة تمامًا، فإن

بوستمان كان يرى أن توقع هيكسلي

في روايته «عالم جديد شجاع» كان الأقرب للصواب.

عالم هيكسلي لا تمنع فيه الكتب لأنه لا أحد يرغب فيها، والكل يقدس المتعة والأخبار السريعة، بوستمان كان يرى أن ثقافة الصورة التي أسسها التلفاز ستقود لهذه النهاية، أن «نسلي أنفسنا حتى الموت».

توقع بوستمان ذلك في 1985 وتوفي في 2003 أي قبل ثورة مواقع التواصل. لم يشهد العصر الحالي أو يشاهد طاهر محمد طاهر من الأصل، لكن يبدو أن الواقع الحالي صار أسوأ من توقعات بوستمان، وأن التسلية والفكاهة صارت هي الأصل، ولم نعش في عالم أورويل ولا هيكسلي، بل عالم الميمز، حيث كل شيء يمكن تعبئته في صورة.

يجيد الفرنسية

كان كأس العالم للأندية هو بداية مشاركة طاهر محمد طاهر مع الأهلي، أحد المواهب المعدودة في الكرة المصرية مؤخرًا. ورغم أنه لم يلعب في البطولة سوى 3 مباريات فقط، لكنه لفت الأنظار بشدة، ليس بسبب مهارته في الملعب أو أهدافه، وإنما لسبب آخر؛ أنه يتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة.

هذا حدث نادر في ملاعب كرة القدم، النمط المعتاد في لاعبي كرة القدم أنهم منخفضو الثقافة ولا يكملون تعليمهم في الغالب، ويستغرق البعض منهم سنوات لأجل إتقان لغة واحدة، ولذلك فإن لغات طاهر الإضافية قد تشكل عاملًا مهمًا في مسيرته، سيتكيف بسهولة مع المدربين الأجانب.

بعد العودة من كأس العالم للأندية وحين بدأت مشاركات طاهر مع الفريق تزداد لم يظهر بالشكل المثالي الذي توقعه الجمهور، ومن دون أي مقدمات انفجرت موجة من السخرية التي نالت اللاعب، لم تكن تخص أداءه أو مهارته بشكل أساسي ولكن تتعلق بطلاقة اللاعب في الفرنسية، وظهرت مجموعة من الميمز المضحكة بالفعل، وربما هنا يمكننا أن نتوقف قليلًا.

لغة العصر الحديث

كانت السخرية دومًا جزءًا أساسيًا من التواصل الإنساني على مدار التاريخ، أداة فاعلة للمهمشين في مواجهة السلطات، وطريقة لتفريغ الكبت والضغوط. مرت أشكال السخرية بعدة مراحل حتى

وصلت إلى شكلها الحالي: الميمز والكوميكس

.

تزايدت مساحة الميمز في محتوى الإنترنت عمومًا ومحتوى كرة القدم خصوصًا. لو لم تكن تعلم فهناك الكثير من الأشخاص الذين

يربحون الملايين من وراء الصفحات الساخرة سنويًا

، وفي المستويات الأقل، فإن الكثير من صفحات الميمز تهدف إلى جني الأموال بطريقة أو بأخرى.

كذلك فإن

الكثير من الشركات

وأندية كرة القدم باتت تستخدم الطريقة ذاتها على منصاتها الرسمية

بهدف التسويق استغلالًا لسرعة انتشار الميمز الفيروسية

، وبلا شك فإن الميمز أصبحت جزءًا أساسيًا وفارقًا في مواقع التواصل الاجتماعي.

لماذا نحب الميمز؟

يبدو السؤال بديهيًا؛ لأنه لا أحد يكره الضحك. مهما كانت حالتك المزاجية فأنت مستعد لتلقي الفكاهة والتفاعل معها، بل إنك قد تبحث عنها في كل حالاتك الشعورية، حين يفوز فريقك ستجد ميمًا يسخر من الفريق المنافس، وحين يخسر ستجد ميمًا يشاركك حزنك، وحين تريد أن تسب لاعبًا، ستجد ميمًا يفعل ذلك نيابة عنك.

إذن لماذا تفكر في كتابة مئات الكلمات لانتقاد لاعب معين مع ما يتبع ذلك من انتقاد لكلامك ورد منك على الانتقاد ونقاشات لا تنتهي من أجل رأيك؟ لماذا تتكبد ذلك العناء ما دامت صورة واحدة تقوم بالأمر؟ أفكار ونقاشات وردود وتعليقات تختزلها في صورة واحدة.

ليس ذلك فقط، فالميم يمتلك ميزة إضافية؛ أنه لا يمكن لأحد أن يختلف معه أو يناقش محتواه أو يقول أنه يتفق معه جزئيًا، الفكاهة هي الفكاهة، لا يمكن الاشتباك معها بجدية، أو تحليل أفكارها وتفصيلها، كما أنه لا يمكن محاكمتها أخلاقيًا، لأن كل شيء وأي شيء يمكن السخرية منه، ومحاولة انتقاد الأفكار التي يحملها ميم لن تجدي، وسيخبرك أحدهم بهدوء أنه مجرد ميم عادي لا يستدعي كل ذلك.

أكبر من مجرد فكاهة

هذه هي مشكلة الميمز الأساسية، أنها تخطت كونها كذلك،

وطبقًا للباحثة «إيملي ريد» المتخصصة في علم النفس

،فإن الميمز أصبحت تؤثر على رؤيتنا للأمور المهمة في الحياة مثل الآراء السياسية والدينية، والمصدر الرئيسي لأفكار ومعتقدات الكثيرين، وكلما كان الميم جيدًا وأعجب به الكثيرون فإن فرصة اقتناعك بمحتواه تكون أكبر.

بعد نصف قرن سينظر المؤرخون في هذه الميمز التي صُنعت خلال أزمة البريكست وحملة ترامب الانتخابية، وسيستخدمونها برهانًا ليستنبطوا رؤيتهم حول تفكير الناس في تلك الفترة الزمنية.






ريتشارد كلاي، أستاذ الحضارات الرقمية


مشكلة استقاء الآراء من الميمز، أن الميمز لا تحكمها قواعد المنطق، وإنما تعتمد على المبالغة والنزوع إلى أقصى الحافتين لإيجاد المفارقة الباعثة على الضحك، لا أحد يصنع ميمًا ليناقش الأمر من جميع جوانبه أو يتبنى الآراء المعتدلة، لأنه لن يضحك أحد. مهما تحدثت عن موضوعات معقدة فإنها تختصرها وتسطحها إلى أبسط شيء ممكن.

لن ننسى عبد الناصر

ربما يدرك الكثيرون تأثير الميمز، لكن الكل يتبرأ من قدرتها على التأثير في أفكاره. نرى أن ذلك «يحدث للآخرين فقط»، وأننا أذكى وأعقل من أن ننخدع بذلك. لكن المؤكد أنه لا أحد يقرر أن يتبنى آراء الميمز طواعية، ولكن التكرار وظهور الميمز المكثف وإعادة تدويرها مرة بعد مرة يجعل الأمر يتسرب إليك تدريجيًا دون أن تدري.

يمكنك أن تسأل أيًا من الشباب الأصغر سنًا عن رأيه في جمال عبد الناصر وانتظر رده، في الغالب سيضحك عدة مرات ثم يخبرك أنه كان رمزًا للهزيمة.

في الغالب أيضًا فإن هذا الشاب لم يقرأ سطرًا واحدًا عن عبد الناصر، ولم يهتم بالبحث عن حياته إطلاقًا، وإنما تشكل وعيه عنه بالكامل من الميمز، وبينما لم يكن أشد أعداء عبد الناصر بإمكانه أن يفعل ذلك، فإن مجموعة من الصور وبرنامج فوتوشوب كانت كافية لتحويل الرجل إلى نكتة ورمز للهزيمة فقط.

لكن ما علاقة عبد الناصر بطاهر محمد طاهر الذي بدأنا معه المقال؟ في الحقيقة لا علاقة، لكن دعنا نكمل.


اقتصاد الانتباه

من المرجح أن يلاحظ الناس الميمات بدلاً من مقالات الرأي الطويلة وآراء الخبراء، لأن مدى انتباههم محدود للغاية.






البيلاروسية «ناستاسيا دينيسوفا»، مؤلفة كتاب

: (internet memes and society:social, cultural and political contexts)

يبدو هذا ظاهرًا بالطبع، قارن مدى حماسك واستعدادك لقراءة مقال طويل من 1000 كلمة، وبين حماسك حين ترى ميمًا يسخر من المنافس بطريقة مميزة. قارن عدد الميمات التي رأيتها عن طاهر وعدد المقالات التي قرأتها تتحدث عن طريقة لعبه ومناسبته لأسلوب الأهلي والمشاكل التي يواجهها، وحينها ستكتشف أين المشكلة.


هل اكتشفتها؟ في الحقيقة لا مشكلة هنا إطلاقًا، وهذه هي طبيعة الإنسان في كل وقت لا إنسان مواقع التواصل فقط، ودائمًا ستكون الفكاهة أقرب إلى الإنسان من الكلام الجاد، والترفيه أسهل من المعرفة.

لكن المشكلة تبدأ حين تتحول السخرية والفكاهة من إحدى الطرق الممكنة للتعبير إلى الطريقة الوحيدة، وحين يصير هم الناس الأول عند أي حدث مهما كان أن تبحث عن أفضل إفيه ممكن، حينها يصير حسم النقاشات بقدرة صاحبها على تعبئتها على هيئة ميم جيد لا بقدرته على تقديم الأدلة والحجج المنطقية.

بنزيما العاهة

إذا كانت الميمز تؤثر على آرائنا السياسية والدينية فإنها بالطبع

ستؤثر على أفكارنا في كرة القدم

بشكل أكبر، باعتبارها لعبة في النهاية، والكثير من الأفكار المنتشرة في كرة القدم انتشرت وتأصلت عبر السخرية والميمز، زيدان محظوظ وجوارديولا فيلسوف يحب شرب المياه وهكذا. وأنت الآن، ما أول ما يخطر على ذهنك لو سألتك عن رأيك في بنزيما أو فاران أو جيرود أو جيسي لينجارد؟

بنزيما ظل محكومًا عليه في الميمز بأنه مهاجم ضعيف يهدر العديد من الفرص وهو لم يكن كذلك. فاران حصرته الميمز في كونه يهدي أهدافًا للخصوم رغم أن المدافع الفرنسي كان من أفضل مدافعي العالم في أغلب فترات مسيرته.

جيرود ورغم أنه ليس مهاجمًا فذًا لكنه لم يكن بالطبع كما صورته الميمز، وجيسي لينجارد الرجل الذي عاش مسيرته كلها كنكتة حتى صار يخشى أن يلعب أي دقيقة مع مانشستر يونايتد حتى لا يعيد الجميع نفس الميمز مرة أخرى.

لا يعني ذلك بالطبع أن هؤلاء كانوا نجومًا أفذاذًا جنت عليهم الميمز، ليس الأمر كذلك، وإنما ما فعلته الميمز أنها تناولت الجانب السيئ لهم فقط، وبما أن الأغلبية لا يشاهدون هؤلاء اللاعبين إلا قليلًا، فلذلك امتلكوا انطباعًا دائمًا عنهم أنهم لا يمتلكون سوى هذا الجانب السيئ.

وعلى العكس فإن بعض اللاعبين يستفيدون من هذه الميمز، تخيل أن حارسًا على سبيل المثال، وعقب كل تصدٍ تخرج عشرات الميمز عن براعته وقدرته، ويشترك في الإعلانات بهيئة رجل خارق قادر على التصدي لأي شيء.

تصل تلك الفكرة لأغلب لاعبي المنافسين، وبدون إرادة اللاعب المنافس فإنه يتسرب إليه إحساس بأن هذا الحارس أبرع مما هو عليه، فإذا واجهه في إحدى المباريات فإنه يحاول أن يبعد الكرة عن يده قدر الإمكان فتضيع أو يرتبك حين يراه.

هذه الهالة يمتلكها حراس عديدون، لا تصنعها الميمز وحدها بالطبع وإنما بتألق الحارس كشرط أساسي في البداية، لكن الكثير من الميمز وعدد أكبر من المشجعين المتحمسين قد يصنع هالة أكبر مما هي عليه.

من عبد الناصر إلى طاهر محمد طاهر

في حالة طاهر فإن الميمز التي خرجت لا تتعدى حتى الآن كونها مجرد ميمز مضحكة قد يضحك عليها طاهر نفسه كثيرًا، لكن تأثيرها على مسيرته قد يكون فارقًا.

مع استمرار طاهر في المستوى المنخفض الذي يقدمه مع الفريق، من المؤكد أن موجة السخرية ستتزايد وكل ميم جيد ينتج ميمًا جيدًا آخر، ومع الوقت قد يتحول اللاعب إلى نكتة بالفعل، نكتة يسهل استدعاؤها في كل مرة يلمس فيها الكرة، ولن يستطيع أن ينفصل عنها مهما حاول.

ربما يدخل عندها في متلازمة

التنبؤات المحققة لذاتها

، يصل اللاعب الكلام الذي يقول إنه لاعب ضعيف، فيدخل المباراة ليثبت أنه ليس كذلك، فيحمل نفسه ضغطًا زائدًا، فيتوتر ويخطئ ويظهر كلاعب ضعيف فيعود الجمهور ليقول إنه ضعيف، وهكذا دواليك في متوالية قد تنتهي به في أحد الأندية التي تصارع على الهبوط.



يحكي «لوك شادويك» أنه

حين تم تصعيده إلى الفريق الأول لليونايتد في عام 1999 وبينما كان في بداية مشواره ويحاول إثبات نفسه، وفي أحد البرامج الحوارية الشهيرة في إنجلترا، قرر «نيك هانكوك» مقدم البرنامج أن يطلق نكتة على شكله ولم يتمالك ضيوفه أنفسهم من الضحك لدقائق ثم انتهى الأمر بالنسبة لهم، لكن بالنسبة لشادويك ظلت هذه النكتة ملازمة له للأبد حتى في دوائره المقربة وأسرته.

يقول شادويك في حواره مع BBC إنه لم تكن ثقته في نفسه كبيرة حينها وإنه ظل طوال مسيرته مرعوبًا من هذا البرنامج خوفًا من أن يذكروه مجددًا، بعد ذلك انتقل شادويك إلى العديد من الأندية الضعيفة وقضى مسيرة متوسطة واتجه الآن للتدريب، لكنه بكل أسف ظل أسيرًا لهذه النكتة.

ولذلك فإن طاهر لو لم يتألق سريعًا ويحاول كسب هذه الميمز في صالحه، فإنه قد يلقى مصير شادويك، أو مصير جمال عبد الناصر، فقط لأن الجمهور قرر أن يسلي نفسه حتى الموت.