«لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنين»،هذا ما وصف به عميد الأدب العربي طه حسين الطاهر الحداد؛ لمنجزه الفكري ودوره الإصلاحي، فكان قلمه متمردًا على العلقيات المنغلقة المحدودة، وكان حلقة ناظمة في الفكر الإصلاحي فقد جمع بين السياسي والاجتماعي، وجمع بين النضال السياسي من مكافحة الاستعمار، والنضال النسوي من خلال كتاباته للدفاع عن حريات وحقوق المرأة، والدفاع عن الطبقات الاجتماعية الفقيرة من العمال.مثلت أفكاره عن المرأة خروجًا عن المألوف في تناول قضية تحرير المرأة، فامتازت كتاباته بالأفكار الجريئة وجدية الطرح، التي انفتح فيها على الشريعة الإسلامية وقام بقراءتها بطريقة منافية لبعض الفتاوى الثابتة، وقارئ كتاباته يتبين له مدى انفتاحه على علم الاجتماع وكيف يقوم بالمزج بين الاجتماع والاقتصاد. فمن هو الطاهر الحداد؟، ومن هي امرأة الحداد التي كفر بسببها؟، ولماذا تم تكفيره؟، وكيف سبق عصره بقرنين من الزمان؟.


الحركة النسوية العربية: كيف بدأت؟

شغلت حرية المرأة العربية مساحة لا بأس بها في مجال التنظير الفكري والأدبي والفلسفي في وقت مبكر، تزامن ذلك مع صعود تيار النسوية الغربية في أعقاب الثورة الصناعية وفي مرحلة الحداثة، فقد توافد العديد من المفكرين العرب إلى أوروبا للتعلم في ظل اهتمام الأنظمة العربية الحاكمة والاحتلال في تغريب الهوية العربية.اتسمت ما يمكن تسميته بالحركة النسوية العربية بأنها حينما تشكلت كانت غير حركية وغير تنظيمية، ولكنها كانت مجرد دعوات مناصرة للحق في الحرية متآثرة في بعض جدلياتها بالحرية الغربية، فيما وقع كثيرون في مأزق التوليف بين المحافظة على القيم الدينية والحرية الغربية، وهو ما دفع إلى صدام ديني فكري فلسفي بين تيارات الإصلاح والتنوير وتيار الإسلام السلفي المتصاعد.بدأت كحركة تنويرية إصلاحية تنظيرية قام بها عدد من المنظرين الرجال، فقد قاد قاسم أمين حركة تحرير المرأة العربية، وتبعه في ذلك العديد من المفكرين العرب من أمثال الطاهر الحداد.لم يكن الحداد هو أول من قاد حركة تحرير المرأة التونسية ولكنه سبقه عدد من المفكرين منهم «أحمد ابن أبي الضياف، وخير الدين باشا التونسي، سالم بوحاجب، الشيخ محمد النخلي»، وبعض منهم من علماء الزيتونة. يلاحظ أيضًا أن قادة تحرير المرأة العربية كانوا على صلة بالتيار الديني ولم يكونوا على قطيعة بهم.


كفاح الحداد، قلم متمرد ومؤلفات مصادرة

عدد من العوامل التاريخية والاجتماعية ساعدت على تشكيل عقلية الحداد المتمردة، بدءًا من سياق التنشئة الأسرية والطبقية التي نشأ فيها، والتي جعلته ملمًّا بكل ما يهم المرأة التونسية وشئونها الأسرية ونظرة المجتمع المحدودة لها، فقد ولد في 1899 في منطقة الحامة التابعة لقابس في الجنوب التونسي، وتلقى تعليمًا تقليديًا شأنه شأن كثيرين من أبناء عصره، فتلقى حفظ القرآن لست سنوات، ثم درس الفقه الإسلامي في جامعة الزيتونة.ثاني تلك العوامل هو عمله الدؤوب وذكاؤه الاجتماعي والذي بدا ظاهرًا في كتاباته الصحفية، فما إن تخرج من جامعة الزيتونة عام 1920 حتى عمل بالصحافة، فمثلت أفكاره المتمردة على الاستعمار والعقول المنغلقة سببًا رئيسيًا لتمدد نشاطه إلى العمل السياسي النضالي، فكان أحد مؤسسي الحزب الدستوري الحر مع الشيخ عبدالعزيز الثعالبي وهو لم يبلغ عامه الحادي والعشرين.السياق الاجتماعي والاقتصادي وبدء الحراك العمالي في المنطقة العربية بشكل عام وتونس، بالإضافة إلى قربه من «محمد علي الحامي» أيضًا جعله يتبنى النضال العمالي من خلال تأسيس جامعة عموم العملة التونسية 1924، وتولى التنظير للحركة العمالية التونسية في كتابه «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية 1927» والذي صادرته سلطات الاستعمار.


امرأة الحداد تكفر صاحبها

لقد تطاول الحداد على شرع الله وسنة نبيه الكريم وأخرج نفسه من الدين والذمة، فهو كافر، ويُمنع الحداد من الزواج بمسلمة ولا يحق له التقدم بطلب كهذا.

هكذا أفضت اللجنة المشكلة من جامع الزيتونة لسحب الهوية الدينية الإسلامية من الطاهر الحداد في أعقاب الصدام الذي وقع بينهما بسبب كتاباته عن حرية المرأة في الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي دفعه للتمرد على بعض القيم الإسلامية التي اعتبرها البعض ثوابت دينية لا يكتمل الدين بدونها، ربما حالة الطاهر ليست الوحيدة التي كفّرت بسبب فكرها أو تمردها الفكري على عدد من القيم الدينية؛ فهناك نصر حامد أبو زيد وفرج فودة.امرأة الحداد الإصلاحي أثارت العديد من الغضب الإسلامي على صاحبها، فبعد أن صدرت فتوى بتكفيره أرغمت الصحف على منع نشر ما أطلق عليه كتابات الحداد السامة، كما واجه العديد من الانتقادات اللاذعة، وخرجت المؤلفات والأدبيات للرد عليه، فصدر كتابان لمشايخ الزيتونة تحت مسمى «الحداد على امرأة الحداد» للشيخ محمد الصالح بن مراد، وكتاب «سيف الحق على من لا يرى الحق» للشيخ عمر البري المدني.


امرأة الحداد بعد أن كفرته؛ من تكون؟

لو نراجع أصل ميولنا في إنكار نهوض المرأة لوجدنا أنه منحصر في أننا لا نعتبرها من عامة وجوه الحياة إلا أنها وعاء لفروجنا غير أننا مهما بالغنا في إنكار ما للمرأة من حق.

هكذا انطلق الحداد المناصر للمرأة من بيان حقيقة وضع المرأة التونسية آنذاك منتقدًا الثقافة المجتمعية السائدة عن المرأة ونهضتها في كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي كفر بسبب آرائه حول ضرورة الإصلاح الاجتماعي للمرأة، وفصل الحداد أفكاره عن المرأة في شقين: الأول من الناحية الشرعية والثاني من الناحية الاجتماعية.

أولا: من الناحية الشرعية، الإسلام لا يقيد حرية المرأة

الحداد انطلق في مواضع عدة في كتابه إلى تشريح تكريم الإسلام للمرأة وحفظ ذاتها، فهو يرى بأن الإسلام لا يميز من حيث جوهر الذات بين الرجل والمرأة وجاء التكليف الإسلامي وخطابه شاملاً، كما أكد على أن الإسلام ضمن لها حقوقًا مدنية مثل الشهادة والقضاء وأهلية التملك والتصرف سواء عن طريق الميراث أو العمل والحق في الحياة، كما أكد على أن تحريم الزنا هو حفظ لكرامة المرأة، مشيرًا إلى أن الإسلام لم يجرم المخالطة بين الرجل والمرأة بل اعتبر الحديث البريء بينهما أحد معاني الحرية.الحياة الأسرية أخذت قسطًا أكبر في كتاب الحداد، فقد ذهب إلى بيان الحقوق الذي منحها الإسلام للمرأة من بدء سن الزواج واختيار الزوج والحقوق الأسرية في التعايش والمعاملة الحسنة وحق الطلاق والرجوع إلى المحاكم الشرعية للحصول على الطلاق في حال رفض الزوج وإقرار التعويض المالي للمطلقة، منتقدًا بذلك الفتاوى التي تبيح للرجل سلطة أعلى من المرأة فيقول «إننا لا نرى للمرأة ضررًا يلحقها في زواج أو طلاق كأنها هيكل بلا روح»

[1]

.

حجاب امرأة الحداد أناني

كلما فكرت في أمر الحجاب لا أرى فيه إلا أنانيتنا المحجبة بالشعور الديني كحصن تعتز له على المخالفين.

امرأة الحداد التي عبر عنها في كتابه لا ترتدي النقاب الكامل بغية التستر من جسدها من أعين الرجال، ولكنها ترتدي حجابًا لا يكشف الصدر والمعصم والساق ولكنه يكشف الوجه والكفين والقدمين، وهو يرى بأن الإسلام سلك في ذلك مسلكًا متوسطًا، فهو لم يعطها حرية تبلغ بها حد التهتك والتبرج ولم يسلبها أيضًا حقوقها الحيوية، مؤكدًا على أن الإسلام حثّ على زينة النساء ولم يمنع حقها في ذلك.الحداد حاول جاهدًا مهاجمة الحجاب ومناصريه من الناحية الاجتماعية، فأكد أن له العديد من الأمراض الاجتماعية تتمثل في أنه تعبير عن أنانية الرجل، كما أن هذا الحجاب دفع كثيرين من الشباب إلى الزواج من الأجنبيات لمعرفتهم بهن، كما أن حجابها منعها من ممارسة حقوقها المدنية والجزئية أمام المحاكم وتدبير ثروتها. كما أدى تحت تأثير عوامل أخرى إلى انتشار اللواط والمساحقة والعادة السرية، كما منعها من حضور الندوات والمحاضرات والذهاب إلى الأماكن العامة، وكذلك منعها من التعلم والقدرة على الاقتصاد المنزلي وإدارة شئون المعاش اليومية، وعدم خروجها من المنزل أثر على صحتها وصحة أطفالها، أما السفور والتبرج في رأي الحداد يعود إلى التأثر بالحضارة الغربية والفقر.

الحداد يرفض تعدد الزوجات

هكذا ذهب الحداد إلى تأكيده على رفض تعدد الزوجات ورأى أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي أتى بها الإسلام عملت على الحد من تعدد الزوجات تدريجيًا، فيشير إلى أن قول النبي أمسك أربعًا وفارق سائرهن، ثم أنزلت الآيات الكريمة «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع…»، وانتهى بعد تحذير من التعدد بواحدة لإقامة العدل.الحداد يفرق أيضًا في كتابه بين ما جاء به الإسلام وما جاء من أجله، فيشير إلى أن ما جاء من أجله هو إقامة العدل والمساواة والمودة والرحمة وسكون النفس وهو ما لا يمكن تجزئته بين أكثر من زوجة؛ ومن ثم فإن الأساس الذي أتت به الآيات الكريمة يدعو إلى رفض تعدد الزوجات.

ثانيا: ثورة على القيم المجتمعية

الحداد تميز عن غيره ممن سبقوه في تناول قضية المرأة بأنه لم يقف عند حد جدلية الحرية في الشريعة الإسلامية، ولكنه حاول جاهدًا الربط بين ما تعانيه المرأة التونسية بما تعيشه من تدنٍّ للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فقد كان مفكرًا اجتماعيًا إصلاحيًا. فيشير إلى أن الثقافة الصناعية والصحية والزوجية والأخلاقية وكذلك الثقافة الأبوية في المنزل من العوامل التي أدت إلى تبوؤ المرأة التونسية مقعدًا هامشيًا في المجتمع الثائر، كذلك يثور على عادات وتقاليد الزواج المكلفة ماديًا، كما أنه ينتقد الزواج السائد بدون استعداد مالي، وينتقد تقليد النساء للأجنبيات مما يكلف المنزل ما لايطيق ماديًا.انتقل أيضًا إلى الدعوة لتعليم الفتيات ودعا ألا يكون تعليمها مقتصرًا على جانب معين أو لغة معينة كما تفعله حكومة الاحتلال، كما أن تعليم الفتيات يجب ألا يقتصر على التعليم الحرفي الصناعي ولكنه يجب أن يكون شاملًا لجميع نواحي العلوم على جميع المستويات بما في ذلك التعليم الجامعي.


أحلام الحداد تحققت

ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام لأنني لم أر للإسلام أثرًا فيه، وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية.

إذ كنت أراها بعيدة في النظر فإني أراها قريبة في اتحاد الألم والشعور والفكر وماثلة في العلم والتضحية في سبيلهما.

هكذا عبّر الشاب الثلاثيني في نهاية كتابه عن آماله وإمكانية تحقيق أحلامه في نهضة المرأة العربية، فهو يدرك أن هذا المجتمع المنغلق لا يمكنه الانفتاح على أفكاره بشكل جذري في وقت قياسي، ولكنه أيقن وآمن في حلها، وعلم بأن الوقت كفيل بمعالجتها، فلم يفقد الأمل في ذلك.القدر واتحاد الألم والشعور الفكري الذي تحدث عنه الحداد قرر مصير أفكاره، فقد تبنتها النخبة الثقافية والسياسية في البلاد، ومثل كتابه منطلقًا للكلمة الحرة، وما إن نالت تونس استقلالها في 1956 وتولى الحبيب بورقيبة الذي رأى فيه الحداد رائدًا لتحرير المرأة رئاسة الجمهورية التونسية حتى كان أول تشريعاته من نفس العام صدور مجلة الأحوال الشخصية التي عبرت بشكل كامل عن آراء الحداد.قراءة كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع تجعلك تقرأ كتابًا ماضويًا يحمل صورة حية للواقع الحالي، فقد نالت المرأة العربية حريتها وتفككت القيود المنغلقة على عقلها وحياتها. بالرغم من أن الحداد لم يتحدث صراحة عن الحقوق السياسية للمرأة لكن ونحن نتحدث عن مرحلة ما بعد النسوية ندرك أهمية التدرج الذي سارت عليه الحركة النسوية العربية، فقد مرت بمرحلة الحقوق والحريات الأساسية، ثم بعد ذلك مرحلة المطالبة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ثم القانونية فالسياسية.


المراجع



  1. الطاهر الحداد.. مفكر إصلاحي خرج عن سلطة التشدد، العرب، 16أغسطس 2013.
  2. عائدة بنكريم، الهم النسوي في الفكر الإصلاحي التونسي، 20 نوفمبر 2011.
  3. عبدالرحمن بسيسو، قاسم آمين والطاهر الحداد مفكران تنويريان في مرايا حقوق المرأة، ، 1 ديسمبر 2015.
  4. الطاهر الحداد، أمرأئتنا في الشريعة والمجتمع،10 ديسمبر 1929.